إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
ماوراء منع الاحتفال بذكرى استشهاد الأستاذ محمود محمد طه
علاء الدين بشير
الخرطوم ١٩ يناير ٢٠١٣
في الوقت الذي تنتظم فيه فعاليات احياء ذكرى استشهاد الاستاذ محمود محمد طه في المدن والعواصم المختلفة في العالم منعت السلطات الأمنية في الخرطوم يوم الجمعة 18 يناير، اقامة الذكرى السنوية الثامنة والعشرين لاستشهاده والتي نظمها مركز الأستاذ محمود الثقافي بمقره بأم درمان بحجة أن إدارة المركز لم تستخرج تصديقاً من جهاز الامن باقامة الاحتفالية.
وقد بدت الحجة التي منع بها الاحتفال والمستخدمة من السلطات الامنية مستغربة وليس المنع في حد ذاته، فقد منعت في سني حكم الانقاذ فعاليات إحياء ذكرى استشهاد الاستاذ محمود كثيرا ليس في الاماكن العامة مثل المركز فحسب ولكن تمت ملاحقتها حتى داخل المنازل والمكاتب الخاصة في فترات سابقة ! و كان مفهوما في تلك الظروف وملابسات ما قبل اتفاقية السلام واجازة الدستور الانتقالي للعام 2005 لطبيعة النظام المنغلقة فكريا و سياسيا و المتشددة امنيا.
ومكمن الغرابة هنا ان مركز الاستاذ محمود محمد طه الثقافي مركز مرخّص له بالعمل الثقافي من وزارة الثقافة بولاية الخرطوم وقد جدّد ترخيصه السنوي قبل نحو اربعة اشهر بعد عقد جمعيته العمومية بحضور ممثل من الجهات الحكومية المختصة، وبحسب القانون فان اقامة المراكز الثقافية لأنشطتها داخل مقارها لا يقتضي اذنا من جهاز الامن الاّ اذا كان النشاط المراد اقامته خارج مقر المركز.
وكان مركز الاستاذ محمود محمد طه الثقافي الذي تأسس في العام 2009 قد اقام قبل الاحتفال الاخير ثلاثة احتفالات بذكرى 18 يناير وكانت جميعها معلناً عنها في وسائل الاعلام التى اتيحت وتجرأت في نشر الاعلان، فقد نظم احتفالا 2010 و 2011 داخل مقر المركز ولم يتم الاعتراض على ذلك من اية جهة حكومية بينما طلبت ادارة المركز من الجهات المختصة التصديق لها باقامة بعض فعاليات الاحتفال بالذكرى في العام 2012 في الميدان الغربي المجاور لمقر المركز ولم ترد عليها تلك الجهات بينما اكتفت هي باقامته داخل اسوار المقر.
يتضح من ما سبق ان منطق القانون - على علاته - ينتفي في التبرير لمنع اقامة الاحتفالية ولم يبق الاّ البحث في الاسباب الاخرى التي يمكن ان تكون وراء قرار المنع، واول ما يتبادر الى الذهن ان يكون الاحتفال بذكرى استشهاد الاستاذ محمود محمد طه في حد ذاته غير مسموح به على اعتبار الخصومة بين النظام القائم وبين فكر الاستاذ محمود محمد طه التجديدي المنطلق من داخل فضاء الدين الاسلامي والمناهض لتصورات الاسلاميين السودانيين ذات المرجعية الاخوانية السلفية وحلفائه من المكونات الدينية الاسلامية الاكثر سلفية والتي ترى انه لا ينبغي الاحتفال والتمجيد لشخص اعدم بتهمة الردة عن الاسلام، وقد كان هذا هو المنطق العاري للسلطات الى وقت قريب قبيل اتفاقية السلام و اجازة الدستور الانتقالي للعام 2005 الذي ولأول مرة احتوى على وثيقة كاملة للحقوق كفلت حرية الاعتقاد والتعبير عن الاعتقاد وفقا لما ينظمه القانون في مجتمع ديمقراطي، ويمكن ان تكون الحجة سائغة اذا كانت فقط موقفاً لهذه المكونات الاكثر سلفية من حلفاء النظام التي وللطبيعة المنغلقة لرؤاها الدينية لن تستطيع مهما تم التوضيح لها ان تتصالح ورؤية الاستاذ محمود محمد طه الدينية التجديدية او تقبل فكرة بطلان حكم الردة الصادر ضده من قضاة محاكم مايو فى نسختها الاشد اظلاما، و رغم ان النظام الحاكم ليس متقدما كثيرا فى حقيقة ايديولوجيته عن هذه المكونات ولكن ولاعتبارات عدة اولها انه الممسك بإدارة دولاب الدولة وتصريف شؤون الحكم ولأنه من مهر التوقيع على الدستور الانتقالي الذي لا يزال ساري المفعول فانه ملزم بأن يصون ذلك الالتزام ليس من الناحية الاخلاقية فقط و لكن لأعتبارات ادارته للدولة