إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
قال السيد المسيح عليه السلام: وضع الفأس على أصل الشجرة، فكل شجرة لا تثمر تقطع وتلقى في النار !! والشجرة إنما تشير إلى الفكرة الخاطئة، فهي لا تثمر خيرا لمن يتورط فيها، والشجرة التي نرمي إلى اقتلاعها من جذورها في هذه البلاد، إنما هي الفكرة التي تطرح بعث الإسلام من جديد، على أساس تطبيق الشريعة الإسلامية التي طبقت في المدينة المنورة في القرن السابع الميلادي، من غير تطوير !! فتلك الشريعة مرحلية وخدمت غرضها حتى استنفدته، وكلمة الشريعة أصلا في اللغة، تعني المدخل أو الطريق، وعندما نقول "المشرع" فالمعني "المدخل"، وشرع شريعة إلى الماء معناها فتح طريقا إلى الماء.. وبهذا المعنى، فإن الشريعة السلفية هي طرف الدين الذي لامس أرض الناس في ذلك الوقت، ولذلك فهي ليست الكلمة الأخيرة في الدين ولا يمكن أن تقدم حلا لمشاكل المجتمع المعاصر !!
لقد أسس الإسلام، في مكة فكرة الدستور والحقوق الأساسية من قبل أن تكون هناك دعوة في الأرض، تقترب في طرحها ولو من بعيد من هذا المستوى من الفهم.. ونزلت آيات أصول القرآن في مكة تؤسس للحريات وعدم التسلط على الآخرين، وقد ظل النبي الكريم على مدى ثلاثة عشر عاما يطبق في نفسه ويدعو إلى هذه القيم التي نراها، اليوم توجه العالم تحت شعارات حقوق الإنسان، بل لا يرد حتى على المنتهك للحقوق الدستورية !! وفي حادثة الهجرة المعروفة خطط المشركون لقتل النبي الكريم، بالصورة المعروفة في التاريخ فهاجر إلى المدينة، ومن ثم حدث تحول في الدعوة، فنسخت الدعوة إلى الحكم الدستوري لأن الممارسة أثبتت أن المجتمع بعيد عن مستواها، واستبدلت بالتشريعات المعروفة في الشريعة، على أساس الوصاية الرشيدة لإخراج الناس من الجاهلية، ولانتزاع حقوق الإنسان بقوة السلاح فقد كانت البنت تدفن حية !!
إن الحلقة الدائرية التي تتكرر في السودان، في السلطة من ديمقراطية إلى انقلاب عسكري، ونحن الآن نتظاهر لإسقاط النظام القائم، وإقامة الديمقراطية الرابعة، هذه الحلقة لكي تدور في اتجاه لولبي وليس دائريا، لابد من تصحيح للأفكار الدينية، فأنت لا تجني من الشوك العنب، فكل الأحزاب القائمة في الساحة لا تملك مذهبية تؤسس الحقوق الدستورية في المساواة التامة بين الناس من الإسلام، فهي تنتقد التطبيق المشوه للإسلام من أجل إسقاط النظام، لتستلم هي السلطة فكأنها تقول كلمة حق لتحقق بها باطلا.. ففي تجربة الديمقراطية الثانية، عدلت الأحزاب الطائفية، الأمة والاتحادي تحت قيادة الحركة الإسلامية، عدلت الدستور وحلت الحزب الشيوعي وطردت نوابه المنتخبين من البرلمان !!
قال السيد رئيس الجمهورية مؤخرا في رده على المظاهرات، إن الأزمة الاقتصادية سببها انفصال الجنوب لأن البترول ذهب من الشمال!! لكن السؤال هو: لماذا انفصل الجنوب !!؟؟
الجنوب انفصل لأن الأفكار التي تبنتها الإنقاذ، تحت قيادة السيد عمر البشير إنما هي أفكار الحركة الإسلامية السلفية التي تؤسس للتمييز بين المواطنين على أساس الدين والنوع ولذلك اختار الجنوبيون الانفصال !! والحركة الإسلامية، ومنذ تأسيسها لم تكن تنتظر يوما تقوم فيه وحدة في السودان على أساس حقوق المواطنة المتساوية، فأفكارها ضد هذا المبدأ، ولذلك كانت تعمل لتحقق أحد خيارين: الأول إخضاع الجنوب عسكريا بالجهاد والثاني فصله في حالة الفشل، وعندما فشلت في الخيار الأول عملت كل ما في وسعها من انتهاكات للحريات في الفترة الانتقالية، من أجل أن تكون الوحدة خيارا غير جاذب للجنوبيين !!
