إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

محمود محمد طه ومياه النيل والحدود
مراجعة لمراجعات سلمان والطاهر التوم
لا يا سلمان!! التأييد لاتفاقية المياه لم يكن بالإجماع المطلق!! (١-٣)

عبد الله الفكي البشير


الوضع الطبيعي والمتوقع والمطلوب بالطبع، أن يكون إجراء المراجعات للملفات والأحداث والوقائع والمسارات والقضايا والتاريخ... إلخ، خادماً للمستقبل، منفتحاً عليه، داعماً لفرص التغيير، لا خادماً للماضي بإعادة إنتاجه، فتكون المراجعات سهماً من سهام تجميد حركة التغيير، واستمراراً وتمكيناً لحالة التغييب والتضليل. فإجراء المراجعات هو اعمال للحس النقدي، وإعادة نظر وقراءة للإرث السياسي والفكري ...إلخ وتصحيح للمفاهيم والمسارات ودراسة في أسباب القعود، وسعي للتعلم من الأخطاء والإخفاقات إلى جانب أنه سعي لتنمية الحس العدلي ومحاولة لجرد الماضي وإبراز للحقائق بأخلاق ومسؤولية. لهذا يجب أن يتم إجراء المراجعات بعلم وصدق وحذر. لعل من أخطر، ما يصاحب إجراء المراجعات، خاصة مع الخبراء والمتخصصين والباحثين الأكاديميين في مجال ما، بتر المعارف وتجاهل جهود الآخرين المثبتة في المصادر، والتسليم بما هو معلن من التاريخ، سواء كان ذلك بقصد أو بغير قصد، بحسن نية أو بسوء نية. فبتر المعارف في العقول والصدور، سواء تم بوعي أو بغير وعي، بسبب نقص في المعلومة أو قصور في البحث، لا شك هو من مقدمات بتر أراضي الأوطان ومن أسباب تعميق التهميش والتمزق والتشظي. بل يزيد من خطورة الأمر، (وهذا ما دعاني لكتابة هذا المقال) تأكيد الخبير أو الباحث الأكاديمي، أثناء إجراء المراجعات معه، على قوله بثقة مطلقة، دون أن يعطي اعتباراً لما يمكن أن يجهله ولما لم يبلغه خبره، فيحتاط أو يحترز احترازاً يضمن الحد الأدنى من الشروط العلمية ويحقق شيئاً من الأسس الأكاديمية. فثقة الخبراء في أقوالهم وهم يسهمون في الخدمة التنويرية، وتأكيدهم على صحة ما يقولون لحد الاطلاق، ينبغي أن يواجه بالنقد والتصويب من أجل التصحيح وترفيع مستوى الحوار، ومن أجل بث ثقافة المسؤولية الأخلاقية عند تقديم الخدمات التنويرية وتنمية الوعي وتوجيه الرأي العام.

