إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
البعد الفكري في كلمة الأستاذ محمود محمد طه أمام المحكمة (٣)
د. محمد محمد الأمين عبد الرازق
يناير ٢٠١٥
ورد في كتاب "القرآن ومصطفى محمود والفهم العصري" للأستاذ محمود وتحت عنوان (لا إله إلا الله) حوار حول الموت في الجزئية الآتية:
((وأول الدلائل على أن الدكتور مصطفى لم يرح رائحة اليقين قوله من صفحة 240: (لا إله إلا الله إذن لا معبود إلا الله.. ولن يعبد بعضنا بعضا .. ولن يتخذ بعضنا بعضا أربابا ولن نقتتل على شيء وقد أدركنا أنه لا شيء هناك.. ولن يأخذنا الغرور وقد أدركنا أننا خيالات ظل تموج على صفحة الماء ولن نفرح بثراء ولن نحزن لفقر ولن نتردد أمام تضحية.. ولن نجزع أمام مصيبة، فقد أدركنا أن كل هذه حالات عابرة وسوف تلهمنا هذه الحقيقة أن نصبر على أشد الآلام.. فهي آلام زائلة شأنها شأن المسرات.. لن نخاف الموت وكيف يخاف ميت من الموت؟) انتهى حديث الدكتور مصطفى.. وأنت حيث تقرأه يخيل إليك أنه يمكنك تحصيل هذا الإدراك في جلسة واحدة أو في أيام قلائل بعدها تملك الصبر على (أشد الآلام) وما هو هذا الإدراك؟ هو إدراكنا (اننا خيالات ظل تموج على صفحة الماء) وهل نحن حقاً خيالات ظل؟ أم نحن خلائف الله في الأرض؟ (ولن نخاف الموت) يقول الدكتور ثم يردف: (وكيف يخاف ميت من الموت؟) فهل رأيت كيف يرى الدكتور انتصارنا على الخوف من الموت ؟ هو يراه في اليأس من الحياة، وفي اليأس من القدرة على الفرار من الموت.. (وكيف يخاف ميت من الموت؟) والحق غير ذلك فإن انتصارنا على الخوف من الموت إنما يجيء من إطلاعنا على حقيقة الموت، ومن استيقاننا أن الموت في الحقيقة إنما هو ميلاد في حيز جديد تكون فيه حياتنا أكمل وأتم ، وذلك لقربنا من ربنا.. وبالموت تكون فرحتنا، حين نعلم أن به نهاية كربنا وشرنا وألمنا.. قال تعالى عنه: (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) وإنما بالبصر الحديد ترى المشاكل بوضوح ، وتواجه بتصميم.. وعندما اشتدت بالنبي غصة الاحتضار وقالت السيدة فاطمة البتول "وا كرباه لكربك يا أبي" أجابها المعصوم : "لا كرب على أبيك بعد اليوم" وقد سمي الله تبارك وتعالى الموت "اليقين" فقال: "وأعبد ربك حتى يأتيك اليقين" ، "واليقين" أيضاً العلم الذي لا يكاد يكون فيه شك، والذي به تنكشف الحقائق المستورة وراء الظواهر.. وإنما سمي الموت "اليقين" لأن به اليقين، ولأن به يتم اليقين الذي يكون قد بدأ هنا عند العارفين، وإنما يكون بدؤه بالموت المعنوي الذي هو نتيجة العبادة المجودة.. وعن هذا الموت المعنوي قال المعصوم: "موتوا قبل أن تموتوا" وقال عن أبي بكر الصديق: "من سره أن ينظر إلى ميت يمشي في الناس فلينظر إلى أبي بكر" هذا هو اليقين الذي بإطلاعنا عليه لا نتحرر من خوف الموت فحسب، وإنما به قد يكون الموت أحب غائب إلينا..
وما هو الإدراك الذي به توصل الدكتور إلى مثل هذا القول الذي قاله (وكيف يخاف ميت من الموت؟) إنه من غير شك الإدراك الذي تعطيه العقول لحقيقة الموت – الإدراك الذي يعطيه النظر – هو إدراك قاصر ومخيف.. فإن الموت كما يعطيه النظر العقلي هو عند أكثر الناس نهاية، به تتقطع الحياة وتسكن الحركة ويتصلب البدن، ويعود إلى "تحلل" "ونتن" ويستحيل إلى تراب.. ألم يقل الدكتور نفسه في صفحة 237 (أين كل هذا؟ تحت الردم؟.. انتهى .. أصبح تراباً كان حلماً في مخيلة الزمان وغداً نصبح، أنا وأنت تحت الردم) إن هذا هو الموت كما يعطيه نظر العقول غير المرتاضة، ولكن الموت كما تعطيه حقائق القلوب السليمة والعقول الصافية فهو شىء يختلف اختلافا كبيراً ولا عبرة بالعقول غير المرتاضة بأدب القرآن، فإن علمها ليس بعلم لأنه يقف عند الظاهر، ولا يتعداه إلى بواطن الأمور.. وقد قال تعالى في ذلك: (وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون.. يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) وهم لا يعلمون اللباب وإنما يعلمون القشور (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا) ولا يكون بعلم القشور تحرير من الخوف.. هذا هو مبلغ علم الدكتور، وهو به يظن أنه (لن يخاف الموت) ويقول في ما يشبه البداهة (وكيف يخاف ميت من الموت؟) ألا ترى أنك قد هونت صعباً، وأرخصت عزيزاً ؟ إني لأرجو أن تحدث مراجعة لأمرك هذا )) .. انتهى..