نفسها و احكام سيطرته عليها كما يتطلع الى ذلك، فهو ابتداءً الذي منح المركز الترخيص بالعمل في المجال الثقافي والتنويري، ومع ان المركز مسجل كمنظمة مجتمع مدني مفتوحة العضوية للسودانيين من غير الجمهوريين وليس حزبا سياسيا ولكنه يحمل اسم الاستاذ محمود محمد طه ويتخذ من منزله المتواضع بالثورة الحارة الاولى مقرا له وهو ذات المنزل الذي كان محور حركة الاخوان الجمهوريين منذ مايو 1969 والتي امتد اشعاعها التنويري الى كافة ارجاء السودان وحتى تنفيذ حكم الاعدام الجائرعلى الاستاذ محمود في 18 يناير 1985 و بالتالي لا يمكن ان تصادق الدولة – الواقعة تحت قبضة النظام الانقاذي - على قيام المركز ثم تأتي لتمنع انشطته خاصة و ان قيام المركز و استمرار انشطته يمكن ان يساعدها فى تحسين صورتها السيئة ووضعها الذى يتذّيل القوائم الدولية فى مجال الحريات الدينية و المدنية و خاصة بعد انفصال الجنوب.
أما الاعتبار الثاني فيتمثل في الحكم القضائي الصادر عن المحكمة العليا، الدائرة الدستورية بناءً على الدعوى القضائية المرفوعة ضد حكومة جمهورية السودان من اسماء محمود محمد طه و عبد اللطيف عمر حسب الله في 25 فبراير 1986، بعد الانتفاضة التي أطاحت بنظام الرئيس الاسبق جعفر نميري، وتطالب باعلان بطلان اجراءات المحاكمة الجائرة التي تمت للاستاذ محمود محمد طه، واربعة من الاخوان الجمهوريين وقضت باعدام الاستاذ محمود بعد ان غيّرت التهمة اثناء سير القضية الى (الردة) التى لم تكن موجودة اصلا فى القانون الجنائى السودانى ، فاعمل قاضى غير المختص رأيه و لفّق تهمة كانت قد وجهت للاستاذ محمود فى العام 1967 و لكن لم تكتمل خيوط المؤامرة وقتها لاعتبارات الحكم الديمقراطى و مهنية و نزاهة القضاء وقتها .
وقد تم نظر قضية الاستاذة اسماء محمود محمد طه و الاستاذ عبد اللطيف عمر حسب الله فى فبراير 1986 بواسطة القضاة :
محمد ميرغني مبروك رئيساً، هنري رياض سكلا عضواً، فاروق أحمد إبراهيم عضواً، حنفي ابراهيم محمد عضواً، زكي عبد الرحمن عضواً، محمد حمزة الصديق عضواً، ومحمد عبد الرحيم عضواً.
وكانت هيئة الدفاع، التي تولت رفع الدعوى، مكونة من السادة المحامين :
د. بيتر نيوت كوك، عبد الله الحسن، عابدين إسماعيل، طه إبراهيم، جريس أسعد، والاستاذ محمود حاج الشيخ. وبعد تقديم هيئة الدفاع مرافعتها طلبت المحكمة، من النائب العام، السيد عمر عبد العاطي، باعتباره ممثل الحكومة، ان يرد على مذكرة الادعاء المرفوعة بواسطة المحامين، فجاء ردّه كالاتي:
1- نعترف بان المحاكمة لم تكن عادلة ولم تتقيد باجراءات القانون.
2- ان المحاكمة اجهاض كامل للعدالة والقانون.
3- لا نرغب في الدفاع اطلاقاً عن تلك المحاكمة.
وبعد المداولات، جاء قرار المحكمة العليا، الذي ابطل الحكم الصادر من محكمة المهلاوي و الذي قضى باعدام الاستاذ محمود محمد طه و استتابة تلاميذه الاربعة ونورد منه هنا الآتي:
"ان محكمة الاستئناف، وفيما نوّهنا به، اشتطت في ممارسة سلطتها على نحو كان يستحيل معه الوصول الى حكم عادل تسنده الوقائع الثابته وفقاً لمقتضيات القانون. ويبين ذلك جلياً مما استهلت به المحكمة حكمها حين قالت :
"ثبت لدى محكمة الموضوع من اقوال المتهمين ومن المستند المعروض امامها وهو عبارة عن منشور صادر من الاخوان الجمهوريين ان المتهمين يدّعون فهماً جديداً للاسلام غير الذي عليه المسلمون اليوم... الخ".. وبمراجعة المستند المشار اليه واقوال المتهمين التي ادلوا بها امام المحكمة الجنائية لا نجد سنداً لهذه النتيجة الخطيرة التي نفذت اليها محكمة الاستئناف مما يكشف عن حقيقة واضحة هي ان المحكمة قد قررت منذ البداية ان تتصدى بحكمها لفكر المتهمين وليس لما طرح امامها من اجراءات قامت على مواد محددة في قانون العقوبات وامن الدولة، وأدى الى تحريكها منشور محرر في عبارات واضحة لا تقبل كثيراً من التأويل".
