إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

واسماعيل ... !!

د. بتول مختار محمد طه


اطلعت فى صحيفة الصحافة فى عددها رقم 7407 الصادر بتاريخ 23 /3 / 2014م على حوار مع الدكتور اسماعيل حاج موسى اجرته معه الأستاذة ماجدة عدلان . سألته عددا من الاسئلة ، ما يهمنى هنا السؤال الآتى :
" هل شاركت فى قرارات كبرى فى مايو ، وماهو رأيك فى مسائل مثل ترحيل الفلاشا .. قتل محمود محمد طه .. ومطاردة الشيوعيين ، بالأضافة الى مذبحة قصر الضيافة وتداعياتها ؟ ".
اجابته على الجزء الذى يخص محمود محمد طه كانت كما يلى :
* " قتل محمود محمد طه كالآتى :
اولا الطلاب الجمهوريون كانوا يدافعون عن مايو فى المنــــــابر الطلابية ، ولكن بعد ذلك بدأت شطحاتهم الفكرية وما اليها من اعتقادات ، كل الناس كانوا يرونها كنوع من الزندقـة ، وهى جريمة الردة وفى القوانين كانت العقوبة الاعـدام ، وعندما كانوا يقولون بضرورة ازالة آثار مايو كنا نقول لهم ان مايو آثارها فى كنانة وفى الرهد وفى عسلاية وفى شارع الخرطوم مدنى وفى قاعة الصداقة .... واخذ يعدد انجازات مايو المادية " .
الملاحظ ان هذا السؤال بالتحديد كان منحصرا فى مخازى مايو التى شارك د. اسماعيل فى صناعتها .
* اما اجابته فى ما يخص اغتيال الأستاذ محمود محمد طه ، ومنابر الجمهوريين ..
فالحديث فى المنابر والتوعية لم يكن منحة من مايو للجمهوريين ، فله خلفية كبيرة وممتدة الزم بها الأستاذ محمود نفسه وتلاميذه ، هو حق انتزعه منذ ان نهض لمعارضة الاستعمار ، همه الأكبر كما قال :
" غايتان شريفتان وقفنا نحن الجمهوريين حياتنا حرصا عليهما ، وصونا لهما ، وهما الاسلام والسودان .. ".
ولذلك عمله هو والجمهوريون كان لتوعية الشعب السودانى ضد الطائفية وضد المتسلقين والانتهازيين الذين يسرقون اقوات الشعب ويتهافتون للعمل فى ظل كل حكومة . فقال مقولته المشهورة " الشعب السودانى شعب عملاق يتقدمه اقزام "..
ظلت تلك حقيقة لحقت بكل متسلق للسلطة فى كل عهد مثل د. اسماعيل حاج موسى ..
ظلت التوعية هم الأستاذ محمود الأكبر فى كل العهود ، لم يبال بكل الدكتاتوريات التى مرت على البلاد ، ففى عهد الاستعمار تعرض للأستجوابات والسجن الطويل صمودا على المبدأ حتى خرج الأستعمار .. راجع كتاب " محمود الانسان " ، وفى العهود الوطنية تعرض لنفس الضغوط ، ففى حكم عبود تآمر عليه السلفيون مع السلطة ،اوقفت محاضراته فى الأندية العامة ، و منعت الصحف من نشر مقالاته ، فحول عمله فى التوعية الى منزله ومنازل الجمهوريين وهكذا ظل يتنقل من اسلوب سلمى الى اسلوب سلمى آخر ..
وفى عهد مايو لم يؤيد الجمهوريون نظام مايو تأييدا ايجابيا لأنه نظام دكتاتورى والفكر الجمهورى ضد الدكتاتوريات ، ولكن مايو جاءت فى وقت والبلاد تتعرض لخطر الطائفية فساندها لأنها ابعدت خطر الطائفية واصدرنا الكتب لتوضيح ذلك الموقف .
فى السبعينات طلب نميرى كتابة لأثنين من الجمهوريين لينضموا لمجلس شعبه ، رفض ذلك الطلب ، وتم الأعتذار ، وكان رأى الأستاذ " اننا اصحاب دعوة متكاملة الحلول لمشاكل الناس .. ولا نحب أن ندخل مع مجموعة تسقط اقتراحاتنا بالأغلبية الميكانيكية ".
وعندما دخلت مايو معسكر الأخوان المسلمين وخرجت من الخط الذى ايدناها بسببه عارضناها .. هذا هو الموقف من مايو .
ولو كنا طلاب سلطة لقبلنا طلب نميرى وأصبحنا وزراء فى مايو مثل د. اسماعيل .
و حتى مايو لم تكن راضية عن نشاط الجمهوريين لأنها تعلم انهم اصحاب رأى فكرى مستقل ، اكتسبوه بالنضال الطويل .. فقد اعتقلت مايو الأستاذ فى عام 1976م لمدة شهر كامل بدون محاكمة بسبب كتابه " اسمهم الوهابية وليس اسمهم انصار السنة " وذلك بايعاز من السعودية . واسماعيل الحاج موسى وزيرا فى مايو وهو سند نميرى الفعلى لم ينصحه ، ولم يسأله عن ذلك الأعتقال المخالف للقانون .. ولم يحرك ساكنا للتدخل الأجنبى الذى انتهكت فيه حرمة الوطن والمواطنين داخل ارضهم .
* اما الحديث عن الردة فالعجب ..
لم يكن اسماعيل حاج موسى رجل دين فى يوم من الأيام ، بل كان سياسيا انتهازيا ، وقياديا فى الجبهة الأشتراكية ذات التوجهات اليسارية ..
وعندما لحق بركب الأخوان المسلمين والسلفيين ، لحق بمؤخرة الركب .. و فاق عليهم فى السلفية " ارضاءا للسلطان " .. يستعمل كلمات مثل " الزندقــة " وغيرها ، وهى عبارات ليست من لغة العصر و لا يستعملها المثقفون ..
قال : " .. هى جريمة الردة ، وفى القوانين كانت العقوبة الاعدام ".
اولا : عندما تمت جريمة اغتيال الأستاذ لم يكن فى دستور السودان ولا فى قوانينه ما يسمى بالردة . بل كانت مكيدة اضيفت لأوراق القضية فى نهاية محكمة الموضوع وايدت فى محكمة الأستئناف التى لم تعرض الأوراق الى المحكمة العليا ، استعجالا لتنفيذ الحكم .
و لو ظل اسماعيل مخلصا لتوجهاته القديمة لأدان ذلك الحكم ولخرج من سلطة مايو كما فعل الكثيرون من الشرفاء الذين قال عنهم اسماعيل ـ تخاذلوا ـ ولكن الطمــــــع الجمه هو عن قولة الحق امام السلطان الجائر .
و اما من الناحية الدينية ، ففى أصل الدين ، الذى لا يعلمه اسماعيل ، ليس هناك ردة ، فقد كرم الله الانسان ومنحه حريته .. فقال عز من قائل لنبيه الكريم :
فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ "21" لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسيْطِر "22" سورة الغاشية .
أكثر من ذلك ان الدين فى اصله سمح للانسان حتى بحق الكفر قال تعالى :
" وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ " 29 " سورة الكهف
اما كلامه عن انجازات مايو : مصانع السكر عسلاية والرهد والطرق ... الخ فنقول نعم قامت مايو بكل هذه الانجازات المادية عندما كانت تسير فى الآتجاه الصحيح ولكن ماذا فعلت بالانسان ؟
دخلت مايو مع جماعة الهوس الدينى والأخوان المسلمين وطبقت ما اسمته بالقوانين الاسلامية والاسلام منها براء .. اسماها الأستاذ محمود بـ " قوانين سبتمبر 83 " .. وفى القرآن قال الحق عز وجل (وَلا تَجَسَّسُو) سورة الحجرات الآية " 12 ".
نميرى قال " نعم .. هذا هو الدين الصحيح ولكنا نتجسس وندخل البيوت لنرى من يفعل كذا وكذا فى الخفاء .. الخ " فخرجوا عن الدين بقول زعيمهم ، و تبعا لهذا تجسسوا على المواطنين ، والهبوا ظهور الأبرياء بالسياط ، وقطعوا الأيدى ، وقطعوا من خلاف ، وأخذوا الناس بالشبهات ، وعلقوا المسلمين حقا على المشانق .. فحين فعلت مايو كل هذا بالمواطن اصبح لا معنى للتنمية .. انهزمت الغاية بالوسيلة .. وحينها عارضها الجمهوريون ...
قال احد الشرفاء :ـ
لا تسقنى ماء الحياة بذلة ..... بل اسقنى بالعز كأس الحنظل