في ختام هذه الحلقة، أحب أن أقتطف من آخر حديث للأستاذ قبيل المحاكمة حول دور العارفين في فداء المستضعفين، بأنفسهم من تاريخ السادة المتصوفة..
قال الأستاذ في ختام مؤتمر عيد الاستقلال في يناير 1985م:
(أفتكر مؤتمرنا دا لابد أن يؤرخ تحول عملي فى موقف الجمهوريين.. زي ماقلنا قبل كدا: الناس سمعوا مننا كثير، الكلمة المقروءة المكتوبة.. نحن عشنا زمن كثير فى مجالات عاطفية، الإنشاد، والقرآن، والألحان الطيبة، وجاء الوقت لتجسيد معارفنا، وأن نضع أنفسنا فى المحك ونسمو فى مدارج العبودية سمو جديد!!
الصوفية سلفنا ونحن خلفهم.. كانوا بيفدوا الناس، الوباء يقع يأخذ الشيخ الكبير، الصوفى الكبير وينتهى الوباء.. دى صورة غيركم ما يعقلها، كثيرة هي..
الجدرى فى قرية التبيب تذكروها؟ كان فى كرنتينه فى القرية لا خروج ولا دخول.. الشيخ الرفيع ود الشيخ البشير أخو الشيخ السمانى مات بالجدرى فى القرية ..
شيخ مصطفى خال خديجه بت الشريف، هو صديقنا وبزورنا كثير قال: حصلت وفاة ومشيت أعزى.. مر علىّ الشيخ الرفيع، (أخو الشيخ السماني، شيخ المقاديم الهسع بيعطروا ليكم حلقات الذكر ديل).. قال لى بمشى معاك..
قال: مشينا سوا إيدو فى إيدى كان فيها سخانة شديدة.. وصلنا محل الفاتحة واحد قال ليهو يا الشيخ!! المرض دا ما كمَّل الناس؟؟
الشيخ الرفيع قال: المرض بنتهى، لكن بشيل ليهو زولاً طيب.. قمنا من المجلس وصلنا البيت والسخانة كانت الجدرى!! ومات الشيخ الرفيع ووقف الجدرى..
السيد الحسن أيضا مات بوباء وانتهى الوباء..
وفى سنة 1915م الشيخ طه مات فى رفاعة بالسحائى، وكان مستطير بصورة كبيرة وما عندو علاج وما كان بينجى منو زول، الما يموت يتركو بى عاهة.. مات الشيخ طه والمرض انتهى..
الحكاية دى عند الصوفية مطَّردة ومتواترة، العلمانيين تصعب عليهم ..
انتو هسع لابد تفدوا الشعب السودانى من الذل والمهانة الواقعة عليهو والجلد..
واحد من الأخوان لاحظ وقال: القيمة من المسيرة أن تشاهدوا الجلد الواقع.. واحدة من الأخوات قالت: العسكرى شاب والمجلود شيخ كبير والقاضى واقف يستمتع.. وهى مسالة أحقاد وضغائن ونفوس ملتوية تتولى أمور الناس!!
قد تجلدوا.. ما تنتظروا تسيروا فى المسيرة وتحصل معجزة تنجيكم.. هى بتحصل لكن ما تنتظروها.. خلوا الله يجربكم ما تجربوا الله..
تعملوا الواجب العليكم، تنجلدوا ترضوا بالمهانة.. ومن هنا المحك البيهو بتكونوا قادة للشعب العملاق.. ويكون فى ذهنكم قول الله تعالى : (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) وآية ثانية: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه: متى نصر الله؟ ألا أن نصر الله قريب..)
ما أحب أن تصابوا بخيبة أمل من العقبات البتلاقيكم فى الطريق!!
ويكون مؤكد، الأمر النحن بنواجهو محتاجين ليهو فى الداخل.. كل أمر يساق ليكم يقويكم وهو عناية من الله ولطف.. ولكن الناس يسوقوا أمرهم بالجد، وكل واحد يدخل فى مصالحة ورضا بالله.. تواجهوا أمركم لتفدوا شعبكم وبعضكم بعض لترتقوا درجات فى واجبكم وعبادتكم.. أمركم قريب ومعنيين بيهو.. انتو محفوظين..
لكن ماتفتكروا الطريق مفروش أمامكم بالورود!!
استعدوا فى قيامكم بالواجب المباشر تكونوا دائمى النعمة وموضع نظر الله وعنايتو.. ثقوا بيهو.. إن شاء الله أمركم قريب والله ادخركم للأمر دا..
وانتو اليوم الغرباء بصورة كبيرة، كل المجتمع السودانى فى كفة والجمهوريين فى كفة!!
الجمهوريين مطلوبين، الناس الطالبنكم فداية ليكم، وظلماتكم نور.. أنتم موضع عناية، تقبلوا العناية، وسيروا راضيين بالله، بالصورة دى يكون ختام مؤتمرنا).. انتهى..