وبعد تمحيص طويل ونظر مدقق في الحيثيات والبينات التي استند اليها الحكم الاول قررت المحكمة ما يلى :
1- اعلان بطلان الحكم الصادر في حق المواطنين محمود محمد طه والمدعي الثاني في هذه الدعوى من المحكمة الجنائية ومحكمة الاستئناف.
2- الزام المدعين برسوم واتعاب المحاماة في هذه الدعوى.
ونشر ذلك الحكم فى الصحف المختلفة وقتذاك الى جانب مجلة الاحكام القضائية لعام 1986 تحت عنوان "حيثيات المحكمة في قضية أسماء محمود وآخرين ضد حكومة السودان".
لذا كان اجدر بالنظام و من خلال سيطرته على مؤسسات الدولة وهو يتمشدق بالحجج القانونية في منعه الاحتفال ان يبصّر الجهات الامنية بذلك الحكم او ان تنوّر الهيئة القضائية الجهات السياسية والامنية بحكم المحكمة العليا الدائرة الدستورية القاضي ببطلان حكم الردة الصادر ضد الاستاذ محمود من محاكم التفتيش المايوية على اعتبار انه حكم من اعلى هيئة قضائية فى البلاد اذا كانت حريصة حقا على سمعة القضاء كما تدعى ومن ثم لجم المكونات السلفية الحليفة له إن هي ضغطت عليه من اجل منع قيام مثل هذه الاحتفالات او شرعت في ذلك من تلقاء نفسها.
واذكر ان جامعة النيلين بالتواطؤ مع السلطات الامنية كانت قد منعت اتحاد الجامعة قبل نحو اثني عشرعاما من اقامة الاحتفال بذكرى الاستاذ محمود محمد طه بدار الاتحاد، وقد بررت ادارة الجامعة ذلك، في بيان وزعته على الصحف، بأن الجامعة تضم اكبر كلية للقانون فى البلاد، وبالتالي فانها لن تقبل ان تتعرض حرمة القضاء للطعن من داخل مبانيها. ولم تستح ادارة الجامعة من رفع مثل هذه الحجة فى الوقت الذي كان حري بأكبر كلية للقانون في البلاد تحتضنها الجامعة ان يكون جزءا من شاغلها الاكاديمي ان تدّرس طلابها قضاة وقانونيي المستقبل وقائع المحاكمة الباطلة التى تمت للاستاذ محمود محمد طه و تلاميذه الاربعة امام محكمة القاضي المهلاوي ثم الحكم الصادر من المحكمة العليا الدائرة الدستورية الصادر فى العام 1986 و الذى قضى ببطلان حكم الردة ضد الاستاذ محمود واستتابة تلاميذه بدلا عن تزوير الحقائق.
