إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

مرآة ومواقف

عصام إبراهيم جمال الدين


بلجيكا (١٩٨٨) - الذكرى الرابعة لاستشهاد الأستاذ محمود محمد طه

قال محمود كلمته ومضى.."هذا أو الطوفان" كانت الكلمة لقاحاً..فأصبح اللقاح كلاماً..وأمسى فاعلاً..يمضي بطيئاً ولكنه استمر إلى غايته من أجل غايتين كريمتين..الاسلام..و.."عزة"، ولكأنما نصب له علم وشمر يطلبه...!!، قال السيد المسيح عليه السلام.."إن كلمتي لا ترجع إليَّ فارغة..!!"

كانت لحظة عشق صوفي
يبحث عنها أعشقنا..
منذ سنين الخلوة والتسفار
منذ أوان الغوص المضني
في بحر التيه المظلم..
طلباً للحكمة من أفواه البسطاء
والمصلوبين على طرقات المدن المنكوبة
والسجناء..
كانت لحظة صدق يبحث عنها أصدقنا
منذ سنين الصدق الأولى
الأحرف كانت تتعانق كي تولد كلمة
تقشع ظلمة..
فتميد قوادم من وقفوا في وجه رياح التغيير

الكلمة تخرج من فيه قصيدة..
لايفهم ما تعني..سفاح مأجور..أو حفيان بلاط..
لا يدركها من هتفوا ولأجل امام الزور الهالك..
والمعتوه..
لا يعها السادن..عبدالذهب..الماجن..
المتستر خلف عباءات التقوى..خادم "سارتانا"
الأوحد..
كاتم سر القصر المفضوح
وكل جيوش الأقزام..

الله لنا..
فكلاب السلطة كانت تنبح مسعورة..
تعدو خلف العظم الملقى من شباك لصوص العملات..
وتجار السوق الأسود..السوق الداكن والمتفحم..
السوق المفتوح الأبواب كدور العهر..
لمن يحني هامته أو يدفع أكثر..
كلاب السلطة كانت تلهث خلف ريالات الصدقة..
كانت تلهث خلف الدرهم خلف الهللة..
الله لنا..
مازالت مشنقة العشق حزينة..
لم تدرك قبلاً ما معنى أن يتدلى منها جسد أو يسقط
أسفلها نعل..
لم تدرك قبلاً ما معنى أن يتأرجح منها معبد
أو كتلة صلصال

في ذاك اليوم الفيصل
كل الأشياء تداعت
كل الأشياء اتشحت لون زمان الفوضى..
نظارة ذاك المتخم..والسن الذهبية..
والساعة تلك الممهورة..بالرأس الذيل..
والخاتم في بنصر عبد المأمور..
ومن قادته قدماه طبيباً..
يكتب تذكرة الميلاد..
إذ يكتب تذكرة الموت..
كل الأشياء اتشحت لون زمان الفوضى
آلات التصوير..أجهزة الصوت..
مقاعد مدرسة الحي المنسي..
الملأى بالأطفال الأشباح..

أسلاك الهاتف..
قنوات التلفاز..
أمواج الكلمات المنثورة..
أعمدة الصحف المكتظة بالترهات..
طرق الأسفلت السيارات..
حيطان السجن الصماء..
صيحات الباعة والجوالين..
نفير السارية العجفاء..
كل الأشياء اتشحت لون زمان الفوضى..
كل الأشياء انكفأت
دفنت بين يديها رأساً يبحث عن مخبأ..
وعيون تبحث عن ملجأ..
كانت لحظة صفو عابرة..كانت مرآةً..
كانت مرآة لا تعكس إلا ما تعرف
كانت تعرف ان الليل على وشك الإبحار
وأن زماناً صبحاً أخضر يطرق باب
مدينتنا
يطلب أن تاذن
كنا نتلهف.. كنا نحلم
أن يأتي يملأ ايدينا بالرطب وبالأعناب
فحملنا كل عبارات الترحاب..
كانت وقفته حداً بين الكلمة والمعنى..
بين المطلق والمحدود
كانت وقفته حداً بين المدرك والمحسوس..
بين العلم وبين الجهل
بين الديمومة والموت
بين الهوة والقمة
بين النقمة والنعمة
كانت وقفته لا تشبه إلا واقفها..!!
وكنا أجمل من يتعلم
كنا أجمل من يتعلم..!!

* نشرت بصحيفة الأيام في صفحة آداب وفنون في 17 يناير 1989