إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
الحزب الجمهوري واتفاقية مياه النيل:
تعقيب على الأستاذ عبد الله الفكي البشير ١-٢
د. سلمان محمد أحمد سلمان
1
نشر الأستاذ عبد الله الفكي البشير خلال الأسبوعين الماضيين ثلاث مقالاتٍ في جريدة الصحافة بالخرطوم وعلى عددٍ من الصحف الالكترونية بعنوان: " مراجعة لمراجعات سلمان والطاهر حسن التوم - لا ياسلمان!! التأييد لاتفاقية المياه لم يكن بالإجماع المطلق!!"
وقد كانت المقالات الثلاث التي نشرها الأستاذ عبد الله رداً على المقابلات الأربع التي أجراها معي الأستاذ الطاهر حسن التوم في برنامج "مراجعات" والتي كان قد تمَّ بثُّها خلال شهري أبريل ومايو هذا العام. وكنتُ قد ذكرتُ في تلك المقابلات أن التأييد لاتفاقية مياه النيل التي تم التوقيع عليها في القاهرة في 8 نوفمبر عام 1959 كان بالإجماع من القوى السياسية السودانية. وأشرتُ إلى بيانات وبرقيات التأييد للاتفاقية التي أرسلها السيد علي الميرغني، والسيد الصديق المهدي، والسيد عبد الله خليل، والسيد اسماعيل الأزهري، والسيد عبد الله الفاضل المهدي، واتحاد مزارعي الجزيرة وعددٍ من الصحف السودانية.
غير أن الأستاذ عبد الله ذكر في مقالاته: "يبدو أن سلمان محمد أحمد سلمان، وهو يبحث عن مواقف القوى السياسية والمثقفين من اتفاقية مياه النيل عام 1959م، لم تتح له فرصة الاطلاع على ما كتبه الأستاذ محمود محمد طه، برغم أنه تحدث بقوة وثقة عن اطلاعه على الوثائق السودانية والأمريكية والبريطانية. الشاهد أن الأمر عند الأستاذ محمود لم يكن في حدود إعلان موقفه من اتفاقية مياه النيل بعد توقيعها في يوم 8 نوفمبر عام 1959م، وهي المواقف التي كان يبحث عنها سلمان كما وردت الإشارة، فالأمر عند الأستاذ محمود أمر مقاومة للاتفاقية. فالأستاذ محمود لم يكن رافضاً لاتفاقية مياه النيل ومعترضاً عليها فحسب؛ وإنما كان مقاوماً لها، قبل أن يتم توقيعها، بل منذ النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي."
2
سوف أوضّح في هذا المقال والمقال القادم أن النقد الذي وجهه الأستاذ عبد الله لبحثي ونتائجه لم يخاطب لبّ الموضوع والذي هو اتفاقية مياه النيل لعام 1959، وموقف الحزب الجمهوري منها. فالمقالات والبيانات التي شملها مقال الأستاذ عبد الله بغرض توضيح أن الحزب الجمهوري عارض اتفاقية مياه النيل لعام 1959 صدرتْ كلها في عام 1958، أي قبل عامٍ من توقيع الاتفافية في 8 نوفمبر عام 1959 ، وعليه فهذه المقالات والبيانات لا يمكن أن تمثّل رفضاً لاتفاقية لم يتم توقيعها بعد.
3
وفي ما يشبه القدح في مصداقية منهجية بحثنا كتب الأستاذ عبد الله "لهذا يجب أن يتم إجراء المراجعات بعلم وصدق وحذر. لعل من أخطر، ما يصاحب إجراء المراجعات، خاصة مع الخبراء والمتخصصين والباحثين الأكاديميين في مجال ما، بتر المعارف وتجاهل جهود الآخرين المثبتة في المصادر، والتسليم بما هو معلن من التاريخ، سواء كان ذلك بقصد أو بغير قصد، بحسن نية أو بسوء نية. فبتر المعارف في العقول والصدور، سواء تم بوعي أو بغير وعي، بسبب نقص في المعلومة أو قصور في البحث، لا شك هو من مقدمات بتر أراضي الأوطان ومن أسباب تعميق التهميش والتمزق والتشظي. بل يزيد من خطورة الأمر، (وهذا ما دعاني لكتابة هذا المقال) تأكيد الخبير أو الباحث الأكاديمي، أثناء إجراء المراجعات معه، على قوله بثقة مطلقة، دون أن يعطي اعتباراً لما يمكن أن يجهله ولما لم يبلغه خبره، فيحتاط أو يحترز احترازاً يضمن الحد الأدنى من الشروط العلمية ويحقق شيئاً من الأسس الأكاديمية."
