إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
الحركة الإسلامية: هل تستطيع أن تنقذ نفسها من الإنقاذ؟! (١-٣)
د. عمر القراي
بمناسبة إنعقاد مؤتمر الحركة الإسلامية
(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا...) صدق الله العظيم
كتب الصحفي النور أحمد النور، رئيس تحرير جريدة الصحافة: (وتعد الحركة الإسلامية لعقد مؤتمرها الثامن بعد اسابيع وينتظر ان تقدم أجوبة على اسئلة حائرة تطرح نفسها منذ اكثر من عقدين من الزمان إذ حلت نفسها عقب وصول البشير الى السلطة ثم عادت من دون ان يظل لها وجود فاعل في الحياة السياسية للعمل عبر جناحها السياسي وهو الحزب الحاكم. وسيتحول مؤتمر الحركة الإسلامية الى محكمة سياسية لتجربتها في السلطة وحصاد 23 عاماً من الحكم كأول حركة في المنطقة تصل الى السلطة إذ يرى حتى بعض رموزها انها اختطفت من قبل قيادات ظلت تحكم باسمها فيما ظلت غالبية اعضائها وناشطيها في مقاعد المتفرجين. ويرى العديد من قادة الحركة الإسلامية ومفكريها انه ينبغي على الحركة إجراء مراجعات فكرية وسياسية لحصاد تجربتها في شأن مشروعها السياسي والاقتصادي والإجتماعي خصوصاً بعد إنفصال جنوب السودان الذي تتحمل مسؤوليته التاريخية وتدهور الاوضاع الاقتصادية وضعف القيم الإجتماعية في ظل حكمها الذي استند على الشريعة الإسلامية)(الحياة 31/8/2012)
وقبل ان يحين وقت المؤتمر، قام عدد من قيادات الحركة، من العقلاء، وغير العقلاء، بنقد حكومتها!! ومن ذلك مثلاً نقرأ (قال رئيس جهاز المخابرات السوداني السابق القيادي البارز في حزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان، الدكتور قطبي المهدي، إن حكومة الإنقاذ الوطني برئاسة الرئيس عمر البشير وصلت إلى طريق مسدود، ووقفت عند النقطة التي بدأت منها، ولم تطور نفسها، وإن استمرارها في السلطة رهين بإحداث تغيير كبير في البنية السياسية للنظام. وشبه المهدي في حوار مع «الشرق الأوسط» حكومة الإنقاذ بأنها مثل «دواء جيد» فقد صلاحيته، بعد أكثر من 23 سنة، ودعاها لإحداث إصلاحات حقيقية تتمثل في ذهاب المسؤولين الذين قضوا زهاء ربع قرن على كراسي السلطة. وأوضح أنه سمع أن الرئيس عمر البشير سيتقدم باستقالته في عام 2015، لكنه أكد أن نوابه أيضا يجب أن يستقيلوا معه، ولم يستثن من طلب تقديم الاستقالة النائب الأول علي عثمان محمد طه)(الشرق الأوسط 9/5/2012). وحتى إسحق فضل الله، زعيم الدبابين السابق، والصحفي الحالي، نقد النظام فقال (.. التدمير الذي يقوم ضد كل منطق نتتبع خيوطه.. والخيوط تقودنا إلى الجهة ذاتها. قبلها ثورة القمح التي تسجل نجاحاً مذهلاً.. تُدمَّر. والتدمير نطارد خيوطه.. والخيوط تقودنا إلى الوجوه ذاتها. قبلها وبعدها ومعها تدمير البحرية السودانية.. تدمير الطيران الآن.. تدمير السكة حديد. وشيء مثل التدمير يذهب إلى جياد والتصنيع الحربي. والخيوط نطاردها… وتنتهي بنا إلى الحوش ذاته. قبلها الثورة الصحية المذهلة.. الثورة التعليمية. قبلها مشروع البترول. و.. ومشروعات تدمير وتدمير.. ونطارد خيوط التدمير و«نقص الدرب» والدرب يقودنا إلى الحوش ذاته. والآن هجرة كثيفة للعقول. وتدمير العملة المحلية وتدمير للصادر.. إلا القليل و.... وأشياء نتبع خيطها فنجد الوجوه ذاتها هناك. والآن شبكة الاتصالات.. الأعظم في إفريقيا تتجه إلى المصير ذاته. مثلها.. الوجوه التي تحمي المراكز الحساسة في الدولة.. يجري إبعادها بصورة هامسة.. خفية متباعدة بحيث لا يرى أحد من الضحايا أصحابه من الضحايا. و… و… والجيش لا نستطيع الحديث عنه. ولا الأمن. والمالية ما يجري فيها مفهوم)(الإنتباهة 30/8/2012).
