إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الحركة الإسلامية: هل تستطيع ان تنقذ نفسها من الإنقاذ؟! (٣-٣)

د. عمر القراي


بمناسبة إنعقاد مؤتمر الحركة الإسلامية

(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا...) صدق الله العظيم

إن خطيئة الحركة الاسلامية الكبرى، هي أنها جاءت الى السلطة عن طريق الإنقلاب العسكري. ولما كان الانقلاب لا يتفق مع دستورها، واهدافها المعلنة، كما لا يتفق مع الاسلام، فقد اضطروا الى الكذب، والتضليل، في بداية امرهم، فنفوا علاقة الحكومة الجديدة بالحركة الاسلامية.. ولم يكتفوا بذلك، بل اعتقلوا زعيم الحركة د. الترابي، إمعانا في التضليل، وكما روى هو نفسه فيما بعد، انه قال للرئيس (اذهب انت الى القصر رئيساً واذهب انا للسجن حبيساً)!! ولقد كان جل إهتمامهم أن يخدعوا الشعب، حتى يؤخروا المعارضة، التي قد تهدد كراسيهم.. ولو كانوا يخشون الله، ويشعرون بأنه مطلع على أكاذيبهم التي يشيعونها بأسمه، لما فعلوا ذلك!! وخطيئة الحركة الإسلامية هذه، لم ينج منها أحد منهم، بما في ذلك الذين أخذوا ينقدون الإنقاذ مؤخراً، مثل د. الطيب زين العابدين، و د. عبد الوهاب الأفندي، و د. التيجاني عبد القادر، لأن هؤلاء لم يعترضوا على وصول الحركة الاسلامية للسلطة عن طريق الإنقلاب، وإنما اعترضوا على ما حدث بعد ذلك، مما كانت نتائج طبيعية لنهج اغتصاب السلطة الدكتاتوري، الذي يبطش بالخصوم والمعارضين، خوفاً من فقدان السلطة، التي كان قد انتزعها بغير حق، فهو يخشى إذا فقدها ان يؤاخذ بجريرته.
لقد قامت الحركة الإسلامية في السودان باغتصاب السلطة بالقوة في 1989م، بعد ان عجزت عن الوصول اليها عن طريق الإنتخابات في1986م. ولعل المفارقة في هذا العمل، ليست فقط مفارقة حقوق الإنسان والنهج الديمقراطي، ولا مفارقة الشورى، وحق الجماعة في حكم نفسها، من الناحية الشرعية، وإنما قبل ذلك مفارقة المواثيق التي اعتمدتها الحركة الاسلامية نفسها، وعلى اساسها قامت بتجنيد عضويتها.. فقد جاء (ولعل أهم الوثائق التي تتضمن مواقف الحركة النظرية من حقوق الإنسان نجدها في دستور جماعة الأخوان المسلمين لعام 1981 والذي قصد به أن يكون مقدمة لدستور الدولة الإسلامية التي تسعى الحركة لإقامتها بعد زوال نظام الرئيس جعفر نميري وقد انتقل جزء كبير منه خاصة في مجال الأهداف لدستور الجبهة الإسلامية القومية التي أسست حزباً سياسياً في 1985 بعد سقوط نظام الرئيس نميري، وفي بعض المحاضرات والكتيبات التي ألفها زعيم الحركة الدكتور حسن الترابي، ثم في وثيقة السودان لحقوق الإنسان التي أجازها المجلس الوطني الانتقالي في عام 1994 ولكنها غير معروفة.

دستور جماعة الأخوان المسلمين


جاء في الباب الثاني من الدستور تحت بند (الأهداف) أربعة فصول تتحدث عن: الأهداف السياسية والدستورية؛ الأهداف الاقتصادية؛ الأهداف الاجتماعية؛ الأهداف الثقافية. ونورد فيما يلي بعض ما ورد في هذه الفصول وله صلة بحقوق الإنسان.

الأهداف السياسية والدستورية


تقول المادة (5): إقامة الحكم الإسلامي القائم على الشورى والمساواة وحرية المواطنين في اختيار الحاكم وممثلي الأمة وحقهم في النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون تسلط أو إرهاب.

المادة (6): كفالة حرية المواطن في الاعتقاد وعدم اكراهه في الدين وضمان حرية المواطن في التعبير عن رأيه وحريته في الحركة والاجتماع والتنظيم وحماية دمه وماله وعرضه وحرمة منزله ومراسلاته.

المادة (8): تسعى الجماعة لتأكيد مسئولية الحاكم الذي تختاره الأمة عن تصرفاته الشخصية وأعماله الرسمية مسئولية دينية وسياسية وقضائية.