4
أرجو أن أشير هنا إلى أنني نشرتُ أربع عشرة مقالة بعنوان "خفايا وخبايا مفاوضات اتفاقية مياه النيل لعام 1959." وقد تمّ نشر المقالات في شهري نوفمبر وديسمبر عام 2012 في صحيفة القرار في الخرطوم وعلى عددٍ من المواقع الالكترونية. وقد كنتُ آمل لو قام الأستاذ عبد الله بقراءة تلك المقالات والتعقيب عليها، لأن المقالات بطبيعة الحال أكثر عمقاً وأوضح في مقاصدها من المقابلات التلفزيونية التي تخضع لمتطلبات مقدم البرنامج وما يتوقعه مشاهدوه.
غير أن هذا بالطبع لا يلغي أو يقلّل من النقد الذي وجهه الأستاذ عبد الله لبحثنا ومنهجيته وما توصلنا إليه في تلك المقالات والمقابلات. لقد اختتمتُ مقالاتي الأربع عشرة بالآتي: " لقد امتد البحث الذي انبنت عليه هذه المقالات لأكثر من ثلاثة أعوام واعتمد على معلوماتٍ دقيقةٍ من دور الوثائق الرسمية في واشنطن ولندن والخرطوم، وعلى عددٍ من الكتب النادرة في الخرطوم والقاهرة وواشنطن، وعلى مقابلاتٍ ومكاتباتٍ مع أشخاصٍ ساهم عددٌ منهم بالوقت والمعلومة. وقد اتّبعنا أسلوباً أكاديمياً صارماً في إعداد هذه المقالات يتطلّب تعضيد كل معلومةٍ من وثيقة بوثيقةٍ أخرى أو مصدرٍ ثانٍ. ولم نعتمد على ما استقيناه من المقابلات والمكاتبات إلاّ من أجل توضيح معلومات الوثائق والكتب."
سوف أؤكد في هذا المقال والمقال القادم الأسلوب الأكاديمي الصارم الذي اتبعته في تلك المقالات ونتّبعه في كل بحوثنا وكتاباتنا. كما سوف أوضح أيضاً أنني كباحثٍ بذلت جهداً مقدّرا في تحرّي رأي الحزب الجمهوري في الاتفاقية من قادة الحزب نفسه، مثلما حاولت تحرّي رأي الحزب الشيوعي السوداني والأخوان المسلمين.
5
اندهشتُ كثيراً وأنا أقرأ كلمات الأستاذ عبد الله أن "الأستاذ محمود لم يكن رافضاً لاتفاقية مياه النيل ومعترضاً عليها فحسب؛ وإنما كان مقاوماً لها، قبل أن يتم توقيعها، بل منذ النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي." ومصدر دهشتي الكلمات الأربع "قبل أن يتم توقيعها". كيف يمكن لأي شخص أو حزب أو مؤسسة أن يرفض اتفاقيةً ما، بل وأن يقاومها، قبل أن يتم توقيعها؟ بل إن الرفض والمقاومة تمّت في هذه الحالة في النصف الأول من الخمسينيات، أي حتى قبل أن يبدأ التفاوض الحقيقي للاتفاقية التي تمّ التوقيع عليها في نهاية الخمسينيات، في 8 نوفمبر عام 1959،
إن الرفض لأيِّ اتفاقيةٍ يتمُّ بعد أن يعرف الطرف الرافض مضمونها ويدرسه بتمعّنٍ وحذر، ويبني رفضه على هذا المضمون. ولكننا هنا أمام رفضٍ ومقاومةٍ تمّت لاتفاقية لم يبدأ حتى التفاوض حولها.
6
ويواصل الأستاذ عبد الله هذا المنهج في تأكيد أن الحزب الجمهوري رفض اتفاقية مياه النيل لعام 1959 بعرض وثائق صدرت كلها قبل عامٍ على الأقل من تاريخ توقيع اتفاقية مياه النيل في 8 نوفمبر عام 1959، وهذه الوثائق هي:
أولاً: كتب الأستاذ عبد الله أنه "في يوم 26 فبراير عام 1958م نشر الأستاذ خوجلي محمد خوجلي، عضو الحزب الجمهوري، تلخيصاً لمحاضرة قدمها الأستاذ محمود عن "الموقف السياسي الحاضر" في مساء يوم السبت 22 فبراير 1958م بدار الحزب الجمهوري بمدينة مدني وتحدث فيها بتوسع عن الحدود مع مصر. كتب خوجلي محمد خوجلي قائلاً: "استهل الأستاذ محمود حديثه بأنه كان يود أن يكون حديثه عن الانتخابات ولكن الأزمة التي نشبت بين السودان ومصر في مشكلة الحدود تجعل الحديث عن الانتخابات مختصراً". وأضاف خوجلي بأن الأستاذ محمود بعد أن تحدث حديثاً مختصراً عن الانتخابات تناول مشكلة الحدود."
لم يذكر الأستاذ عبد الله كلمة واحدة عن النيل تمّ الحديث عنها في تلك المحاضرة. كما يجب إضافة أن المحاضرة تمّ تقديمها في فبراير عام 1958،أي قبل قرابة العامين من تاريخ توقيع اتفاقية مياه النيل في 8 نوفمبر عام 1959.