قال الأستاذ محمود فى هذا الصدد :
" الدكتـاتور لو ســـاق الناس الى الجنـــــة مخطــىء "
عند هذا الحد خرج عن مايو جميع الشرفاء الذين عملوا معها ، ولم يتخاذلوا كما قال اسماعيل .. بل الصحيح انهم انحازوا الى جانب الشعب ..
بعد صدور الحكم على الأستاذ محمود ، تكونت فرق من الجمهوريين لمقابلة الذين يشغلون مناصب مع نميرى ومعرفة مواقفهم فيما يجرى من حكومة مايو .
فى احدى الأمسيات ذهبت على رأس فريق من الجمهوريين لمقابلة الأستاذة امال عباس فى منزلها الحكومى ، وجدنا معها د. اسماعيل حاج موسى ... وقد دار بيننا وبينها حوار طويل ، خلاصة قولها "ان نميرى فى هذه الأيام احاط به الأخوان المسلمين .. وهم جماعته لا يستطيعون مقابلته !! ".
طوال فترة وجودنا معها ظل اسماعيل صامتا .. لم يفتح الله عليه بكلمة ليدلى بها ، بل كان متضايقا ، ما يتعارض مع كل المشاعر الانسانية ..
اذكر فى نهاية المقابلة ونحن نودع الأستاذة امال عباس .. قلت لها : " لو نفذ هذا الحكم على الأستاذ محمود سيكون ذلك اخر مسمار يضرب فى نعش مايو "..
ظل اسماعيل صـامتا ومتضايقـا .. ينتظـر خروجنا بفارغ الصبر ...
وبعد 76 يوما من تنفيذ الحكم على الأستاذ ، قامت الأنتفاضة وعمر الأستاذ حينها 76 عاما .. ذهب الأستاذ فـداء للشعب وسقطـت مايو ..
ظل اسماعيل حاج موسى يتقـلب مع انظمة الظلم حيثما اتجهت ، من اجل الكسب المادى .. وما علم انه خسر كل ما يعـز الانسان .. قال السيد المسيح :
" ماذا يفيـد الانســان اذا كســب العالــم و خســـر نفســـــه "..


نشر بجريدة الصحافة يوم الأحد 27 جمادى الثانى 1435هـ الموافق 27 ابريل 2014م العدد 7442 ..