المادة (9): حماية المواطنين من الاستبداد والفساد السياسي والاستغلال الاقتصادي وأي شكل من أشكال القهر والظلم. وإقامة الحكم على المؤسسات منعاً لتسلط الفرد ونشداناً للاستقرار.

المادة (10): اشاعة العدل وتوفير المساواة للمواطنين أمام القانون وضمان استقلال القضاة ونزاهتهم وتوفير الخدمات القانونية للمواطنين.

المادة (14): حقوق الأقليات مصونة في الدولة الإسلامية وتضمن لهم المساواة في الحقوق السياسية والمدنية والعدالة الاقتصادية وحرية الاعتقاد والعبادة واستقلال قوانين الأحوال الشخصية والتعليم الديني.

الأهداف الاقتصادية


المادة (20): تأمين الحاجات الضرورية لكل مواطن من العيش الكريم والصحة والتعليم والأمن ورفع الظلم والفقر والمعاناة)(د. الطيب زين العابدين 10-11-2012 حريات).

كيف يمكن لجماعة تتكون من مئات الآلاف من الأعضاء، أن تضع دستوراً ينضم إليها الناس بسبب ما جاء فيه، ثم تقوم- دون أي إعتراض من أي من أعضائها- في الواقع بعكس ما ذكروا في دستورهم؟! ألا يدل ذلك على أنهم حين كتبوا هذه الوثائق، كتبوها بنيّة مفارقتها في التطبيق، ولم يكتبوها إلا بغرض تضليل الناس؟؟ هل يمكن لجماعة ان تكذب في مستوى طرحها المكتوب، ودستورها، ثم تكون بعد ذلك معبرة عن الإسلام؟! هل الإسلام نفسه، هين على الله، حتى يظهره على أيدي من يدعونه بالشعارات المكتوبة، ويفارقونه بالعمل؟؟

لقد بدأت حكومة الإنقاذ عهدها، بتصعيد الحرب في الجنوب، وإدعاء أنها جهاد في سبيل الله!! واستغلت هذه التعبئة، للبطش بخصومها السياسيين في الشمال، بدعوى مفارقتهم للإسلام، بدليل إعتراضهم على تقتيل اخوانهم في جنوب السودان، وفي جبال النوبة. إنما شهده السودان من بطش، وارهاب، وتعذيب، وقهر، واذلال في سنوات الإنقاذ الاولى، لم يشهده في عهد دكتاتورية نميري أو دكتاتورية عبود. وكان أول من استهدف طلاب جامعة الخرطوم، والجامعات الاخرى. فقد طردت الكفاءات من الاساتذة والاداريين، وعين مكانهم آخرين مهمتهم الاساسية هي القضاء على أي معارضة تظهر في الجامعة. وبلغت الانقاذ مستوى، جعلها تعين مديراً لجامعة الخرطوم معروف بالعنف والهوس منذ ان كان طالباً.. وحين نشب خلاف بين طلاب المؤتمر الوطني والطلاب الآخرين، جاء ذلك المدير العجيب، الى ميدان الآداب، يلبس زياً عسكرياً، ويحمل مسدساً اطلق منها عيارات في الهواء، وقال لمجموعة المؤتمر الوطني (اهجموا على الكفار)!! وهو يقصد زملاءهم من عضوية التنظيمات الأخرى، التي كونت تحالفاً ضدهم. وحتى تقضي الانقاذ على أي مظاهرة قامت بتحطيم التعليم الجامعي نفسه!! فألغت الداخليات، وشردت الطلبة والطالبات، مما أثرعلى تحصيلهم، كما ألغت معايير الكفاءة والامتحانات، فأعطت الدرجات العالية لمنسوبي المؤتمر الوطني، بناء على مشاركتهم في حرب الجنوب، وانتسابهم للدفاع الشعبي لا كفاءتهم الاكاديمية!! ثم كونت الحكومة الاتحاد العام للطلاب السودانيين، بالتعيين، من بعض رجال الأمن، وأعطته ميزانية مفتوحة، لأن أي معاملة لأي مواطن، من بيع أرض أو شراء أو غيره، يخصم فيها رسوم معلومة للاتحاد العام للطلاب السودانيين!! ولقد قام ذلك الاتحاد المزعوم، بالسطو جهاراً نهاراً على دار اتحاد الكتاب السودانيين بالمقرن، واحتلاها بوضع اليد!! ولم يكن له أي عمل في مساعدة أي طالب لا ينتمي للمؤتمر الوطني، بل كان دوره الاساسي، هو ملأ عربات بالسيخ، والعصي، والسكاكين، والهجوم على أي مجموعة تقيم نقاشاً يعري المؤتمر الوطني، ثم تصوير ذلك على انه اشتباك بين الطلاب، ليس للحكومة شأن فيه!! وقد قاموا أكثر من مرة، بضرب الطلاب والطالبات، في كل الجامعات السودانية بالعاصمة وبالاقاليم، وخاصة الجامعة الأهلية، التي اعتدوا على طلابها واساتذتها، بل وأحرقوها، حتى تتعطل الدراسة، حين فشلوا في الانتخابات وفقدوا الاتحاد!! ولقد قتل عدد من الطلاب، على أيديهم في هذه الاعتداءات، وحين وصلت بعض القضايا للمحاكم، كقضية طالب الحصاحيصا، أفلت الجناة مما يستحقوا من عقاب!!