ضمن مراجعاته الاسبوعية استضاف الأستاذ الطاهر التوم في برنامجه الموسوم بمراجعات، الدكتور سلمان محمد أحمد سلمان، الخبير القانوني والباحث الأكاديمي في قوانين وسياسات المياه، والمستشار الأسبق لقوانين وسياسات المياه في البنك الدولي. وهو من الخبراء الدوليين في قوانين وسياسات المياه. أشار مقدم البرنامج الأستاذ الطاهر إلى أن سلمان من أبناء مدينة رفاعة درس ودرَّس بجامعة الخرطوم، وألف أو حرر عشرة كتب عن قوانين المياه. تُرجمت بعض كتبه إلى اللغات العربية والصينية والروسية والفرنسية، ونشر أكثر من خمسين مقالاً عن قوانين المياه في الدوريات العالمية، وأكثر من سبعين مقالاً في الصحف المحلية والمواقع الأسفيرية، إلى جانب تقديمه للعديد من المحاضرات عن قوانين وسياسات المياه في المنتديات الإقليمية والعالمية. جاء الحوار في أربع حلقات، تحت مظلة مراجعات حول اسرار وخفايا اتفاقية المياه السودانية المصرية. بثت الحلقات الأربعة على قناة النيل الأزرق الفضائية خلال الفترة ما بين 26 أبريل و17 مايو من العام 2013م، وعلى اليوتيوب، ونشرت بموقع الطاهر التوم الإليكتروني. تحدث سلمان في الحوار من خلال محاور عديدة، وتناول اتفاقية مياه النيل التي وقعت بين السودان ومصر عام 1959م، كيف تمت الاتفاقية؟ وما هي خبايا واسرار الاتفاقية؟ وما هي أبعاد ما قدمه المفاوض السوداني من تنازلات كبيرة لمصر؟ خاصة وأن التنازلات بدأت في سبتمبر 1954م، والتنازل الرئيسي في أبريل 1955م، وتوالت التنازلات حتى توقيع الاتفاقية في يوم 8 نوفمبر 1959م. وكيف قابلت القوى السياسية في السودان الاتفاقية؟ وما هو موقف النخب والأفراد من الاتفاقية؟ تحدث سلمان عن تفاصيل كثيرة عن الاتفاقية. ومن المعلوم أن خسارة السودان كانت كبيرة من هذه الاتفاقية، وقد تحدث سلمان عن تلك الخسائر وتناول مخاطر الاتفاقية. وفي رده على سؤال المحاور، الأستاذ الطاهر: كيف قابلت القوى السياسية في الخرطوم اتفاقية عام 1959م؟ أجاب سلمان قائلاً: السؤال عظيم والإجابة عليه مدهشة، غاية الدهشة القوى السياسية قابلت الاتفاقية بالترحيب والتأييد، تأييد مطلق بدون أي شروط وبدون أي ضوابط. ثم أشار سلمان قائلاً: جاء أول تأييد من السيد علي الميرغني راعي حزب الشعب الديمقراطي. كما أيد الاتفاقية عبدالله خليل ببرقية من لندن. كما أيد الاتفاقية السيد الصديق المهدي والسيد إسماعيل الأزهري والسيد عبدالله الفاضل المهدي، واتحاد مزارعي الجزيرة والمناقل أيد الاتفاقية، والصحف السودانية أيدت الاتفاقية... إلخ. ثم تدخل المحاور الأستاذ الطاهر قائلاً: يعني القوى السياسية قابلت الاتفاقية بالإجماع، ما كان هناك أي صوت معترض؟ فأجاب سلمان قائلاً: لم يكن هناك صوت معترض، ولكن يجب أن أوضح شيئين، بحثت في الوثائق السودانية والأمريكية والبريطانية عن موقف الحزب الشيوعي السوداني والحركة الإسلامية. ولم أجد أي شىء من الحزب الشيوعي السوداني أو الحركة الإسلامية. أتصلت بمجموعة من الإخوة في المنظمتين وسألت ما إذا كان هناك أي بيان صدر يوضح رأيكم في الاتفاقية، فقال بعضهم أنهم ضد الاتفاقية، ولكني قلت لهم أنا أكاديمي وموثق وأريد شيئاً موثقاً صدر في عام 1959م يوضح رأيكم وموقفكم من الاتفاقية. ولكني لم أجد شيئاً موثقاً سواء من الحزب الشيوعي السوداني أو من الحركة الإسلامية يبين موقفهما من الإتفاقية. ثم وجه المحاور سؤالاً لسلمان قائلاً له: وماذا عن الأفراد والنخب ما في أي زول قال حاجة؟ فأجاب سلمان قائلاً: لم يكن هناك صوت معترض، فقط السيد ميرغني حمزة هو الشخص الوحيد الذي أبدى بعض التحفظات. ثم تحدث سلمان عن مسألة الربط بين اتفاقية مياه النيل والحدود مع مصر.

