إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الحركة الإسلامية: هل تستطيع ان تنقذ نفسها من الإنقاذ؟! (٢-٣)

د. عمر القراي


بمناسبة إنعقاد مؤتمر الحركة الإسلامية

(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا...) صدق الله العظيم

إن من المسائل المهمة، التي يجب ان يثيرها أعضاء الحركة الإسلامية في مؤتمرهم، الوضع الإقتصادي.. فما من شئ جعل الشعب يكرههم، مثل الفقر والجوع، الذي شاع تحت ظل حكومة الإنقاذ. فلقد رفعت الإنقاذ، في بداية عهدها، شعار (نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع) فماذا حدث للزراعة، وللصناعة، وصناعة النسيج بصورة خاصة، بعد ان استمرت الإنقاذ عشرين عاما؟! ولماذا اعتبرت مصانع الجلود، والمدابغ، مشاريع فاشلة، وبيعت بأثمان بخسة؟! ومن الذي اشتراها؟؟ أليسوا هم قادة حزب الحكومة، وشركائهم من الاجانب؟! ماذا حدث للسكة حديد من دمار وتخريب، حتى بيعت القضبان؟؟ وأين النقل النهري، ولمن بيعت منطقته ومحركاته؟؟ أين الخطوط البحرية السودانية، والسفن التي كانت تملأ ميناء بورتسودان؟؟ وماذا حدث لسودانير، ولماذا اصبحت طائراتنا تقع كل يوم، فتقتل المواطنين، دون تحقيق ومساءلة؟؟ ولئن حاولت الحكومة ان تخفي ما لحق بالزراعة، والصناعة، ووسائل النقل والمواصلات، من تدمير عن الشعب، فإنها لن تستطيع إخفاءه عن الحركة الإسلامية، التي لديها عضويتها في مشروع الجزيرة، وفي السكة حديد، وفي الخطوط البحرية، وفي كل هذه المصانع التي أغلقت. يجب ان يطرح موضوع بيع مشروع الجزيرة لشركات خاصة، وبيع المشروعات، والمعدات، وبيع خط هيثرو، الذي قيل أن له ملف في النائب العام لم يستطع احد تحريكه!! ويجب أن تتم المساءلة حولها جميعاً.. لقد تدهورت الزراعة، والصناعة، والمواصلات في السودان، لأن الحكومة قد أهملتها، وركزت على البترول، الذي فقدته بانفصال الجنوب.. وحين فشلت المشاريع كنتيجة طبيعية للإهمال، والفساد، وعدم توفير مدخلات الإنتاج، وتحطيم شبكة الري في المشاريع المروية، فرح نافذو الانقاذ لهذا الفشل، وبرروا به بيع هذه المشاريع لأنفسهم!! وما كان من الممكن للزراعة والصناعة ان تنجح، في بلد نام، تحول اقتصاده الى اقتصاد حرب.. لأن الإنقاذ منذ مجيئها، لم تتوقف من الحرب مع مواطنيها!! فقد صعدت الحرب في الجنوب، وحين أوقفت باتفاقية نيفاشا، كانت قد اشعلت الحرب في دارفور، ثم لحقت بها كردفان والنيل الأزرق، ولا تزال. والحرب زيادة على إهدار الارواح، تدمر اقتصاد الدول الغنية، دع عنك الفقيرة، ويكفي ان نعلم ان سعر (الكلاشنكوف) الواحد يساوي سعر 100 جوال ذرة في السودان!! فإذا كانت الحركة الإسلامية حريصة على الوطن، فلترفض توظيف الميزانية للحرب، وخلوها من التنمية، إذ ان نسبة ما يصرف على التعليم من جملة الدخل القومي لا يصل الى 1%!! ومثل ذلك يصرف على الصحة، بينما تصل ميزانية الأمن والدفاع الى حوالي 80% من الدخل القومي!! نعم إن كثير من قادة الحركة الإسلامية، وبعض أعضائها، الذين فضلوا الإنحياز الى الوطني دون الشعبي، قد اثروا، واصبحوا اصحاب مصالح شخصية، في بقاء النظام، واوضاعه كما هي.. ولكن هنالك قاعدة من الحركة الإسلامية، لا تزال