لقد جاءت الإنقاذ ببدعة (بيوت الاشباح)، وهي أماكن مخصصة لتعذيب المعتقلين، بصور وحشية لا علاقة لها بالإنسانية، أو الاخلاق، أو القانون، أو الاسلام. ولقد تدرب رجال الأمن في ايران على أنواع من التعذيب، ينأى عنها الحس السليم، وقيم المروءة.. فلقد ضرب المعتقلون بالسياط، وبالخراطيش، وصعقوا بالكهرباء، وبالماء المثلج، وخلعت اظافرهم، وكووا بالنار، وربطوا وعلقوا، وضربوا في اماكن حساسة، حتى استشهد بعضهم، وتعوق بعضهم إعاقات دائمة، كفقدان السمع، والبصر، والحركة. كما تم إغتصاب الحرائر من النساء السودانيات، بصورة وحشية، في مكاتب الجهاز.. وتم إغتصاب الرجال الشجعان، الذي قاوموا الاعتقال والتعذيب، مما لا علاقة له بالإسلام أو بالاخلاق من قريب أو بعيد. ولقد نسى أعضاء الحركة الإسلام في نشوة الفرح بالسلطة، وفزعة الخوف من فقدانها، أخلاق الإسلام، وأخلاق الشعب السوداني!! إذ يقوم الأربعة أو الخمسة منهم، بضرب شيخ نحيل، مثل د. فاروق محمد ابراهيم، وهو معصوب العينين، ومكتوف الأيدي، ويسمعونه من الشتائم النابية، والألفاظ المقذعة، ما كان أشد إيلاماً له من الضرب.. ويكون من ضمن معذيبه هؤلاء، طالبه في كلية العلوم بجامعة الخرطوم، وزميله أستاذ كلية الزراعة بعد ذلك، د. نافع علي نافع، كما ذكر د. فاروق في شكواه، التي رفعها للسيد رئيس الجمهورية، ولم يحقق فيها.

إن هذا الظلم الفادح، خلف مرارات في النفوس، لن تزول بزوال الإنقاذ.. وهذه الأفعال البشعة، المنكرة، قد إرتبطت في وعي الشعب السوداني بالحركة الاسلامية، ولا سبيل الى نسيانها، أو القفز فوقها.. فلابد للحركة الاسلامية بشقيها الوطني والشعبي، ان تعتذر للشعب السوداني، وأن تفتح في مؤتمرها العام، الذي يقوم به المؤتمر الوطني في الشهر القادم، ملف (بيوت الأشباح)، وتطالب بمحاكمة من مارسوا التعذيب فيها، سواء أن قبلت الحكومة ذلك أو لم تقبله، ثم تعلن إبعادهم عن الحركة الاسلامية.. هذا إذا كانت الحركة الإسلامية صادقة في أمر الدين، وحريصة على استمرارها ككيان دعوي وسياسي في السودان في المستقبل.

ولقد قامت الإنقاذ، بحل جميع النقابات المنتخبة، وعينت نقابات تابعة لها، واعتقلت النقابيين وعذبتهم في (بيوت الاشباح).. كما شردت آلاف العمال والموظفين، وطردتهم بحجة ان ذلك هو الصالح العام للبلد، مع انه لم يكن إلا خراب البلد، ومصلحتهم هم الذاتية. كما قامت بمصادرة أملاك الاحزاب الطائفية الكبيرة، واعتقلت بعض الناشطين من اعضائها. ومنعت بعض ندواتها ولقاءاتها الجماهيرية.