و ربما كان السبب – وهو الراجح عند اغلب المهتمين - وراء منع الاحتفال بذكرى الاستاذ محمود محمد طه و المختبئ خلف حجة عدم التصديق هو الحملة الكبيرة التي يشنها النظام واجهزته الامنية والسياسية ضد الحريات بشكل عام و ضد المراكز الثقافية ومنظمات المجتمع المدني والتي نتج عنها حتى الآن اغلاق اربعة مراكز ومنظمات ثقافية هى بيت الفنون والدراسات السودانية والخاتم عدلان للاستنارة والتنمية البشرية ومنظمة (ارى)، بذريعة انخراطها في انشطة لتغيير النظام وتهديد الامن القومي، لكن الواضح لدى النشطاء ان الحملة تتدثر بذلك اخفاءً للاجندة السياسية المبطنة في رغبة النظام العمل على انهاء تأثير تلك المنظمات والمراكز الثقافية على الوعي العام نتيجة نشاطها النسبي ازاء الضعف العام للقوى السياسية في الوقت الذي يعمل فيه النظام بليل من اجل طباخة دستور جديد للبلاد يعتقد انه يمكن له من خلاله ان يحكم به سيطرته على الاوضاع في البلاد واقصاء الآخرين. وما يريب ان مركزالاستاذ محمود محمد طه الثقافي قد زارته لجنة حكومية خاصة بمخالفات الاسكان قبل ايام من الاحتفال بالذكرى ودفعت بحجة واهية الى ادارة المركز بأن جيران المركز بالثورة الحارة الاولى اشتكوا من ازعاج تسببه لهم الانشطة المقامة به وهي حجة تدحضها موافقة الجيران المسبقة كتابة على قيام المركز الذي اسلفنا انه يتخذ من منزل الاستاذ محمود المتواضع مقرا له وهو المنزل الذي كان محورا لنشاط الاخوان الجمهوريين الكثيف والمتواصل ليلا ونهارا منذ مايو 1969 وحتى 18 يناير 1985. وكان مواطنو الثورة الحارة الاولى قد كرّموا الاستاذ محمود قبل نحو عامين باعتباره رمزا وطنيا سامقا ومناضلا جسورا ضد الطغيان الامر الذي يتنافى مع مزاعم شكوى الازعاج من الجيران. ولا ادري لم تلقت لجنة مخالفات الاسكان هذه الشكوى تحديدا وفي هذا التوقيت من جيران مركز الاستاذ محمود وتغافلت عن الدور المختلفة للاحزاب والهيئات وعلى رأسها دور حزب المؤتمر الوطنى الحاكم ومقار الحركة الاسلامية وغيرها التي تكتظ بها الاحياء السكنية ليس فى ولاية الخرطوم وحدها ولكن في كل انحاء السودان ؟ !.
أما السبب الظاهر بالنسبة لي في قرار المنع فهو مكافأة النظام للتكوينات السلفية ورجال الدين المتحالفين معه على حملتهم النشطة المستمرة الآن ضد القوى السياسية المعارضة التي وقعت على ميثاق (الفجر الجديد) وهذه المجموعات الدينية ظلت تتحالف مصلحيا مع كل النظم التى تعاقبت على حكم البلاد و خاصة الشمولية منها وكان الاستاذ محمود وفكرته من اكبر المنازلين لها في الساحة واستطاع ان يبين افلاسها وكساد فهمها الديني القاصرعن حاجة العصر وطاقته من داخل القرآن والسنة المطهرة بتجسيد قيم الدين فى سلوكه اولا ثم تعريته لهم بلسان المقال المبين ثانيا وكانت هي بتحالفها مع نسخة مايو الاخيرة السبب (الظاهر) في المؤامرة التي انتهت بتنفيذ الحكم الجائر باعدام الاستاذ محمود محمد طه وظنت – مع أن بعض الظن اثم - انها بذلك استطاعت اقصاء فكرته عن ساحة النزال لذا فان أي عودة للتذكير بسيرة الاستاذ محمود او فكرته ترعد قلوبها وترجف فرائصها، وتزداد همة هذه التكوينات اذا علمنا ان من ينشط بينهم الآن المكاشفي طه الكباشي احد القضاة الذين قال عنهم الاستاذ محمود قولته الشهيرة امام محكمة القاضي المهلاوي انهم غير مؤهلين فنيا وضعفوا أخلاقيا !.وما درى النظام الغافل الذى خرج عن الشريعة فعليا بأسم تطبيق الشريعة حتى استحل الربا وولغ فى دماء شعبه و ازكمت روائح فساده انوف قاعدته اولا قبل عامة الشعب ان الخروج من مأزقه الفكرى و السياسى و حتى الشخصى لقياداته ليس له من سبيل الاّ بالتواضع و النظر فيما قاله الاستاذ محمود محمد طه ، ويمكن لمن شاء منهم ان يستقيم على الجادة ان يطل على تلك المقولات على الرابط :www.alfikra.org
لم تكن القوة الامنية التى نفذت قرار منع اقامة الاحتفالية تحتاج ان تاتى مدججة بالسلاح ولا بكل ذلك العدد لتغلق المدخلين المؤديين الى مركز الاستاذ محمود محمد طه ، فهم لو كان يعلمون ان الرمز المحتفى به ظل و طوال سنى دعوته لفكرته التى فاقت الاربعين عاما يحدّث عن السلام ليس مع البشر فحسب وانما مع الاحياء و الاشياء و قد جسّد مقولاته هذه عمليا و لم يحمل حتى عصا ليتوكأ عليها كما قال الدكتور منصور خالد ، فى الوقت الذى يرى فيه القائمون على الاحتفال بذكراه من تلاميذه ان من اكبر ابواب الوفاء لاستاذهم ووالدهم الروحى هو الالتزام العملى بروح دعوته وهى السلام واحترام القانون الدستورى و ليس القانون الجائر بالطبع ! .