فقيرة، وتعاني مع باقي المواطنين، من الغلاء الفاحش، وسوء الخدمات، وهذه القاعدة هي التي تستغل في المظاهرات، وتحمس بالخطب لتحرق سفارة ألمانيا بسبب خطأ مواطن أمريكي، وتحشد للقاءات الرئيس!! وهي المرجوة ان تنجح المؤتمر الحالي باثارتها للأسئلة الصعبة، واصرارها على التغيير. إن الفقر المتزايد، والغلاء الفاحش، وارتفاع الاسعار اليومي، دون تدخل من الحكومة، هو الذي شرد الأسر، ودفع الحرائر الى الرذيلة، واشاع كافة صور الفساد، تحت ظل دولة المشروع الحضاري الإسلامي. ألم يعترف مسؤولو الحكومة، بأن السودان اصبح يتصدر الدول الافريقية، من حيث انتشار الأيدز؟! ونقرأ أيضاً (اعترفت الإدارة العامة لمكافحة المخدرات بالوضع المأساوى الذى يعيشه الشباب السودانى إذ ارتفعت نسبة المتعاطين الى 344% معظمهم من الطلاب والطالبات والأحداث. وصرحت الإدارة بأن الخرطوم تستهلك وحدها 65% من إنتاج السودان من البنقو حيث إرتفعت انتاجية البنقو أيضا اذ كانت كمية المخدرات التى تم ضبطها العام الماضى 6 أطنان لترتفع فى هذ العام الى 36 طناً أى مايعادل حمولة 16 دفاراً).
وبدلاً عن ان تواجه الدولة الكارثة بإزالة مسبباتها من ضغوط نفسية بسبب العطالة وإنعدام الحريات والغلاء المعيشى والتى تسهم فى خلق مناخ محبط يقود الشباب الى المخدرات وجه البشير بانشاء مستشفى ذو سعة أكبر لمقابلة تزايد عدد طالبى التعافى من المخدرات. ومن الواضح ان هذا التوجيه هو مجرد حديث فى ظل الأزمة الخانقة التى جعلت الدولة تتراجع عن مجانية العلاج حتى للأطفال دون الخامسة. الجدير بالذكر أن هناك منحى آخر في التعامل مع المسألة تمثل في تصريح وزير الداخلية في أبريل 2011م بأن البنقو ليس مصنفا عالميا ضمن المخدرات، والذي عده كثيرون كدعوة لتعاطي البنقو والتطبيع معه كأمر مشروع، في مخالفة للقوانين السودانية والمعلوم من آثار البنقو السيئة (حريات 13/9/2012).
لقد تم تصدير البترول لعشر سنوات قبل إنفصال الجنوب، ولم يستلم الجنوب حصته، التي كانت تعادل نصف عائدات البترول، إلا في آخر الفترة الإنتقالية.. والحكومة في الشمال لم تدفع من عائدات البترول، لأي من مشاريع الطرق، أو الكباري، أو السدود التي اقامتها، إذ كلها تمت بقروض معروفة، من دول محددة، وبفوائد معلومة.. كما انها لم تسدد من تلك العائدات ديون السودان الخارجية، حتى تراكمت، ووصلت الى أكثر من 40 مليار دولار!! فأين ذهبت عائدات البترول؟؟ ولماذا لم تنعكس تحسيناً للوضع المعيشي للمواطنين؟؟ وإذا كانت الحكومة لم تدخل عائدات البترول في حياة الشعب، طوال هذه الفترة، فهل ستدخل ما ستحصل عليه كأجرة على ترحيل البترول عبر أراضيها، فتغير به حياة المواطنين، أوتخفف من حدة الغلاء الطاحن؟! الجواب: لا!! وانما هلل قادة المؤتمر الوطني لاتفاقية أديس ابابا الاخيرة، لأن الملايين التي ستحصل عليها الحكومة من ترحيل البترول، ستعود لمصلحتهم الخاصة، وليس للمواطنين الفقراء. بل ان الحكومة ستستغل هذه الأموال، للمزيد من الدعم لأجهزة الأمن، وشراء وسائل القهر والبطش بالشعب الاعزل، استعداد للموجة القادمة من المظاهرات، التي سيحركها الغلاء الطاحن، الذي لم تفعل الحكومة شئ للتقليل منه.