ولم يحث أن أهينت الصحافة، وصودرت حريتها، كما حدث على عهد الانقاذ. فقد تمت مصادرة صحف بعد ان ضيق عليها بمنع الاعلانات، ثم اعتمدت الرقابة القبلية على الصحف، حيث يقرأ رجال الامن الصحيفة، قبل الطباعة، ويصادروا كلما لا يعجبهم فيها.. ثم اخذوا يصادرون الصحف بعد الطباعة، حتى يكبدوها خسائر مالية، أكثر من ذلك، منعوا بعض كتاب الأعمدة من الكتابة!! ولم يكتفوا بذلك، بل فتحوا بلاغات جنائية، على عدد من الصحفيين والصحفيات، وكتاب الرأي.. وكان الغرض النهائي من كل ذلك، ألا تكون هنالك الا صحفاً موالية للسلطة أو اخرى خائفة منها، حتى عزف المواطن السوداني من شراء الصحف، كما عزف عن مشاهدة القنوات السودانية التلفزيونية.

ثم صنعت الحكومة مجموعة من جهلة الفقهاء والأئمة، وسمتهم (علماء) السودان!! وكلفتهم بتزيين الباطل، واخرصتهم عن قول الحق.. فبدلاً من يعترضوا على فساد الحكام، الذي تسبب في الغلاء الطاحن، وافقر الشعب، واعجز سائره عن (الاضحية)، أفتوا بجواز اقتراض ثمن (الأضحية)!! وبدلاً من ان يعترضوا على زواج قيادات المؤتمر الوطني، بمثنى، وثلاث، ورباع، والشعب لا يجد قوت أسرة واحدة، افتوا لهم بجواز القاصر!! وذلك اتباعاً لهوى النفوس، المريضة، الملتوية، التي تريد ان تمارس فاحشة الاستغلال الجنسي للاطفال، تحت مظلة الدين!! فتعساً لسوأة (علماء) السوء!!

إن ما تورط فيه اعضاء الحركة الإسلامية، من قادة حزب المؤتمر الوطني، وقادة حكومة الإنقاذ، من سوء إدارة، وجرائم حرب، ومصادرة للديمقراطية، وتدمير للاقتصاد الوطني، وتشريد للعاملين الشرفاء، وتعذيب للمعتقلين في بيوت الاشباح، وفساد وثراء فاحش على حساب جوع الشعب، ليس فقط مجرد إنحراف مجموعة عن السراط المستقيم.. ولا هو مجرد وارتكابها لافعال متناقضة مع ما تعرف وتدعي من الإلتزام الديني، كما يحاول بيان الاتجاه الإسلامي المشار إليه في الحلقة الأولى ان يقنع الشعب.
إن للقضية وجهان: الوجه الأول والأساسي، هو الفهم الخاطئ للإسلام، الذي ظلت الحركة الإسلامية، ترزح تحته منذ نشأتها في عشرينات القرن الماضي. فأفكار الشيخ حسن البنا، والاستاذ سيد قطب، وابو الأعلى المودودي، جاءت بعد دعاة النهضة والاصلاح من امثال الأفغاني، ومحمد عبده، والطاهر الحداد.. ولم ترض عن دعوتهم للبعث الاسلامي عن طريق الاجتهاد السلمي، وبعث قيم الدين. واتهمتهم بالعجز والتواكل، وطرحت فكرة التغيير السياسي بالقوة، واعتبرته الجهاد المطلوب شرعاً، وشرعت في التسلح والعمل السري.. وهكذا ظهر الاسلام السياسي، الذي ركز على السلطة، واهمل التربية، ولم يكن مفكرو الحركة الاسلامية من العمق بحيث ينظروا في أمر الاجتهاد بل كانوا نقلة تابعين للسلف دون تفكير. بل اصروا على الدعوة لتطبيق الشريعة الاسلامية على بشرية القرن العشرين بنفس التفاصيل التي طبقت بها على بشرية القرن السابع الميلادي!! واتخذ الاسلام السياسي وهو في المعارضة، من عجز وفشل الحكومات في الدول الاسلامية، ذريعة لتجنيد الشباب، وتحريضهم ضد الحكومات، التي عزى فشلها لعدم تطبيق شرع الله.. وحين تصل الحركات أو الجماعات الاسلامية السلطة، تدرك ان تطبيق الشريعة غير ممكن، فتبدأ بالتحايل عليها، والخروج على صريح نصوصها، بشتى الإلتواءات، وهو ما اسماه الرئيس البشير في احدى خطبه (شريعة مدغمسة)!! ولما كانوا يرفعون شعارات الشريعة، ويطبقون غيرها، فقد وقعوا في المقت الإلهي، الذي قال تعالى عنه (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون؟! * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)، ومعلوم في السلوك الديني، أن كل خطيئة لم يتب صاحبها، تسوق الى أخرى، وذلك لأنها تدخل في القلب ظلاماً يحجب ما به من نور، يعين صاحبه على التمييز، واختيار الحق..
أما الوجه الثاني فهو ضعف الافراد، وعجزهم عن محاسبة أنفسهم، واتباعهم لشهواتهم في السلطة والنفوذ، وتكديس الاموال، وهو نتيجة للخطأ المفاهيمي الأول لأنه يرجع الى تقديم العمل السياسي على المنهج التربوي، كما أوضحنا أعلاه. فالاتجاه الإسلامي حين يدين حكومة الإنقاذ، والمؤتمر الشعبي حين يدينها، هل لديهم بديل عن تطبيق الشريعة؟! فإن لم يكن، فإن نية الاصلاح وحدها لا تكفي.. وهي قد كانت متوفرة لبعض قادة الإنقاذ في بداية عهدهم، ولكنها لم تجد شيئاً، وذلك لسبب بديهي، وبسيط، هو ان الشريعة الإسلامية، لا يمكن ان تطبق في أمر المعاملات في المجتمع اليوم.. وذلك لاختلاف حاجة وطاقة المجتمع المعاصر، عن مجتمع القرن السابع الميلادي بصورة لا تقبل المقارنة.. وإن أي محاولة لتطبيقها، تسوق الى مفارقتها، وتضطر المحاول للنفاق.