إذن، من المسئول في الأساس عن الضائقة الاقتصادية !!؟؟
إن تجربة الإنقاذ في الحكم، إنما هي في حقيقتها تجربة الحركة الإسلامية، فالحركة هي التي خططت للانقضاض على الديمقراطية الثالثة، ثم هي التي وجهت السلطة في جميع برامجها وهي التي نفذت تلك البرامج.. ولذلك أخفقت التجربة في المحافظة على وحدة البلاد، لأن الحركة لا تملك فهماً من الإسلام يؤسس الحكم الدستوري وحقوق المواطن المتساوية.. فهي إنما تطرح معالجات القضايا استنادا على الشريعة السلفية من غير تطوير، وفي تلك الشريعة، كما يعلم الجميع، لا توجد مساواة بين المواطنين، فالمسلم لا يساوي الكتابي في الحقوق، والمرأة لا تساوي الرجل، واللاديني ليس له حقوق مطلقاً وإنما خياره الوحيد هو الدخول في الإسلام وإلا يقتل!!
هذه الحقوق التي تبدو منقوصة بالقياس إلى ما حققه المجتمع البشري المعاصر من تطور، كانت حكيمة كل الحكمة في وقتها، ومناسبة لوقتها كما سلف القول، فهي لم تشرع أساساً لمجتمع اليوم.. فإذا أردنا أن نعتمد حقوق المواطنة المتساوية، ونبني عليها كأساس للنظام الديمقراطي، لا بد من أن نطور الشريعة السلفية إلى السنة النبوية.. فالإسلام لا يبعث بالشريعة، وإنما يبعث بإحياء السنة، والسنة عمدتها من القرآن آيات الأصول المكية بينما كانت الشريعة تستند إلى آيات الفروع المدنية.. وهذا الفهم هو ما عرف بالرسالة الثانية من الإسلام، والأساس فيها بعث آيات الأصول التي كانت منسوخة في عهد الشريعة ليقوم عليها التشريع في تأسيس الحقوق الأساسية والحكم الدستوري..
ولقد تفطن الإخوان المسلمون، في مصر إلى خطورة إقحام الشريعة السلفية في الواقع المعاصر، ولاحت أمام أعينهم حجم الفتن التي يمكن أن تحدث في بلادهم، من تهديد للوحدة الوطنية وضياع مكتسبات بلادهم الاقتصادية، فاتجهوا إلى إعلان الدولة المدنية على لسان مرشحهم محمد مرسي الفائز بالرئاسة، أمس الجمعة 29/6/2012 في ميدان التحرير، ولم يذكروا الشريعة قط !! وهم إنما يشيرون بمدنية الدولة إلى تبنيهم فكرة حقوق المواطنة المتساوية، ليطمئن المصريون جميعا على حقوقهم الدستورية التي لا تكفلها لهم الشريعة حسب طرحهم السابق المعروف عنهم !!
لقد أخرج الأخوان الجمهوريون، في عام 1978م كتاب "هؤلاء هم الأخوان المسلمون" من ثلاثة أجزاء، حول تجربتهم السياسية عندما كانوا يخططون لاحتواء نظام مايو من الداخل، بالضغط تحت غطاء تطبيق الشريعة، حتى تورطت مايو، بقوة دفعهم هم، في نفس المستنقع بسبب المنافسة في استغلال الدين لتثبيت السلطة، وأحب أن أقدم إهداء ذلك الكتاب، ليعرف القراء مدي وضوح الرؤية وسداد الفكر عند الأستاذ محمود مؤسس الدعوة الجمهورية:
الإهداء:
إنما يهدى هذا الكتاب إلى عامة الناس !! وبوجه عام..
ولكنه، إنما يهدى بوجه خاص، إلى الأخوان المسلمون !!
ويهدى بوجه أخص، إلى قاعدة التنظيم من الشباب !!
تبينوا أمركم، فإن هذه الدعوة، إنما هي فتنة !!
لا خير يرجى من ورائها !!
لا خير في شجرتها !!
ولا خير في ثمرتها !!
فأنت لا تجني من الشوك العنب !!
المظاهرات هذه الأيام في السودان، بدأت ضد الإنقاذ، وكل يوم تزداد اشتعالا، والحقيقة التي لا يمكن تجاوزها هي أن النظام الحالي قد عجز تماما، عن إدارة البلاد وقدم تجربة مريرة في إهدار الحقوق الدستورية ليس للجنوبيين وحسب، وإنما لجميع الذين يخالفونهم الرأي، ولذلك فإن إسقاطه من أوجب واجبات السودانيين، على أن يؤسس البديل على تصحيح الأفكار الدينية الخاطئة، على النحو الوارد في هذا المقال.. فالثورة يجب أن تكون ثورة فكرية في المقام الأول، وبتصحيح الأفكار توضع العربة أمام الحصان، وتعود وحدة السودان على سند روحي يؤسس الحكم الدستوري على الهدي النبوي..