إن سوء الإدارة، وسوء التخطيط، وقلة الخبرة، الناتجة عن طرد الكفاءات، وتعيين الايفاع من كوادر المؤتمر الوطني غير المؤهلة، والتضييق على القدرات المتميزة، حتى اضطرت الى العمل بالخارج، ليس وحده السبب في الفشل الاقتصادي الذريع، والتدهور المريع في الخدمة المدنية، والفقر، والجوع، والبطالة، والارتفاع اليومي الجنوني في الاسعار، والانهيار الأخلاقي المدوي للمشروع الحضاري الإسلامي، الذي ظلت الإنقاذ تزعم أنها حققته، حتى قال قائلها بعد عشرين سنة، أنهم كانوا يطبقون علينا شريعة (مدغمسة)!!
إن السبب الأساسي هو الفساد.. فحكومة الإنقاذ، قد خاضت في الفساد خوضاً، فليس فيها اليوم من هو غير مبتل!! وواجب الحركة الإسلامية، هو مواجهة الفساد، ورفضه، وفصل من تورطوا فيه من صفوفها، ثم تبرئة نفسها، من تهمة ان الاموال المنهوبة، من قوت الفقراء، ومن لقمة النازحين، والمشردين، واليتامى بسبب الحروب، قد دفعت للحركة الإسلامية، والحزب المعبر عنها، ليخوض بها الإنتخابات، المزورة، التي فاز بها المؤتمر الوطني!! وموضوع الفساد ورموزه، لا يحتاج لدليل، بالنسبة للحركة الإسلامية، لأنها تعرف اعضاءها الذين يحتلون الآن المناصب الرفيعة في الدولة، كيف كانت أوضاعهم قبل إنقلاب يونيو 1989م.. تعرف من كان ضابطاً بالجيش، ماذا كانت رتبته، وكم مرتب تلك الرتبة، وأين كان يسكن، وماذا عنده اليوم من العمارات، والمزارع، بل والاحياء التابعة له، ولاهله، و الاموال داخل وخارج البلاد؟! ومن كان موظفاً في الحكومة، كم كان مرتبه، وهل كان سيعيش كما يعيش الآن، لو ضوعف ذلك المرتب أضعافاً مضاعفة؟! ومن كان محامياً مغموراً، يدفع بصعوبة إيجار مكتبه، كيف اصبح الآن يملك العمارات، داخل وخارج السودان؟! ثم لابد من ان من اعضاء الحركة الإسلامية، من يعرفون ان أهل، واقارب النافذين في الحكومة، يمتلكون الشركات، ويشترون الاراضي والعمارات، هم وزوجاتهم، وابناءهم الشباب!! بل ان الممتلكات كلها في السودان اليوم موزعة على شركاتهم ومكاتبهم، فليس هنالك صاحب ثروة، إلا وهو شريك لهم أو غطاء لنشاطهم!! إن ما فعله قادة المؤتمر الوطني النافذين في الحكومة، هو أكل أموال الناس بالباطل، وهو عمل منكر أشد النكر!! فهل سينهى أعضاء الحركة الإسلامية، الشرفاء، أخوانهم مما تورطوا فيه، أم سيصح فيهم قوله تعالى (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون)؟! إن الحركة الإسلامية منذ قيامها في السودان، كان هدفها المعلن، هو تطبيق حكم الإسلام على الشعب.. فمن حق الشعب إذاً أن يطالب أعضاء الحركة الإسلامية، بأن يحذو حذو الاصحاب، رضوان الله عليهم. ولاشك أن كل اعضاء الحركة الإسلامية، يعرفون القصة المشهورة، التي تروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكانوا يتدارسونها في (الأسر)، وفي لقاءات (تجنيد) الشباب.. الرواية تقول أن عمر بن الخطاب، قام في الناس خطيباً، وهو الحاكم، وقال (أيها الناس أسمعوا واطيعوا ) فوقف رجل من عامة المسلمين وقال (لا سمع ولا طاعة!!) قال عمر (لماذا؟) قال الرجل (قسمت علينا من بيت المال لكل رجل رداء. وها أنت الآن عليك ردائين لأن واحداً لن يسترك لطول قامتك) قال عمر: (قف يا عبد الله بن عمر!! ) فوقف عبد الله وليس عليه رداء. فقال الرجل: (الآن نسمع ونطيع!!) إذ علم الناس ان عمر أخذ رداءه، ورداء ابنه، وجمعهما في رداء واحد، حتى يستره. هذا هو طريق تطبيق الإسلام، أن يسأل اعضاء الحركة الإسلامية الحاكم، كم اخذ؟ وكم اعطى الناس؟! ان يسألوه عن أخوانه، وعن زوجاته، وعن كل اقاربه، الذين ما كانوا ليثروا، لو لا أنه اصبح حاكماً!! فإن لم يستطيعوا في مؤتمرهم هذا، أن يقوموا بمثل هذا العمل، فلا يخدعوا أنفسهم، ولا يخدعوا هذا الشعب المنكوب، بأنهم يمكن ان يطبقوا الإسلام، لأن فاقد الشئ لا يعطيه.

د. عمر القراي