إن المأزق الذي وقعت فيه الحركة الإسلامية السودانية، مأزق تاريخي، تقع فيه كل الحركات الاسلامية التي تعتمد على الفكر السلفي التقليدي.. وفحواه محاولة تطبيق شريعة القرن السابع الميلادي، على بشرية القرن الواحد وعشرين، مما يؤدي بالضرورة الى الفشل الذريع.. وعندها ينفر الأذكياء من الدين، ويلتوي قادة الحركة الاسلامية لتبرير مفارقتهم، لما ادعوا صلاحه من الشرع الحنيف. ولو كان للحركة الإسلامية السودانية فضيلة، على غيرها من الحركات الاسلامية، فإنها إنكشاف امرها، بوصولها للسلطة، لأن الشعارات التي كانت تجعل للحركة بريقاً، وزخماً، امتحنت في التجربة العملية وسقطت. والآن وضعت حركة الاخوان المسلمين في مصر، في المحك، بوصولها للسلطة، وهي أيضاً ستتخبط، وتفشل، وتسئ الى الشعب، حتى تنكشف له، ويتبرأ منها.. إن الأمر الذي فات على كل الحركات الاسلامية، هو ان كمال الشريعة الإسلامية ليس في ثباتها على صورة واحدة، هي التي طبقت في القرن السابع الميلادي.. وإنما مقدرتها على التطور، ومواكبة العصر، وكونها من الله تعالى، لا يعني ان لا تتطور، لأن الله لم يشرعها لكماله هو، وإنما لنقص مجتمعاتنا، التي هي في حركة دائبة من التطور. إن الشريعة الإسلامية التي كانت حكيمة كل الحكمة، وصالحة تماماً، لمجتمع القرن السابع الميلادي، لم تعد كذلك اليوم، وان المسلمين يحتاجون الى إجتهاد حقيقي يتجاوز الشريعة الى جوهر الإسلام الخالد. فإذا منع الكبر مفكرو الحركة الإسلامية، من قبول فكرة تطوير التشريع الإسلامي، بالانتقال من فروع القرآن التي حوت الشريعة، الى أصوله التي حوت جوهر الدين، التي دعا إليها الاستاذ محمود محمد طه منذ فجر الخمسينات، فليقدموا اجتهاداً معتدلاً، ينأى بهم عن الفهم السلفي المنغلق.. ولينصرفوا عن الحديث عن الدستور الإسلامي، حتى يدركوا المستوى من الاسلام، الذي يمكن لهم تطبيقه اليوم.

أما القول بأن الاسلام هو الحل، والدستور الاسلامي هو الغاية، والشريعة هي الخلاص، فإنها شعارات، تورد اصحابها المهالك.. ما لم يكن لديهم الفهم، الذي يفصل برنامجاً اقتصادياً، وسياسياً، واجتماعياً، وثقافياً، يكون الاسلام بموجبه الخلاص للبشرية جمعاء. وإذا ظلت الحركة الاسلامية على حالها، وعجزت عن نقد نفسها، ولم تتوفر على إجتهاد جديد، فإن اعضاءها غير معفيين عن المسؤولية، فعلى كل منهم، واجب البحث والإلتزام، لأن المسؤولية في النهاية فردية، قال تعالى (ونرثه ما يقول ويأتينا فردا) صدق الله العظيم، وبلغ رسوله الكريم.

د. عمر القراي