ثانيا: كتب الأستاذ عبد الله أنه "في يوم الأحد 14 سبتمبر 1958م نشر الأستاذ محمود في صحيفة أنباء السودان مقالاً بعنوان: "مشكلة مياه النيل." يكشف المقال عن المتابعة الدقيقة للأستاذ محمود لسير المراسلات بين الحكومتين السودانية والمصرية، وحرصه على نقد التعاطي من قبل الدولتين مع ملف المياه ونقده بشكل أشد لمواقف حكومة السودان. كتب الأستاذ محمود في مستهل مقاله قائلاً: "لقد جاء في رد مصر على مذكرتي جمهورية السودان الخاصتين بمشكلة مياه النيل المؤرختين 19 أغسطس و25 أغسطس من هذه السنة ما يأتي: "نود أن نسترعي النظر إلى ما بين هاتين المذكرتين من اختلاف في الاسلوب والاتجاه، إذ ترحب المذكرة الثانية بفتح باب المفاوضات حرصاً على ما بين الشقيقتين من علاقة في حين أن المذكرة الأولى بإعلانها عدم الاعتراف باتفاقية سنة 1929م من جانب واحد لم تهيئ جو الثقة المتبادل الواجب توافره في أية مفاوضات."
هذا المقال تطرّق لاتفاقية مياه النيل لعام 1929 والتي كانت حكومة السيد عبد الله خليل قد رفضتها، وليس عن اتفاقية عام 1959 التي لم يكن قد تمّ التوقيع عليها في 14 سبتمبر عام 1958 عندما كتب الأستاذ محمود مقاله. وقد كُتِب ذلك المقال في سبتمبر عام 1958، أي قبل أربع عشر شهراً من تاريخ التوقيع على اتفاقية عام 1959.
ثالثاً: ذكر الأستاذ عبد الله أنه "في يوم 18 أكتوبر 1958م كتب الأستاذ عبد اللطيف عمر مقالاً بعنوان: "حول الخطوة التالية لعبد الناصر في السودان"، نُشر بصحيفة أنباء السودان، العدد 164، كتب الأستاذ عبد اللطيف عمر وهو يتحدث عن التدخل المصري في الشؤون الداخلية، منبهاً لاطماعه في مياه النيل وأراضي السودان، وربط عبد اللطيف بين المياه والحدود، كتب عبد اللطيف قائلاً: "فالتدخل المصري مستمر بالإذاعة والصحافة لتأليب الشعوب العربية والشعب السوداني ضد حكوماتهم حتى لكأن هذه الحكومات حكومات أجنبية مفروضة على هذه الشعوب فجعل عبد الناصر ولى أمر وقيماً عليها. ومن الأمثال الواضحة حادث الحدود ومشكلة مياه النيل ففي كليهما وقف عبد الناصر موقف المتجبر، فهو ذو أطماع كبيرة في السودان: في مياهه الوافرة وأراضيه الواسعة".
هذا المقال يتحدث بعموميات عن أطماع مصر في مياه النيل ولا علاقة له باتفاقية مياه النيل لعام 1959، كما أن المقال كُتِب في شهر أكتوبر عام 1958، أي قبل أكثر من عامٍ من تاريخ توقيع اتفاقية مياه النيل.
رابعاً: كتب الأستاذ عبد الله أنه "في اطار مقاومته لاتفاقية مياه النيل، نشر الأستاذ محمود في يوم 25 أكتوبر 1958م بصحيفة أنباء السودان، العدد 165، مقالاً طويلاً عن اتفاقية مياه النيل. جاء المقال بعنوان: "الأزمة بين السودان ومصر: اتفاقية مياه النيل سنة 1929م". تناول الأستاذ محمود في مقاله هذا، قصة مياه النيل، فوقف عند اتفاقية عام 1929م وتاريخها وتتبع جلسات مباحثاتها واجتماعات لجانها منذ أن كانت الاتفاقية فكرة أولية عند البريطانيين ونمت في اطار الأهداف الاستعمارية والعلاقات مع مصر."
الحديث هنا عن اتفاقية مياه النيل لعام 1929 وليس عن اتفاقية مياه النيل لعام 1959، وهاتان اتفاقيتان مختلفتان تمام الاختلاف. وكما ذكرنا من قبل فإن حكومة عبد الله خليل كانت قد رفضت اتفاقية عام 1929، كما يجب أن نشير أن ذلك المقال تمّت كتابته في شهر أكتوبر عام 1958، أي قبل أكثر من عام من تاريخ توقيع اتفاقية مياه النيل في نوفمبر عام 1959.
7
سنواصل في المقال القادم عرض البيانات والمقالات التي تضمّنتها مقالات الأستاذ عبد الله ونواصل التوضيح أن تلك البيانات والمقالات صدرت كلها في عام 1958، أي قبل عامٍ على الأقل من التوقيع على اتفاقية مياه النيل لعام1959، كما سنوضح أننا بذلنا جهداً مقدراً في محاولة التعرّف على رأي الحزب الجمهوري، وأحزاب أخرى، في اتفاقية مياه النيل لعام 1959.