إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

جاليليو ومحمود بين البراءة والإدانة
وحكاية الإبتسامة التاريخية

يوسف قباني


جريـدة الأيام- الأحد ١٩ يناير ١٩٨٦

جمع الأستاذ تلاميذه في مسيرة هادئة ، يتقدمها النساء والصبية ، متوجهاً إلي قصر السلطان ، يحمل مذكرة تاريخية ، يعارض فيها القوانين التي قطعت يد السارق في زمن المجاعة .
فقد السلطان صوابه ، فزرع بزته العسكرية بشتى الأنواط والأوسمة .. وألقى خطاباً جارحاً ، وزج بالمعارضين في السجن ، وبعد عدة أيام ، شكل محكمة ، أعظم قضاتها نال درجة الدكتوراه فيما يخرج من السبيلين ، وطلبوا من الأستاذ الإستتابة ..
رفض الأستاذ حتى الاعتراف بأهلية المحكمة ، ورفض دفاع المحامين المتبرعين .
و جاءت ساعة الاستجواب ، فواجه قضاته بأنهم غير مؤهلين فنياً وأخلاقياً .. شتت هيبة القضاء فأجلت الجلسة .. تشاور الطغاة .. أعلنوا في الجلسة الثانية حكم الإعدام .. أيده السلطان . إنتظروا الأستاذ ثلاثة أيام ليتخلى عن فكره ـ بعدها إقتيد إلي المقصلة ، مشي بجلال نحو الحبل ، واستدار وجهه النبيل صوب المحتشدين وابتسم .. وأسلم أنفاسه الأبدية إلي كل رئـة ، وأطاح بعرش السلطان بعد ثلاثة أشهر من رحيله .
العالم الذي قال ( إن أجمل مشهد وأبدعه هو أن ترى سطح القمر ، فهو بكل تأكيد ليس سطحاً مصقولاً ، ولكنه سطح وعر ، وغير مستوٍ ، ومثل سطح الأرض نفسها ملئ في كل مكان بالنتؤات ، والهوات العميقة ، والتعرجات) هذا العالم رأى بمنظاره لأول مرة أقمار المشتري الأربعة ، وأنجز أعمالاً هامة في العلوم الأساسية ، وفي مجال الإختراعات العلمية ، إخترع ؛ جهاز تمدد السوائل ، وميزان مائي يعمل بقاعدة أرشميدس لتعيين كثافة الأجسام الثمينة ، وجهاز البوصلة العسكرية . هذا هو غاليليو ؛ العالم الإيطالي الفلكي الذي برأته الفاتيكان بعد حوالي 300 عام من محاكمته أمام التفتيش في عام 1633 . وجاء في تصريح البراءة عن بول بوبار رئيس سكرتارية الفاتيكان أن قضاة محكمة التفتيش الذين أصدروا حكمهم بإدانة الفلكي المشهور ، كانوا يعيشون في عصر تفشى فيه الجهل والأفكار الخاطئة في كل أنحاء أوربا.
كان غاليليو يؤمن أن الحقيقة يجب أن تقنع الجميع ، وكان الكرادلة يقولون ( كل من ليس معنا فهو مرتد وكافر) .. وأنهم أي الكرادلة قبل ظهور جاليليو لم يحتملوا التخمينات العلمية التي أتى بها (جوردانو برونو) فأمروا بهلاكه وأعدم حرقاً بالنار ، وكان هذا أسلوب الكاثوليك في عقاب العلماء المرتدين في ذلك العصر .
ولقد ذاع صيت غاليليو في مدينة بيزا والبندقية بإحتوائه لنظرية كوبرنيكس والدفاع عنها ، وكانت الأخبار تتسرب إلي روما ، وروما تعد العدة لغاليليو المسكين . وأخيراً ذهب غاليليو إلي روما لإقناع الكرادلة بعدم حظر النظام الفلكي الكوبرنيكي فوجد غاليليو النص الآتي أمامه : ــ
" الآراء التي يجب حظرها :
1 ــ أن الشمس ثابتة لا تتحرك في السماء .
2 ــ أن الأرض ليست مركز الكون ، وأنها غير ثابتة ، وأنها تتحرك بحركة مزدوجة ."
وكان غاليليو قد طبع كتابه "حوار حول الأنظمة العالمية الكبري" علي نمط حوار بين أشخاص .
وبهذا طلب من غاليليو المثول أمام محاكم التفتيش التي إنشئت للحد من إنتشار مبادئ حركة الإصلاح وشكلت المحكمة من عشرة قضاة من الكرادلة والدومينكان .
وحضر غاليليو في أبريل عام 1633 وكان قد أُحضِر مرة أو مرتين إلي قاعة محكمة التفتيش ، وكان الحكم قد حُدِّد بصورة دقيقة مبيتة ، لا مجال فيها للنقض ، شبيهة بالاحكام المطلقة ، وكانت الأسئلة باللغة اللاتينية .
( إن هذا العالِم المنشق ، والذي حُذر من تبني آراء كوبرنيكوس التي تناقض التعاليم المقدسة .. هذا العالم يجب أن يهان ويذل ، وعلي السلطة أن تبدو كبيرة ، وعلي غاليليو أن يسحب أقواله ، ويخـَطِئ آراءه ، فإذا رفض فيجب أن يُعذب .) ..