الأستاذ محمود ومقاومة اتفاقية مياه النيل


يبدو أن سلمان محمد أحمد سلمان، وهو يبحث عن مواقف القوى السياسية والمثقفين من اتفاقية مياه النيل عام 1959م، لم تتح له فرصة الاطلاع على ما كتبه الأستاذ محمود محمد طه، برغم أنه تحدث بقوة وثقة عن اطلاعه على الوثائق السودانية والأمريكية والبريطانية. الشاهد أن الأمر عند الأستاذ محمود لم يكن في حدود إعلان موقفه من اتفاقية مياه النيل بعد توقيعها في يوم 8 نوفمبر عام 1959م، وهي المواقف التي كان يبحث عنها سلمان كما وردت الإشارة، فالأمر عند الأستاذ محمود أمر مقاومة للاتفاقية. فالأستاذ محمود لم يكن رافضاً لاتفاقية مياه النيل ومعترضاً عليها فحسب؛ وإنما كان مقاوماً لها، قبل أن يتم توقيعها، بل منذ النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي. بل كان الأستاذ محمود يطالب، كما سيرد قوله لاحقاً، بضرورة إشراك الرأي العام في السودان وتنويره بسير المفاوضات وطبيعة أبعاد الإتفاقية ومآلاتها. كما عاب الأستاذ محمود، على الحكومة تقصيرها في عدم تنوير الرأي العام بإزاء شأن يتحكم في مستقبل العلاقات بين البلدين. كما طالب الحكومة بترك العواطف الرخوة عندما يكون الكلام عن أمر جاد وهو إتفاقية مياه النيل. ودعا إلى ضرورة التسوية العادلة لمياه النيل بما يضمن المصالح المستقبلية. ونبه إلى أن أمر إتفاقية مياه النيل، هو أمر يتوقف عليه مستقبل العلاقات بين البلدين، السودان ومصر.


بدأ الأستاذ محمود نشاطه باكراً من أجل مقاومة الإتفاقية، ولكن كثف من نشاطه منذ شهر فبراير عام 1958م. لقد كتب الأستاذ محمود في مقاومته لتوقيع اتفاقية مياه النيل الكثير من المقالات، منها ما جاء بعنوان: "مشكلة مياه النيل" ونشر في 14 سبتمبر 1958م. وأصدر عدداً من البيانات وأقام الندوات في فبراير ويوليو من عام 1958م. وكل هذه المقالات والبيانات منشورة في الدوريات السودانية، وكذلك ملخصات لمحاضراته. كتب محذراً ومنبهاً لخطورة المسألة على راهن ومستقبل العلاقة بين البلدين، ودعا لضرورة الربط بين اتفاقية مياه النيل والحدود. إن رأي الأستاذ محمود الموثق والمنشور في الدوريات السودانية بشأن إتفاقية مياه النيل، ينسف فكرة التأييد لاتفاقية المياه بالإجماع المطلق التي جاء بها سلمان. بل يفيد رأي الأستاذ محمود ومقاومته لاتفاقية مياه النيل بأنه كان صاحب رؤية سياسية ثاقبة. تجلت تلك الرؤية وكشف عنها تنبيهه الباكر لضرورة الربط بين اتفاقية المياه والحدود مع مصر. ولعلي على يقين بأن سلمان لو كان يعلم برأي الأستاذ محمود وأطلع على ما كتبه، لاحتفى به احتفاءً كبيراً، ولهذا فإن المساحة الأكبر في التأويل والتحليل لحديث سلمان محمد أحمد سلمان هي لحسن النية. بيد أنه لفت انتباهي أن الخبراء والأكاديميين في السودان حينما يبحثون عن المواقف الموثقة للقوى السياسية في قضية من القضايا، لا يأبهون بمواقف الحزب الجمهوري، وهذا ما حدث لسلمان حينما قال إن القوى السياسية أيدت اتفاقية مياه النيل بالإجماع المطلق، بينما لم يكن الأمر كذلك. فموقف الحزب الجمهوري، برئاسة الأستاذ محمود يهزم فكرة سلمان هذه. كذلك حينما يبحث الخبراء والأكاديميون في السودان عن مواقف النخب والأفراد تجاه القضايا والأحداث لا يبحثون عن مواقف الأستاذ محمود، بل لا يأبهون بها، برغم أن مواقف الأستاذ محمود وأخباره في عقود الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، في كثير من القضايا، تكون في صدر الدوريات السودانية، وفي أغلب الأحوال تكون مواقفه في مقالات تنشر بحجم لا يقل عن الصفحة الكاملة في الصحيفة، وفي أحيان كثيرة تأتي في صفحة ونصف. الأمر الذي يؤكد أن مواقف الأستاذ محمود وآراءه، لا سيما في اتفاقية مياه النيل، كانت مواقف وآراء بارزة وواضحة ومنشورة، إلا أننا في ما يبدو ومن واقع ما آل إليه حال السودان، قد جافينا الاطلاع على مصادر المعلومات في مظانها، وانقطعنا عن دار الوثائق القومية في الخرطوم، فأسسنا لبتر المعارف في العقول فمن الطبيعي أن نشهد بتر الأراضي وتبديل الثوب الجغرافي للوطن.