أما الاتجاه الإسلامي، فقد قال عن حكومته: (فاق هذا النظام كل الأنظمة التى سبقته فى التسلط والفساد وإهدار موارد البلاد. أما التسلط فقد تبدى فى التشبث بالمناصب وأصبحت هى الهم ومبلغ العلم. وضرب رئيس النظام ونائبه الأول وبقية شلة القيادة أسوأ الأمثلة فقد أسكرهم حب الجاه والسلطان ففرضوا أنفسهم ترغيبا وترهيبا وتزويرا على مناصب الدولة والحزب والحركة معا. وتلاشت معايير القوي الأمين، والحفيظ العليم، وتراجعت قيم التداول السلمي وحرية الإختيار. وغابت أدبيات الجرح والتعديل، والتقييم والتقويم، والمحاسبة والعزل. وإذا نحن أمام وجوه مملة وكوادر فقيرة ذات إمكانات بائسة، وقيادة عاجزة أرهقها المكر والبطش وأعياها التمدد والتطاول فى التسلط، فمن فشل منهم يكافأ بمنصب آخر... وأما الفساد فقد ملأ البر والبحر وحتى الجو. وتحت بصر قادة النظام وسمعهم نهبت الأموال وتضخمت ثروات الأقارب والمحاسيب وأغتنى منسوبو النظام وحاشيتهم.. وشيدت القصور داخل وخارج السودان.. وأصبح المال دولة بين الأغنياء منهم. ومافاض صرف على أمن ودفاع النظام. وأما مجانية التعليم والصحة والخدمات فقد أصبحت جزءا من الأحاجي السودانية. وأما إهدار موارد البلاد فيكفي مثلا ما آل اليه مشروع الجزيرة وسودانير والسكة حديد. وما آلت اليه الخدمة المدنية من تدهور وإهمال. كل المرافق العامة بيعت بثمن بخس وما تبقى معروض للبيع. وخرجت القطاعات التقليدية الزراعية والحيوانية من دورة الإقتصاد السوداني مما أدى الى قحط الريف وازدحام المدن. وزادت الململة ونشطت حركات التمرد تطالب بالعدل فى قسمة السلطة والثروة. فكانت سياسات النظام الخرقاء فى المزيد من إهدار الموارد البشرية والعسكرية فى قمع تلك الحركات أو الصرف السياسي البذخي لإرضائها وترويضها. ولكن الإهدار الأكبر كان للبترول فقد ضاعت عوائده وثبت تماما أن هذه القيادة لا تحسن التعامل مع موارد البلاد فقد بددته كما بددت غيره وكان الإنهيار المروع للعملة الوطنية والموت السريري للإقتصاد السوداني.... ثم جاءت حرب دارفور والذى كان أكثر الأقاليم شقاءا بقادة هذا النظام وسياساتهم الخرقاء مما تسبب فى قتل عشرات الألاف ونزوح مئات الألاف فى أسوأ كارثة انسانية يشهدها السودان طوال تاريخه وبات الإقليم على شفا الإنفصال هو الآخر، وضاعت سيادة السودان وأصبح رئيس النظام مطلوبا للعدالة الدولية وأسفرت القبلية عن وجهها الكريه وتهتك نسيج المجتمع وضعفت أواصر الفكر والوطن... نعلن برآءتنا من هذا النظام وفعله المشين وفساده المبين. ونطالب هذه الطغمة الحاكمة وفى مقدمتها رئيس النظام ونائبه الأول بالتنحي والرحيل فورا. وننصحهم بعدم الإلتفاف على رغبات عضوية الحركة الإسلامية المتطلعة الى قيادة جديدة قوية و أمينة وصادقة، والى حكم راشد يأتي بالرضا والشورى ويحكم بالعدل والإحسان ويتعاون مع جميع القوى السياسية ومكونات المجتمع على البر والتقوى. ونحذرهم بأن قمع الإحتجاجات المشروعة ما عاد ذا جدوى فأعتبروا بمصير القذافي وبن علي. أليس منكم رجل رشيد)(الاتجاه الإسلامي - البيان الأول - الجمعة 22 رمضان 1432هـ).
