إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
الأخوان المسلمون بين سرعة الضمور والإقتلاع من الجذور
د. مصطفى الجيلي
الأستاذ محمود محمد طه عاش عمليا قولته (غايتان شريفتان وقفنا، نحن الجمهوريين، حياتنا، حرصا عليهما، وصونا لهما، وهما الإسلام والسودان) حيث قدم نفسه فداءا بعد أن قضاها وقفا وصونا للغايتين الشريفتين..
ومنذ وقت مبكر سعى بكل الوسائل لتنبيه السودانيين ليتجنبوا فترة الشقاء والذل والمهانة على يد حكومة الأخوان المسلمين.. في نهاية السبعينات وتحديدا في العام 1978، أعلن الأستاذ محمود حملة ضد نشاط الأخوان المسلمين وتحدث عن الهوس الديني كخطر عالمي.. وكتبت ثلاثة أجزاء متتابعة باسم "هؤلاء هم الأخوان المسلمون" وقد كان أهداء هذه الكتب وجميعها منزلة في موقع الفكرة كما يلي:
(إنما يهدى هذا الكتاب إلى عامة الناس!! وبوجه عام.. ولكنه، إنما يهدى بوجه خاص، إلى الأخوان المسلمين!! ويهدى بوجه أخص إلى قاعدة التنظيم من الشباب!! تبينوا أمركم، فإن هذه الدعوة، إنما هي فتنة!! لاخير في شجرتها!! ولا خير في ثمرتها!! وأنت لا تجني من الشوك العنب!!)
وقد ورد في مقدمة الكتيب الأول ما يلي: (يقدّم هذا الكتاب دراسة نقدية لتنظيم "الأخوان المسلمين" تتناول، في بابها الأول، المقومات الفكرية لهذا التنظيم، موزونة بميزان "التوحيد"، ومقاسة إلى حكم الوقت، ومراد الدين..) ويقرر الكتيب (إن تنظيم الأخوان المسلمين، من حيث الفكرة، إنما هو صورة للفهم الديني الذي تقوم عليه، اليوم، سائر الدعوات الإسلامية، كالطائفية، والوهابية.. وسائر المؤسسات الدينية: كالأزهر، ورابطة العالم الإسلامي، والجامعات الإسلامية، وكليات الشريعة، ووزارات الشئون الدينية.. وتلاميذ هذه المؤسسات من الفقهاء، والقضاة الشرعيين، ومعلمي مناهج الدين.. فتنظيم الأخوان المسلمين لا يختلف عنها الا من حيث أنه تنظيم له فعالية الحركة "المنظمة" في السعي الى إحراز السلطة لتطبيق فكرته.. ولذلك قامت بين هذا التنظيم وهذه الدعوات، والمؤسسات الدينية علاقات عضوية، لا تتفاوت الا بين درجتي التعاطف، والتحالف)..
الكتيب الثاني يتناول ممارسات التنظيم في مصر، موطنه الأول، وفي السودان، موطنه الثاني، ويشرح بالنماذج العملية كيف (أنه تنظيم يستغل الدين، في الأغراض السياسية التي تستهدف الوصول الى السلطة، أو إحتواءها..) وجاء في خاتمة الكتيب الثاني: (ما دفعنا الى التوّسع في مادة هذا الكتاب الاّ الرغبة الأصيلة، عندنا، في مزيد من توثيق المعلومات وتأكيد الدلائل، حتى لا نأخذ هذا التنظيم بالشبهة التي لا تقوم على سند، كما يتوّرط خصومنا الفكريون في خصومتهم لنا.. فأمرنا، كله، وحتى ونحن نواجه ألد الخصام، وأفجره، إنما هو دين، يتأدب بأدب الدين، ويتخلّق بخلق الدين.. فلا يحيد عن تحرّي الصدق قيد أنملة..)
وبالفعل تم عمل مكثف في التوعية بهذا الأمر بالشرح والنقاش مع المواطنين في الشوارع والأسوق وفي الحارات والقرى وفي الجامعات والمدارس والمكاتب، عبر المحاضرات وأركان النقاش وخلال المعارض وحملات الكتب.. وعادة كانت تتم جلسات مسائية في مركز الحركة في بيت الأستاذ محمود في أمدرمان ينقل فيها الأخوان الجمهوريون ما يتم خلال نشاط اليوم المعين ويستعرضون فيها انطباعات الناس وردود أفعالهم.. وقد تم في احد تلك الجلسات نقل انطباع لأحد المواطنين فيه استهانة بالأمر كله، قائلا (هم الجمهوريين ديل ما عندهم شغل غير الأخوان المسلمين؟؟).. حين نقل هذا الإنطباع، كان مثل الإشارة لحدوث تغيير جذري في خط العمل..
