إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
صحيفة الأيام البحرينية
العدد ٩٣٤٨ الخميس ١٣ نوفمبر ٢٠١٤ الموافق ٢٠ محرم ١٤٣٦
في تشرين الثاني عام 1968 حكم القضاء السوداني على محمود محمد طه غيابيا بالردة عن الاسلام، لم يكن في مضامين قرار المحكمة حينها القتل، رغم ان المرتد في الاسلام يقتل، لكن المحكمة اقرت الردة ومعها عدة احكام؛ منها مصادرة كتب وتطليق زوجته منه ومنعه من مزاولة اي نشاط فكري متصل بالإسلام، ومطالبته بالتوبة.
الا أن المتغيرات السياسية السودانية العديدة لم تسمح لمن يقف وراء الحكم تنفيذه في ذلك الحين، الا انه لم يفلت، صدر حكم آخر بإعدامه بعد 17 سنة بالتهمة نفسها، نفذ الحكم بعد ايام من صدوره مطلع عام 1985. وخلال عشر سنوات لحقن اعدام محمود طه شهدت استهداف العديد من الاسماء الفكرية النقدية في العالم الاسلامي، اغتيال مهدي عامل وحسين مروة، محاولة اغتيال نجيب محفوظ، اغتيال فرج فودة، الحكم بفصل نصر حامد ابو زيد عن زوجته...
تلك ثمرة نكسة حزيران وانهيار مشروع الدولة القومية، قيام ولاية الفقيه، صعود الاخوان المسلمين في مصر، انتقال المقاومة الفلسطينية من وطنية الى دينية، وجاءت بالتزامن مع تحولات جوهرية بلغت أوجها بموت المشروع القومي العربي رسميا بعد احتلال صدام الكويت واصطفاف بلدان عربية مع الغرب لإخراجه منها... مع هذه الفترة ارتفع منسوب التطرف الديني، وبات واضحا ان قوى الاسلام السياسي القوة الرئيسية في مواجهة النظام العربي الرسمي، خصوصا وان الخصم المهم الاخر والمتمثل بالشيوعية خبا منذ الثمانينات ليتجه الى مؤخرة القائمة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي. ولم يكن هناك قوى غير شيوعية قوية، الموجود هم مثقفون بعضهم ليس يساريا، وبعضهم يساري سابق، واخرون كان يمكن ان يغادروا الماركسية بصفتها الايديولوجية، ليتبنوا منهجية اخرى في اطار تحولات باتّة.
استهداف هؤلاء سببه أنهم حينئذ، القوة الرئيسية، هم علاوة على كون اغلبهم خصوما للنظام العربي يمثلون وجودا لا يستهان به ضد صعود البديل الاسلامي، فلا أحزاب مهمة، بل هذه الشريحة الممثلة لسؤال العلمانية والدين في مجتمعات المشرق العربي. المشروع الديني لم يكن معنيا بمواجهة السلطة قدر ما تصنعه هذه الشريحة من عقبات امام الطموحات الدينية.
ففي الوقت الذي كان مفترضا بالإسلام السياسي ان يوجه خصومته مع السلطة، بقي مشغولا بترتيبات ابعد، استهداف رموز ترسم طريقها لتشكل المرجعيات الفكرية اللازمة للبديل عن السلطة وخطابها الفارغ. فالنظام العربي آخذ بالتفكك، ولم يكن بمقدوره الصمود طويلا في ظل التحولات، خصوصا بعد ان انهارت الدولة القومية الى الابد، ولم يكن في جعبة أي من النظم التي تنتمي لتلك الدولة تأسيس بديل، بل محاولات فوضوية تعتمد الفردانية والارتجال، وتعتمد مصالح فئة حاكمة متكئة على طبقة من رؤوس الاموال.
المحاولة الرئيسية تكمن في جهود هذه الشريحة من المفكرين والكتاب، سواء اولئك المشتغلين بالعمل الحزبي كمحمود محمد طه ومهدي عامل او الذين يكتفون بالتأسيس الفكري كنصر وفودة والى حد ما مروّة وهادي العلوي... وهو ذاته ينطبق على مثقفين آخرين كانوا افضل حالا من حيث خلاصهم من الملاحقات والاستهداف، وهم في الغالب من مثقفي المغرب العربي، كمحمد اركون وهشام جعيط وعبد السلام بنعبد العالي وسعيد بن سعيد ومحمد عابد الجابري... رغم ان الاخير يصنف احيانا بانه يتماهى مع المشروع القومي العربي التقليدي بثوب جديد. لقد كان المطلوب كسر اي فرصة لتشكيل مرجعية فكرية بديلة في هذه المجتمعات، بعد فشل كل من المشروع القومي والشيوعي، وتلك الفرصة كانت يمكن ان تحقق مشروعا يكمن في مراجعات جادة للتراث وسؤال عميق حول العلاقة مع الدين، وهو ما يؤرق الاسلام السياسي، لأنه باحث عن بقاء الدين وفق قراءته او وفق القراءات التقليدية، مرجعية حصرية للمجتمع عندما يتحرر من السلطة القائمة.
ان الاستهداف بالتكفير او القتل او اي شكل اخر من اشكال الاقصاء دينيا، في مجتمع يقدس الاسلام وينتمي اليه كهوية غير قابلة للجدل، هو عملية تأخير لتشكيل مرجعية فكرية تُحدثها هذه الاسماء... وقد حصل ذلك في المشرق العربي حتى الان، فالفشل في أي مشروع سياسي غير ديني سيعيد الناس الى الاسلام السياسي، خصوصا في هذا المشرق. والذي حصل مؤخرا، ان القوى الدينية خرجت الى العلن، واجهت الواقع، تورطت في السلطة، فشلت، ولأن البدائل غير موجودة سوى «الحرس القديم» والافكار المهترئة السابقة، بدأ الناس يعودون اليها بشكل واخر، وهذا ربح للاسلاميين، باعتبار ان العودة لتلك الافكار فشل، ما يجعلهم خيارا وبديلا وحيدا متاحا.
بالاتفاق مع إيلاف
صحيفة الأيام البحرينية
العدد 9348 الخميس 13 نوفمبر 2014 الموافق 20 محرم 1436