ومهما يكن من أمر، فإن مؤتمر الحركة الإسلامية، سيؤرخ معلماً بارزاً في مسيرتها، لأنه جاء في وقت حساس، تتدافع فيه الاحداث العالمية والمحلية، وليس فيه متسع لمزيد من التضليل والتطبيل، الذي لن يخرج الحركة، والحكومة، من مأزقهما المشترك. ويمكن للمؤتمر ان يفشل تماماً، إذا تجنب المسائل الاساسية، وركز على نجاحات الحكومة الوهمية، واعتبر اتفاق اديس الاخير، الذي ظفرت فيه حكومة السودان بأجرة تصدير النفط، مقابل فقدان النفط نفسه، والجنوب كله، انتصاراً يستحق كل هذه الاحتفالات!! كما يمكن للمؤتمر ان ينجح، لو نقدت الحركة الإسلامية نفسها بالاصالة، ونقدت حكومة الإنقاذ التي تمثل ثمرتها بالحوالة.. لأن نقد الانقاذ وحدها، سيعمي الحركة الاسلامية عن الاخطاء المفاهيمية الجوهرية، التي ما الانقاذ الا نسخة واحدة من تطبيقاتها!!
إن أول ما يجب على اعضاء الحركة الإسلامية طرحه هو إنفصال الجنوب.. هل كانت الحركة الإسلامية تريد فصل الجنوب، وقامت لها حكومة الانقاذ بما ارادت؟! وهل السبب الحقيقي لفصل الجنوب هو انه يعيق تطبيق الشريعة الاسلامية، الذي تراه الحركة أهم من وحدة شعب السودان وحفظ موارده وخيراته؟! هل كانت موافقة الحركة، على فصل الجنوب، سببها كراهية الجنوبيين لأنهم غير مسلمين، وان فكر الحركة الإسلامية ليس فيه لغير المسلم غير القتل أو الاخضاع ولا يتسع للمواطنة وقبول التعددية الدينية؟! أم ان السبب هو تعالي عنصري، مفاده ان أهل الشمال عرب، ولذلك هم افضل من أهل الجنوب من الزنج، فإن لم يقبوا بالخضوع لهم، وخدمتهم، فالافضل ان يبعدوا عنهم، حتى لا يطالبوا بأن يكونوا مثلهم في حقوق المواطنة؟!
لقد كان داؤد يحى بولاد - رحمه الله - من ابرز قيادات الاتجاه الإسلامي بجامعة الخرطوم، حتى وصل الى ان يكون رئيساً الاتحاد.. وحين اندلع الصراع في دارفور، ترك الحركة الاسلامية، ولحق بصفوف الحركة الشعبية لتحرير السودان، وحارب تحت رايتها من دارفور. ويقال ان د. جون قرنق - رحمه الله - سأله عن سبب هذا التحول الكبير فقال (وجدت ان الدم في الحركة الاسلامية أثقل من الدين)!! ولعل ما دفع بولاد لتقرير ذلك، انه رأى الحركة الإسلامية، تقف خلف حكومتها، وهي تسلح، وتدرب، وتدعم القبائل العربية، التي كانت تقتل، وتنهب، وتغتصب قبائل دارفور، التي تعتبر من الزرقة، والذين من ضمنهم أهل بولاد.
الطيب مصطفى، صاحب "الانتباهة"، ذبح ثوراً، فرحاً بانفصال الجنوب، وقيل أنه اصر على ان يكون ثوراً أسوداً!! ولعل ذلك إن صح، إنما يعتبر كناية عن رغبته الداخلية، التي تلحق بحد المرض النفسي، في ان يقتل كل الجنوبيين، لأنهم غير مسلمين، ولأنهم لا يشبهون أهل شمال السودان!!
إن التيار العنصري، والتيار السلفي المتطرف، داخل الحركة الاسلامية، هما اللذان دفعاها للتنصل عن اتفاقية السلام، ومضايقة الجنوبيين، بقوانين طابعها ديني، مثل قانون النظام العام، مما اضطر الاخوة الجنوبيين للتصويت لصالح الانفصال، الذي تتحمل الحركة الاسلامية، وحكومتها مسؤوليتة التاريخية.
كما أن الحركة الإسلامية السودانية، عبر تاريخها، كانت مع الحل العسكري لمشكلة الجنوب.. وفي بداية الإنقاذ، ساعد كوادرها في تعبئة الشعب ضد الجنوبيين، وصور إعلام الحكومة الحرب على انها جهاد في سبيل الله، وملأ وعاظ الحركة الاسلامية، وأئمتها المساجد، بالحديث عن الحور العين، اللاتي ينتظرن في الجنة شباب السودان الشمالي، إذا قتلوا إخوانهم الجنوبيين، أو قُتلوا وهم يحاولون ذلك.
