إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الاستاذ محمود في الذكرى الثلاثين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (٢)

خالد الحاج عبد المحمود


يناير ٢٠١٥

الإسلام كنظرية نقدية:


لقد عرضنا في المدخل، مفهوم النظرية النقدية وبعض مدارسها في الغرب، دون التعرض لتقويمها.. وكان غرضنا، من ذلك، إعطاء تصور عام لمفهوم النظرية النقدية في الغرب، والإشارة للأسس العقلانية التي تقوم عليها الحضارة الغربية، التي تمثل الواقع الحضاري السائد، كما أنها هي موضوعنا الأساسي، في الدراسة التي سنجريها حول مقارنة الإسلام بالفلسفات والأديان والأفكار الأخرى.
إن نقطة الانطلاق، والقضية الأساسية، بالنسبة لأي نظرية نقدية، هي الأساس الذي تقوم عليه.. وهذا الأساس لابد من أن يقوم على تصور مبدئي للكون، وللطبيعة البشرية.. وعلى هذا التصور تنبني النظرة الأساسية، لطبائع الأشياء، ومنها: طبيعة العقل نفسه، الذي هو وسيلة النقد والتقويم الأساسية.. فصحة النظرية النقدية، تتوقف على صحة الأساس - الأنطولوجي والمعرفي - الذي تقوم عليه.. وهذا يقتضي أن نعطي تصور الإسلام، كم نراه في هذين المجالين بصورة موجزة.
الأساس الذي يقوم عليه التصور الإسلامي، في جميع المجالات، هو (التوحيد)، وهذا الأساس هو الذي يميزه، عن جميع الأديان، والفلسفات، والأفكار الأخرى كم سنرى.. والتوحيد، يتعلق بتصور طبيعة الكون، وقانونه، وغايته، وبطبيعة النفس البشرية، وطبيعة العقل.. كما يتعلق بالحياة وغايتها وضوابط السلوك فيها.. فالتوحيد يرد جميع الأمور الى أصل واحد.. ونحن لما كنا، هنا، معنيين، بالجانب المتعلق بالنظرية النقدية، فقط، فسنشير، فقط، الى قضايا التوحيد المتعلقة بهذا الجانب، ولكن الجوانب الأخرى، ستضح من خلال المقارنات التي سنجريها.. ومن أهم قضايا التوحيد التي تعنينا هنا، قضية وحدة الفاعل، فعليها يقوم إطار التوجيه، ونموذج الإرشاد الذي عليه يقوم تقويمنا، ونقدنا للأفكار، وللواقع.. كما عليها أيضا، يقوم منهج السلوك، الذي بالعمل وفقه، يستطيع العقل ترويض نفسه، بالصورة التي تعطيه المقدرة على التمييز بين قيم الأشياء..

القرآن ووحدة الفاعل:


إذا نظرنا للفلسفة الماركسية، مثلا، نجد أنها في نظرتها النقدية، تعتمد اعتمادا كليا، على المادية الديالكتيكية، وتطبيقها على المجتمع، في: التطور المادي للتاريخ.. وهذا بالنسبة لها، يشكل الأساس، الذي عليه تنبني ايجابياتها، وسلبياتها.. ولا يكون هنالك اختلاف بين الماركسيين، فيما بينهم، إلا في فهم هذا الأساس، والمقدرة على استخدامه، في تقويم القضايا المختلفة.. وصحة الماركسية، وخطئها، بصورة عامة تتوقفان على صحة أو خطأ هذا الأساس الذي يشكل المرجع لها.. أما بالنسبة للإسلام فالقرآن هو الأساس والإطار المرجعي الشامل.. والقرآن كله يقوم على مبدأ (التوحيد) .. وقاعدة التوحيد، في التصور النظري، وفي الجانب السلوكي التطبيقي، هي (وحدة الفاعل)، وهي تعني: لا فاعل لكبير الأشياء ولا لصغيرها إلا الله.. وهذا هو معنى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله).. وحول كلمة التوحيد هذه يدور القرآن كله.. وعلى ترسيخها في الفكر، وفي الحياة، يقوم السلوك الديني عند الأفراد.. ومستويات التوحيد الأخرى تتبع.
القرآن كلام الله - هذا لا خلاف حوله بين جميع المسلمين - لكن الاختلاف بين المسلمين، حول دلالاته، واسع جدا.. وكل الاختلاف في هذا المجال، هو اختلاف في مفهوم التوحيد، وفي تحقيق التوحيد.. الله تعالى، في ذاته، لا يتكلم بجارحة، ولا يتكلم بلغة، عن ذلك تعالى الله علوا كبيرا.. وإنما كلامه، في الحقيقة خلق.. فالأكوان جميعها، مخلوقة له تعالى، فهي كلماته.. والكون جميعه، هو كتابه.. أما القرآن، بين دفتي المصحف، فهو صورة لفظية وصوتية وعلمية، لكلام الله.. وهو قد جعل في هذه الصورة، ليتيسر الفهم لنا نحن البشر، الذين نفهم عن طريق العقول، والتي هي بدورها تفهم عن طريق اللغة.. ففي ذلك يقول تعالى: (إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون * وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم).. فالأكوان هي تنزل الله لمنطقة الفعل - هي تجسيد إرادة الله - هي قدرته.. والإرادة والقدرة متنزلتان عن العلم، ولذلك يمكن القول أن الأكوان هي علم الله متجسدا.. وهذه الحقيقة التوحيدية، هي جوهر علاقة الفكر بالواقع!! وقد عبر الأستاذ محمود عن هذه الحقيقة بقوله: "من مادة الفكر صنع العالم".. "فالعالم هو تجسيد علم الله - هو تجسيد فكر العقل الكلي، المحيط، والمطلق، في ذلك - وإنه لحق أن العالم قد صنع من مادة الفكر، ومن أجل ذلك جاءت كرامة الفكر.. ولم يجعل الله هاديا في شعاب ظلمات العالم غير نور العقل القوي الفكر.. وإنما من أجل تقوية الفكر أرسل الله الرسل، وأنزل القرآن، وشرع الشرائع.. قال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر، لتبين للناس ما نزل إليهم، ولعلهم يتفكرون).. فكأن العقل، إذا روض، وأدب بأدب الشريعة، وأدب الحقيقة، (أدب الوقت) أصبح شديد القوى، دقيق الفكر، نافذه.. ".. فالأكوان، وأحداثها، في جميع أحوالها، وفي صيرورتها السرمدية، هي كلام الله الخلقي.. والقرآن بين دفتي المصحف هو قصة هذه الأكوان مصبوبة في قوالب اللغة العربية، لعلّة أن نعقل عن الله (لعلكم تعقلون)، كلامه في الأكوان - القرآن الخلقي - وفي القرآن بين دفتي المصحف.. وسبيلنا الى ذلك أن نتخلق بالقرآن.. وسبيلنا إلى التخلق بالقرآن هو تقليد المعصوم عليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم، والذي (كانت أخلاقه القرآن) .. بذلك أصبح عندنا، ثلاثة صور للقرآن: الصورة الأولى، الطبيعة وأحداثها - القرآن الخلقي - والصورة الثانية، القرآن بين دفتي المصحف - القرآن اللفظي - والصورة الثالثة، القرآن مجسدا في اللحم والدم، عند المعصوم - القرآن كحياة - ولذلك قلنا أن حياة محمد صلى الله عليه وسلم، هي مفتاح القرآن.. القرآن بين دفتي المصحف هو جماع التجربة الدينية وخلاصتها النهائية، ولذلك به ختمت النبوة.
