أنا طيلة عملي في السجون .. كنت ألاحظ أن المحكومين يخافون.. ولكني أمام هذه الحالة، رأيت عجباً .. لم يجزع الرجل، أو يخاف مطلقاً، كان داخل الزنزانة، يمارس حياته بشكل عادي، ويختلط بالمعتقلين الآخرين من الجمهوريين.
لقد أحضروه .. وقد رأيته وهو في طريقه للمشنقة، كان ثابتا بشكل غير عادي .. لم يرتجف.. ثابتا، كأنه ذاهب إلى نزهة !!.. لم أحسّ بأنه خائف ولا حتى متردد.. لقد صعد للمشنقة بثبات عبر المصطبة المعدة لذلك .. ! لقد كان ثابتا 100%.. .
أنه إنسان جاد جداً.. . ويحرص على النظام.. . إلا أن ملامح "ود البلد" بائنة في شخصيته وطريقته.. يبذل مجهوداً كبيراً ليتحدث معك بالحجة والمنطق.. . ولكنه مستمع جيد جداً.. . وما لفت نظري أنه "غير ثرثار".. . إذ يهتم بالتركيز في الكلام وقول القليل.. . هذا الرجل كان مختلفا..
مدرسة قائمة بذاتها.. . قائد فذ.. . ومتدين.. . يحيطه تهذيب غير عادي.. . تخرج منه بانطباع ممتاز جداً حول أنه شخصية تتمتع بكل صفات السوداني.. . لا تحس بأنه يكذب.. . بل على العكس، تحس بأنه صادق بالفطرة.. . بل ويتحرى الصدق في كل ما يقول.. . به ومنه تواضع حقيقي، دونما تمثيل أو تصنع.. باختصار، كان الرجل بلغة السودانيين "شيخ عرب" في كل شيء.. يجمع بين الصرامة والبساطة والتواضع.. . والعلم الغزير. وأبرز ما لفت نظري أنه صلب للغاية. وشديد التمسك بقناعاته ومعتقداته..
يطلب السجان من الاستاذ محمود ان يستدير يمينا .. ويستدير الاستاذ ويواجهنا تماما .. يتم كشف الغطاء عن وجه الاستاذ .. يبتسم الاستاذ، وهو يواجه القضاة الذين حكموا باعدامه، بابتسامه صافيه وعريضه وغير مصنوعه .. وجهه يشع طمأنينة لم أرها فى وجه من قبل …قسماته مسترخيه وكانه نائم …كان يشوبه هدوء غريب …غريب .. ليس فيه ذرة اضطراب وكأن الذى سوف يعدم بعد ثوانى ليس هو … والتفت الى الجالسين جواري لاري الاضطراب يسودهم جميعا .. فؤاد يتزحزح فى كرسيه وكاد يقع .. عوض الجيد يكتب حرف نون على قلبه عدة مرات .. والنيل يحتمى بمسبحته فى ربكه (النيل تعرض لاتهام بالرده فى عهد الانقاذ وتاب) كان الخوف والرعب قد لفهم جميعا والاستاذ مقيد لاحول له ولاقوه …ولكنه الظلم جعلهم يرتجفون وجعل المظلوم الذى سيعدم بعد لحظات يبتسم !!
ثم جاءوا بالشيخ مكبلا ومغطى الرأس حتى العنق.. .. كان يمشي بثبات وبطولة.. . لم، وأعتقد لن، أرى خطوة ثابتة وقوية مثل تلك الخطوات التي كانت تتجه، مدركة، إلى السكون الأبدي.. . كانت الخطوات تكتب على أرض ساحة الإعدام: نعم، أشهد أني أنقله من الشيخ القوي إلى الشيخ الشهيد.. .لكنه الشيخ الثابت على المبدأ.. . الشيخ المنتصر.. . الشيخ الملهم.. .. ..
تعالت صيحات الهيستريا والهوس المجنون.. .وتضاعفت.. .كانوا كثر.. .أتوا ليروا هزيمتهم.. .ولكن هل يروا؟ كان الجلاد حزينا وهو يلف حبل المشنقة حول عنق الشهيد.. .. بعد تلك اللحظة تخلى عن "مهنته" إلى الأبد!. وفجأة أمر القاضي بكشف الغطاء عن وجه الشهيد.. . وكشف عن وجه الشهيد.. .. يا للروعة ويا للعظمة.. .كان مبتسما وهادئا وساخرا.. . ما أجمل ذلك.. شجاعة وصمود وبسالة وإيمان.. .وإزدراء للموت.. .لم، وأعتقد لن، أرى مثل ذلك قط.. ! ومع كشف وجه الشيخ أخرست كل عواءات الهوس.. .وأطبق صمت رهيب.. رهيب إلا من أصوات إرتجافاتهم.. .والشيخ ينظر إليهم في إبتسامة خالدة.. .إبتسامة تجهيل ورثاء.. ! ما أقوى أن ترد الحقد بالرثاء حتى وهو يقتلك!!