إن تصور ان غير المسلمين، وغير العرب في السودان، يجب ان يقاتلوا، ولا مكان لهم كمواطنين مساوون لغيرهم في الحقوق والواجبات، تصور خاطئ، قامت عليه الحركة الإسلامية منذ نشأتها، ويجب عليها ان تتخلى عنه، وتتمسك باجتهاد حديث، يجعلها أكثر مرونة، واقرب الى روح الدين الإسلامي السمحة وروح العصر، إن كانت تريد أن يكون لها مستقبل.
إن القضية الثانية، التي يجب ان يثيرها أعضاء الحركة الإسلامية، في مؤتمرهم، هي قضية دارفور. إن الذين قتلوا في دارفور، وحرقت قراهم، ونزعت أراضيهم، واغتصبت نساؤهم، وشردوا، ويعيشون الآن في معسكرات النزوح، واللجوء، مواطنون سودانيون، ولا يمكن لحركة تدعي الاسلام، ان تصمت عن هذه الدماء، وهذه الحقوق، وهذا الظلم الشنيع.. كيف يجوز لجماعة اسلامية، ان تصمت عن اغتصاب النساء في دارفور، وفي مكاتب أجهزة الأمن؟! إن واجب الحركة الإسلامية، أن تناقش في مؤتمرها، من المسئول عن جرائم دارفور، التي لا زالت مستمرة هنا وهناك؟ لابد من اثارة السؤال: لماذا انحازت الحكومة الى مجموعات بعينها، وقامت بتسليحها، وضمها للدفاع الشعبي؟! وما هو الهدف السياسي للحكومة من اشعال حرب في دارفور، في الوقت الذي كانت تسعى فيه لاحلال السلام في الجنوب؟! من الذي قسم دارفور الى عرب وزرقة، ولماذا انحازت الحكومة للعرب ضد الزرقة؟! هل هي العنصرية أم هناك اسباب اخرى؟! كم عدد ضحايا مأساة دارفور، وكم عدد اللاجئين والنازحين؟! والحكومة قد اخفت عن الشعب كثير من مما حدث في دارفور، ولكنها لا تستطيع اخفاء ذلك عن الحركة الإسلامية، لأن من اعضاء الحركة من هم من ابناء دارفور، ويعرفون ما حدث فيها.. أن واجب هؤلاء ان يسألوا لماذا لم يحاكم شخص واحد عن جرائم دارفور؟! ويجب ان تطرح الحركة الاسلامية رأيها بوضوح، في حوارات الدوحة، أو اي حوار بين الحكومة وبعض ابناء الاقليم.. ولماذا تصر تلك اللقاءات على التعويض المالي، ولا تتطرق لضرورة القصاص من المعتدين أولاً؟!
كما ان واجب اعضاء الحركة الإسلامية، إثارة التساؤل عن الحرب الدائرة الآن في جبال النوبة والنيل الازرق، خاصة ابناء تلك المناطق، أو ابناء القبائل المتضررة عملياً من الحروب، على الحدود بين الشمال والجنوب.. لماذا اندلعت هذه الحرب، بعد ان كانت تلك المناطق تحضر للمشورة الشعبية، التي نصت عليها بروتوكولات إتفاقية السلام الشامل؟؟ والآن!! بعد موت الآلاف، ونزوح الآلاف، لماذا تصر الحكومة على منع الإغاثة، واستعمال تجويع الاطفال، كسلاح في الحرب؟؟ وهل يتفق هذا السلوك مع اخلاق الاسلام؟؟ يجب ان يسأل اعضاء الحركة الإسلامية حكومتهم، لماذا قبلت ان تفاوض حكومة الجنوب، ولم تقبل مفاوضة الحركة الشعبية –شمال؟! لماذا افتى علماء السلطان بحرمة التفاوض مع الحركة الشعبية-شمال، وهم الآن يشاركون في احتفالات الاتفاقية الموقعة مع حكومة الجنوب؟!
ما هو رأي الحركة الإسلامية، الحقيقي، في قضية الهامش؟! هل توافق الحركة على ان اطراف السودان البعيدة عن المركز، ظلت مهمشة عبر التاريخ، ويجب ان تشارك بوزنها في السلطة والثروة؟! هل تعتبر الحركة الإسلامية السودان هو "مثلث حمدي"، أم ان تلك كانت خطيئة حمدي وحده وذهبت معه؟!