وما يعنينا هنا، ونحن نتحدث عن النظرية النقدية في الإسلام، هو أن القرآن هو الأساس المتين الذي تقوم عليه هذه النظرية، سواء في نقد الفكر، أو نقد الواقع - وكلاهما فكر!! فالقرآن هو الميزان الذي وفقه يتم التمييز الدقيق بين قيم الأشياء.. يقول تعالى، في ذلك: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق، مصدقا، لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه..).. فالقرآن مهيمن، على كتاب الأكوان وأحداثها جميعها، لأنه صورة لها.. وأحداث الأكوان هذه تشمل جميع الكتب، التي خطها، أو يمكن أن يخطها بشر!! فهي لا تخرج عن القرآن الخلقي، أو بمعنى آخر لا تخرج عن فعل الله، الذي لا فاعل في الوجود غيره تعالى.
وهذا يقودنا إلى موضوع وحدة الفاعل - وقد جعلنا عنواننا الجانبي القرآن ووحدة الفاعل - قلنا في بداية حديثنا، هذا، إن وحدة الفاعل هي أهم قضايا التوحيد التي تعنينا هنا، لأن عليها يقوم إطار التوجيه، ونموذج الإرشاد، الذي عليه يقوم تقويمنا، ونقدنا، للأفكار وللواقع.. وكلمة التوحيد في الإسلام هي: "لا إله إلا الله" وهي تعني أن الله هو الإله.. والإله تنزل الله الى مرتبة الفعل، ولذلك هي تعني: لا فاعل لكبير الأشياء ، ولا لصغيرها إلا الله.. فكلما يدخل في الوجود هو فعل الله.. فالله تعالى هو وحده الموجود بذاته، وكل من عداه، وما عداه موجود به تعالى - قيوميته بالله، لا بذاته - وهذا يعني أن الحقيقة واحدة هي الذات الإلهية المطلقة، وكل ما في الوجود هو مظهر لها، وتعبير عنه.. فالمعنى، الجامع والشامل، لكل الوجود، هو الله.. فكلمة معنى، تعني ما يشير إليه الشيء، ويدل عليه.. فكل شيء في الوجود، يشير الى الله، ويدل عليه، وهذا هو تسبيحه (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم).. فالقضية الأساسية في المعرفة في الإسلام، هي: الحقيقة من حيث الوجود واحدة!! ومن هذه الحقيقة يتبع ، أن الفاعل الحقيقي في الوجود واحد.. وأمر وحدة الفاعل هذه، هو أمر الإسلام كله!! فالإسلام، يعني الاستسلام لله.. فالوجود في الحقيقة، كله مسلم لله، خاضع لإرادته، كان ولا يزال، ولن ينفك، يقول تعالى، مثلا: (أفغير دين الله يبغون، وله أسلم من في السموات والأرض، طوعا، وكرها، واليه يرجعون).. ولكن الوجود دون مستوى الإنسان غير واع بهذا الإسلام، فهو مسلم كرها.. وبدخول الإنسان، ودخول العقل، في المسرح أحدث مسألة أساسية هي ظهور الإرادة البشرية.. وأصبح الإنسان يتوهم أنه صاحب إرادة مستقلة، بالترك وبالعمل.. وأصبحت هنالك إرادتان: الإرادة الإلهية المحققة، والإرادة البشرية، المتوهمة.. وقد جاء الإسلام الخاص - إسلام العقول - من لدن آدم، والى محمد عليهم جميعا أفضل الصلاة، وأتم التسليم، كخطاب للعقل، ليسوقه عن رضا وقناعة، ليسلم إرادته المتوهمة، للمريد الواحد، فتصبح بذلك ، إرادة حقيقية، لتطابقها مع الإرادة الحقيقية.. فبظهور العقل، بدأ تصور التعدد، والثنائية، التي بدأت ببروز الخلق.. وأصبحت هنالك الحقيقة كما هي في الواقع، والحقيقة كما يتصورها العقل، ومن هنا جاء مصطلح الحقيقة والشريعة، الذي سبق أن تحدثنا عنه..
فالمسلم، عندما يتعامل، مع أي شيء في الوجود، لا يتعامل مع شيء خارج الإسلام، بمعناه العام أو بمعناه الخاص، وهذا من وجوه معنى أن القرآن مهيمن على كل كتاب - على كل شيء!!
فالقرآن كله، يدور حول (لا اله إلا الله) فهي (خير) ما في القرآن، وتسوق الى (أعظم) ما في القرآن - الله - وهي الميزان الذي جاء به القرآن، وعليه يقوم أساس النقد في الإسلام، والى ذلك الإشارة بقوله تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان، ليقوم الناس بالقسط)، فالميزان هنا، هو ميزان (التوحيد)، الذي شعاره (لا اله إلا الله)، وقد جاء بها جميع الرسل، قال المعصوم: "خير ما جئت به أنا والنبيون من قبلي (لا اله إلا الله)".