علق الأستاذ على تلك العبارة بقوله – بما معناه— (أنا أعتقد أن العمل الذي قمتم به جيد، وإن شاء الله ربنا يقبله وستجدوا بركته.. وهذه الكتب ستعمل عملها إن شاء الله حتى لو بقيت فوق الرفوف، فالعمل أصلا عمل روحي).. ثم قال (لكن العبارة التي قيلت هي اشارة لنوقف العمل عند هذا الحد.. العبارة تعني أن السودانيين ما فهموا لغة الكلام وهو إيذان بأن الله حيكلمهم بلغة الفعل.. ودا بيعني أنه تتنازلوا للأخوان المسلمين وتدوهم فرصة ليحكموا بأنفسهم لأنهم هم أفضل من يعرف نفسه بنفسه)..
ومن يومها توقفت تلك الحملة المكثفة وصار مفهوما أن الأخوان المسلمين سيستلمون السلطة وعلى الجمهوريين الإمتثال لهذه الحكمة التعليمية الصعبة للشعب السوداني.. و جاء كلام "السوفات السبعة" المنتشر كثيرا في أوساط المثقفين.. وقيلت عبارات كثيرة بنفس معنى السوفات السبعة، منها ما ورد في مقدمة كتيب "الكذب وتحري الكذب عند الأخوان المسلمين" في عام 1979، حيث قال: (اما نحن الجمهوريين فاننا قد أخذنا على أنفسنا ان نرفع بلادنا، ومن ورائها الإنسانية جمعاء، عن وهدة الجهل والتخلف، ولن نتوانى، أو نتراجع، أو نتهاون، في هذا الواجب المجيد، رغم ما يعترضنا من هوس الأخوان المسلمين، وعنفهم.. ولسوف نصر على المنابر الحرة، حتى تقتلع هذه الشجرة الخبيثة من تراب أرضنا الطاهرة باذن الله.. ونحن على يقين ان هذا الأمر لن يطول به الأمر، ذلك بأن خيانة الأخوان المسلمين، وكذبهم، وسوء خلقهم وقلة دينهم، ستتضّح لشعبنا بصورة جلية، عمّا قريب، ويومها سيتم العزل التام – عزل الأخوان المسلمين عن هذه الدعوة الدينية التى يتشدقون بها – وسيطّهر الأسلام مما يلصقونه به من تشويه، ومن شوائب..)
السؤال الآن هو: هل وعي السودانيون هذا التعليم الإلهي أم ما زالوا يحتاجون لبعض الزمن ليفهموا؟؟ من الواضح أن إسلام السوط والسيف وآليات الإسلام السياسي لم يعد لها مكان في السودان.. الطائفية بشقيها أيضا أخذت فرصتها كاملة، وزعماؤها، على كل حال، قد اختاروا أن يضعوا أنفسهم في نفس المركب مع الأخوان المسلمين.. إن ما بقي أمام السودانيين الآن هو التجربة الديمقراطية غير الطائفية.. ولكن ليس هناك كثير وقت ليضيع في تجربة ديمقراطية لا تصاحبها مساواة في توزيع الموارد "الإشتراكية"، وقد شرح الجمهوريون هذه النقطة بكتابهم (ساووا السودانيين في الفقر حتى يتساووا في الغنى).. وشيء آخر قبل ذلك، وأهم من ذلك، وهو أنه لن يصلح أمر الحكم بغير الثورة الفكرية في تصحيح الأخلاق والقيم ..
إذا تم التغيير على هذا النحو، فهو ما رشحه الأستاذ محمود للسودان حيث كتب (ليس عندنا من سبيل إلى هذه "الثورة الفكرية" العاصفة غير بعث الكلمة: "لا إله إلا الله" جديدة، دافئة، خلاقة في صدور النساء، و الرجال، كما كانت أول العهد بها، في القرن السابع الميلادي..)
أمر السودان عند الأستاذ محمود كبير كبير، وهو القائل منذ 1951 : (أنا زعيم بأن الإسلام هو قبلة العالم منذ اليوم.. وأن القرآن هو قانونه.. وأن السودان، إذ يقدم ذلك القانون في صورته العملية، المحققة للتوفيق بين حاجة الجماعة إلى الأمن، وحاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة، هو مركز دائرة الوجود على هذا الكوكب.. ولا يهولن أحدا هذا القول، لكون السودان جاهلا، خاملا، صغيرا، فإن عناية الله قد حفظت على أهله من أصايل الطبائع ما سيجعلهم نقطة التقاء أسباب الأرض، بأسباب السماء..)