كان الأستاذ محمود قد قدم قراءة باكرة لاتفاقية مياه النيل بين السودان ومصر. فقد عقد المحاضرات العامة ونشر المقالات في الدوريات السودانية قبل أن توقع الاتفاقية. ربط الأستاذ محمود في أحاديثه ومقالاته بين تشكيل الحكومة القومية واتفاقية المياه والحدود مع مصر. ففي يوم 26 فبراير عام 1958م نشر الأستاذ خوجلي محمد خوجلي، عضو الحزب الجمهوري، تلخيصاً لمحاضرة قدمها الأستاذ محمود عن "الموقف السياسي الحاضر" في مساء يوم السبت 22 فبراير 1958م بدار الحزب الجمهوري بمدينة مدني وتحدث فيها بتوسع عن الحدود مع مصر. كتب خوجلي محمد خوجلي قائلاً: "استهل الأستاذ محمود حديثه بأنه كان يود أن يكون حديثه عن الانتخابات ولكن الأزمة التي نشبت بين السودان ومصر في مشكلة الحدود تجعل الحديث عن الانتخابات مختصراً". وأضاف خوجلي بأن الأستاذ محمود بعد أن تحدث حديثاً مختصراً عن الانتخابات تناول مشكلة الحدود، قائلاً: "إن السودانيين ستكون خسارتهم كبيرة جداً لو لم يأخذوا الدرس الكافي من هذه الأزمة التي خلقتها حكومة مصر". ثم تناول الأستاذ خوجلي حديث الأستاذ محمود عن الأزمة المصرية السودانية، وإشاراته لسوء تصرف مصر، وتحليلاته لتصرفات مصر والتي مثلت امتهاناً لكرامة الشعب السوداني. وأضاف الأستاذ خوجلي قائلاً بأن الأستاذ محمود تناول أبعاد الأزمة وأطماع جمال عبدالناصر التوسعية، فتحدث قائلاً: "إننا نجهل البواعث الحقيقية لمثل هذا الحادث الخاسر الذي لن تجني منه مصر شيئاً ولكنا نستطيع أن نخمن فنقول إما أن عبدالناصر غافل جداً وليس له من ينصحه وإما أن الزهو والغرور قد أملى على دكتاتور مصر أن يوسع رقعته وذلك بالزحف على الجنوب وكل ذلك ينهض دليلاً لمسألة أصيلة في سوء الحكم المصري، وما سوء القياس بمسألة جمبيلا إلا دليلاً قاطعاً على وجود الغفلة، وثمة شىء آخر هو أن الحكومة المصرية دائماً تفكر من ناحية واحدة وتتجاهل مشاعر الآخرين، وما الكيفية التي تمت بها طريقة تأميم القنال إلا دليلاً على ذلك ومسألة تجاهل المشاعر تتجسم في تجاهل حكومة مصر للعواطف والمشاعر الإنسانية التي ربطت سكان تلك المنطقة بالسودان حقبة كبيرة من الزمن فكيف يراد لها بين عشية وضحاها أن تنسى كل ذلك". ختم خوجلي قائلاً: "هذا وفي نهاية النقاش اتخذ الحاضرون قراراً بارسال برقية لاتحاد الصحافة يستنكرون فيه تجاهل حكومة مصر لحكومة السودان، ويعتبرون أن المسألة غير منتهية حتى تفعل حكومة مصر ذلك. ويطالبون الذين استرضتهم حكومة مصر أن يرفضوا استرضاءها".