ويذكر التاريخ أن طبيباً إنجليزياً كان قد عُذب بجهاز شد الجسم ، علي يد محاكم التفتيش الإسبانية.
لكن غاليليو لم يُعذب ، بل هُدِّد بالتعذيب مرتين ، ولما زاد التهديـد والإرهاب والضغط ، إستجاب غاليليو ، و وافق ، وتم التراجع عن آرائه ، و سحب كل ما قال ، وكتب بخط يده وثيقة الخلاص والتخلي عن آرائه . وإليكم الأسطر الأخيرة من الوثيقة التاريخية :
( أنا المدعو غاليليو غاليلي ، قد إعترفت بأخطائي ، وأقسمت ، و وعدت ، و تعهدت ، ، كما هو في أعلاه ، وشهادة صدق ، ذلك ، قد كتبت بخط يدي هذه الوثيقة ، المتعلقة بإعلان تنصلي من تلك الآثام ، وتلوتها كلمة ، كلمة ، في روما في دير منيرفا ، في هذا اليوم الثاني والعشرين من شهر يونيو عام 1633 ).
بعد ذلك وضع غاليليو تحت الإقامة الجبرية في منزله .. ولقد أثار ذلك الأمر العالم الفرنسي رينيه ديكارت فتوقف عن النشر وترك فرنسا وهاجر إلي السويد ، والجدير بالذكر أن الشاعر الإنجليزي الشاب (جون ملتون) كان قد جاء لزيارة العالم المحبوس في منزله ، والذي حوكم ، وكان عمره 70 عاماً آنذاك .
وبنهاية المحاكمة التاريخة مات النشاط العلمي في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط ، ونما وأزدهر في شمال أوربا .
وقبل أن يكمل غاليليو آخر كتبه (العلوم الجديـدة) التي تعني بالفيزياء المختصة بالمادة علي الأرض وليست الفيزياء في النجوم ، كان قد فقد بصره ، ومات وهو ما يزال حبيساً في منزله عام 1642 . وكان قد كتب لأحد أصدقائه قائلاً :
( وا أسفاه .. لقد أصبح غاليليو صديقك ، وخادمك المخلص ، منذ شهر ، كفيف البصر كلياً ، بشكل لا يرجى شفاؤه ، وبحيث أن هذه السماء ، وهذه الأرض وهذا الكون ، التي كبرتها بمشاهداتي الرائعة ، و عروضي الواضحة مئة مرة ، بل ألف مرة فوق الحدود المقبولة عالمياً من الرجال والعلماء في العصور السابقة ، قد تقلصت الآن وانكمشت بالنسبة لي ، إلي حجم ضيق يساوي الحجم الذي تملؤه أحاسيس جسمي الخاصة).
لقد برأ الفاتيكان غاليليو .. والآن زرعت أمريكا مرصداً يمكن من رؤية كل الكون الشئ الذي جعل أحد العلماء يتحدث معلقاً ومتخوفاً من الإنقلابات التي سيحدثها في القواعد العلمية الثابتة مبدئياً بعد نتائج الرصد المتوقعة .
ألا تقودنا براءة غاليليو إلي براءة وإنصاف المفكر السوداني الشهيد محمود محمد طه ؟ الذي قدم نفسه قرباناً وفداءاً للشعب السوداني .. والذي أنشئت له عام 1968 محكمة الردة الشهيرة ، وما أثنته عن عزمه ، فواصل مسيرته الفكرية دون أن يرفع أصبعاً في وجه أحد..
وكان هو واتباعه مثاليين في تعاملهم مع الناس ، فكم ضـُرِبوا ، وأُهينوا ، وسبت اعراضهم .. فكان سلاحه الوقار الجم ، هو ومن معه ، وتقليد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما يقرب من ثلاثـمئة كتاب حجة دامغة أعيت أعداءه ، فما استطاعوا إلا تصفيته جسدياً .
وقبل المؤامرة والتصفية ، لفت الأستاذ محمود نظر العالم إلي أن محاكم التفتيش السودانية شكلت بقضاة غير مؤهلين فنياً وأخلاقياً .. وهذه العبارة قد أطاحت بالهياكل القضائية آنذاك ، وحشدت دولة النميري في ساحة سجن كوبر آلاف الناس ليشهدوا كيف يستبسل الرجال .. وابتسم الأستاذ محمود محمد طه وأسلم رأسه الجليل لحبل المشنقة وهو شيخ في السادسة والسبعين من عمره ، وضرب بذلك أول وآخر مثال من أمثال البسالة والشجاعة في أرض السودان .
وقرأنا ماذا كتب العالم عن محمود . ترى بعد كم عام يأتي قوم آخرون ، ويعلنون أن محموداً كان حلاج القرن الحادى والعشرين ؟


جريـدة الأيام
الأحد 19 يناير 1986
الموافق 9 جمادى الأولى 1406 هـ