إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
أهل الحشو أو " الحشوية " هم الذين يرتكبون كل الجرائم والفظائع ، وينسبونها إلي الله . وكان قسس القرون الوسطى يحكمون علي المرء بالموت ، ويشعلون في جسده النار ، ويقولون ان الله هو الذي فعل ذلك ..
وفي مثل هذه الأيام من العام الماضي حكم المهلاوي، وحاج نور، والمكاشفي، ومحمد سر الختم ماجد، وجعفر نميري، وغيرهم، بالإعدام شنقاً حتى الموت علي المفكر الشهيد محمود محمد طه ، ونفذوه نهار 18 يناير 1985 ، ثم عادوا فقالوا ؛ ان محمود " أماته الله شنقاً في سجن كوبر" !
وهكذا وبمنتهى السهولة يريدون أن يغسلوا أياديهم من الدماء التي لطختها ، ويطهروا ضمائرهم من الجريمة التي أثقلتها . ولو كان مثل هذا المسلك مشروعاً دينياً لأصبح في مقدور كل المجرمين أن يضعوا جرائمهم علي أعتاب الذات الإلهية ويمضوا إلي حال سبيلهم !
والمسألة لا علاقة لها بالتوحيد ، بل تقع برمتها في إطار المكر الإجرامي الذي يدفع أهله للإنفلات من مسئولية جرائمهم بكل الوسائل والسبل .
ولا نريد أن نذهب بعيداً ، فقد قال النميري في تأييده للحكم أنه عكف علي دراسة أوراق القضية سبعاً وعشرين ساعة (فلم أجد لمحمود محمد طه وحزبه مخرجاً ولا شبهة تدرأ هذا الحكم الحدّي) وبذلك يصبح حق الحياة لمحمود وحزبه متعلقاً بفهم النميري للدين واستيعابه للفقه !
ونحن قد رأينا الحكم ينتقل من يد قاتلة إلي يد قاتلة أخرى ، ورأينا المقصلة تقام وتتطاول ، ورأينا الرجل يساق والجسد يتدلى .. إنها جريمة شهودها الناس جميعاً ، ليس في السودان فقط ، بل في العالم كله ، لأنها إحدى أبرز جرائم العصر .
وفي مواجهة القاصرين الهاربين من مسئولية أعمالهم من رجال الدنيا اللابسين أقنعة الدين ، ومن الحكام الطغاة ، نلمح جمع الشهداء الذي يعمر تاريخ السودان ، ممن تصدوا للمسئولية الكاملة عن كل مبادئهم ، وممن قالوا أن أجسادهم ليست سوى النسخة المجسدة لتلك المبادئ ، و واجهوا السيف ، والرصاص ، والمشنقة المنصوبة ، علي الفروة ، وبالتحية العسكرية الأبية ، وبالهتاف بمجد السودان وثواره ، وبالإبتسامة الوضاءة المشرقة .. هولاء هم الباقون ..
أَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء
جريدة الميدان | العدد 875
4 جمادى الأولى 1406 هـ
الموافق 15 يناير 1986