وفي يوم الأحد 14 سبتمبر 1958م نشر الأستاذ محمود في صحيفة أنباء السودان مقالاً بعنوان: "مشكلة مياه النيل". يكشف المقال عن المتابعة الدقيقة للأستاذ محمود لسير المراسلات بين الحكومتين السودانية والمصرية، وحرصه على نقد التعاطي من قبل الدولتين مع ملف المياه ونقده بشكل أشد لمواقف حكومة السودان. كتب الأستاذ محمود في مستهل مقاله قائلاً: "لقد جاء في رد مصر على مذكرتي جمهورية السودان الخاصتين بمشكلة مياه النيل المؤرختين 19 أغسطس و25 أغسطس من هذه السنة ما يأتي: "نود أن نسترعي النظر إلى ما بين هاتين المذكرتين من اختلاف في الاسلوب والاتجاه، إذ ترحب المذكرة الثانية بفتح باب المفاوضات حرصاً على ما بين الشقيقتين من علاقة في حين أن المذكرة الأولى بإعلانها عدم الاعتراف باتفاقية سنة 1929م من جانب واحد لم تهيئ جو الثقة المتبادل الواجب توافره في أية مفاوضات). هذا ومن الواضح بالطبع، (والكلام للأستاذ محمود) أنه ليس هناك تناقض في جوهر الأمر وإنما جاء التناقض في ظاهر الصياغة وذلك للحرص التقليدي الذي يصاحب كل حديث نقوله نحن السودانيين عن مصر (الشقيقة) وإني لأرجو أن يقلع على الأقل المسئولون عن مثل هذا المظهر المهين". وأضاف الأستاذ محمود قائلاً: "هذا وإني لألاحظ بارتياح تام أن حكومة السودان قد ردت على مذكرة مصر التي تشترط الاعتراف باتفاقية سنة 1929م كأساس للدخول في المفاوضات بأن جمهورية السودان تجدد تمسكها بعدم الاعتراف باتفاقية مياه النيل المبرمة بين دولتي الحكم الثنائي سنة 1929م وذكر الرد إلى جانب ذلك رغبة جمهورية السودان في الدخول في مفاوضات لتسوية المشاكل المعلقة بما فيها مياه النيل".

كذلك أولى رجال الحزب الجمهوري برئاسة الأستاذ محمود اهتماماً واسعاً ومستمراً بالتدخل المصري في شؤون السودان، وأثر ذلك التدخل على مشكلة مياه النيل ومسألة الحدود. ففي يوم 18 أكتوبر 1958م كتب الأستاذ عبداللطيف عمر مقالاً بعنوان: "حول الخطوة التالية لعبد الناصر هي السودان"، نُشر بصحيفة أنباء السودان، العدد 164. كتب الأستاذ عبداللطيف عمر وهو يتحدث عن التدخل المصري في الشؤون الداخلية، منبهاً لاطماعه في مياه النيل وأراضي السودان، وربط عبداللطيف بين المياه والحدود، كتب عبداللطيف قائلاً: "فالتدخل المصري مستمر بالإذاعة والصحافة لتأليب الشعوب العربية والشعب السوداني ضد حكوماتهم حتى لكأن هذه الحكومات حكومات أجنبية مفروضة على هذه الشعوب فجعل عبد الناصر ولى أمر وقيماً عليها. ومن الأمثال الواضحة حادث الحدود ومشكلة مياه النيل ففي كليهما وقف عبد الناصر موقف المتجبر، فهو ذو أطماع كبيرة في السودان: في مياهه الوافرة وأراضيه الواسعة".

أقف هنا، ونلتقي في الحلقة الثانية، لاستكمال الاستقراء في أدوات ومنهج الأستاذ محمود في مقاومة اتفاقية مياه النيل. وسأتناول محور الأستاذ محمود والربط الباكر بين اتفاقية مياه النيل والحدود. إلى جانب نماذج مختصرة من نقد الأستاذ محمود للحكومة في إدارتها لملف مياه النيل، ونماذج من نقده للصحفيين في تعاطيهم مع مشكلة مياه النيل.