إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
لقد خربت ديار جعفر نميري بقتله لشهيد الأمة السودانية محمود محمد طه، ومن قبل خربت ديار الفونج بقتلهم للشيخ عبداللطيف بن الخطيب عمار، فقد قتله الملك بادي بعد أن وشى به بنو عمه، فقال الشيخ عبداللطيف قبل ان يقتل صبرا، عسى أن يكون قتل فقير لخراب أكير، وقد صدقت نبوءة ابن عمار ودارت الدوائر على الملك بادي، فقد حورب ونفي وطرد وقتل صبرا، وقتل أولاده من بعده، واستمر القتل والنفي والطرد الى زماننا هذا، "زمان ود ضيف الله" وحوش ملكهم بقي كناسة ومأوى للكلاب.
ما كنت أعتقد لحظة ان محمود محمد طه قد وشي به بعض فقهائنا الذين أجلّهم وأقدّرهم وقد تتلمذت على فتاويهم ردحا من الزمن في العمل العام والحياة الخاصة الى أن خاب ظني فيهم بعد سماعي لخطبة الجمعة بمسجد النيلين بتاريخ 11 شوال 1405 هـ.
وليت الذين افتوا – بردة محمود محمد طه قد افتوا بردة الطاغية من قبل ومن بعد.
فقد بدأ الإمام خطبته بأن طلب من ربات البيوت أن يدرن الأجهزة لتسجيل خطبة الجمعة فظننت انها ستكون خطبة في كيفية طهي واعداد الطعام أو في الإقتصاد المنزلي الإسلامي على أحسن الأحوال في أعوام المجاعات ومتطلبات الإغاثة.
فاذا بالخطيب يفاجيء المصلين ويفضح ويبين عن عن مقصده السياسي قبل الديني من خلال تناوله لقضية محمود محمد طه، ولا أدري لماذا خص ربات البيوت بإدارة أجهزة التسجيل، هل أخبره أحدهم بأنه أصبح خطيب ربات البيوت، وهل رفعت صلاة الجمعة عن ربات البيوت ليقرن في بيوتهن، ويسجلن ما يقولونه على الهواء مباشرة، دون رقيب أو عتيد على أجهزة اعلام يتوقع ان تكون قومية، دع عنك أن تكون منبرا لسدنة مايو المباد، فأين خطبة أمامنا من سياسة حسن الجوار سياسة ثورة رجب؟؟
ومن الغريب ان الإمام لم يستهدف محمود محمد طه بقدر ما استهدف الدكتور عبدالله الطيب، وأخذ عليه مرثيته في محمود، علما بأن الدكتور عبدالله الطيب لم يكن الوحيد من الشعراء العرب والمسلمين الفحول الذين جادت قريحتهم رثاء وبكاء على الظلم الذي أحاق بمحمود على يد الطاغية وأعوانه، بل ويبالغ خطيبنا في حملته على الدكتور عبدالله الطيب ويشبهه بشيطان أخرس أو يكاد، والخشية أن يكون خطيبنا قد أعد فتوى مع بقايا سدنة مايو لتكفير عبدالله الطيب، الذي وصفه أو كاد أن يوصفه بالشيطان.
وما درى خطيبنا ان شيطان نميري قد ولى الى غير رجعة، وبحق صيامك وقيامك يا خطيبنا أيهما أشد خطرا على الإسلام، محمود محمد طه أم النميري ونائبه.
لم يتورع الخطيب من ذكر حادثة كان يجب ان تجره الى محاكم العدالة الناجزة، لو كان لثورة رجب مثل هذه المحاكم، وليطمئن خطيبنا على وضعيته ومكاسبه، فان وثائق لجان التحقيق مع سدنة مايو قد تسرق جميعها قبل ان يقدم أحدهم للمحاكمة، وقد تطمس كثير من الحقائق لبطء الإجراءات، فالشعب السوداني متسامح، والنائب العام أكثر تسامحا، فقد أكد أنه لن يعير ولن يبدل ولن يلغي قوانين سبتمبر، فشريعة نميري باقية (رغم أنف) التجمع والأحزاب والجماهير التي تجهل القوانين كما يقول النائب العام "قنابير قنابير من هنا للصعيد".
لقد جاء في خطبة الجمعة ان ثلة من الفقهاء اجتمعت وتشاورت طواعية أو طمعا مع عمر محمد الطيب في أمر محمود محمد طه، وقد اصدرت هذه الثلة فتوى أظنها سرية وغير دستورية فمنهم من هو غير سوداني ومنهم من هو غير مؤهل قانونيا بتكفير محمود قبل أشهر من تلفيق التهمة ضده.
وقد اعتبر الخطيب محمودا عميلا لليهودية العالمية، وقد نسي خطيبنا أو تناسى عمدا أن رئيس جهاز أمن الدولة يواجه اتهاما بترحيل الفلاشا لإسرائيل فهل قام عمر محمد الطيب بالمشاركة في ترحيل الفلاشا من أجل تحرير بيت المقدس الشريف من أيدي اليهود؟؟ فلماذا خفي ذلك على خطيبنا الذي صب جام غضبه على الدكتور عبدالله الطيب محاولا مصادرة حقه في الإبداع وعلى محمود ومصادرة حقه في الإجتهاد، وما هو موقف خطيبنا من بعض المجددين في السودان؟؟ وقد فاقت تجديداتهم تجديدات محمود محمد طه.
هل يبكي خطيبنا على طلل الماضين من أسد سدنة مايو المباد، أم على رئيس جهاز أمن الدولة الذي فتح له قصر الشعب فكان هارون زمانه وفتح له ولثلته منزله ومسجده وبني مسجد النيلين ليكون مقبرة أو ضريحا لرئيسه المخلوع ليدفن فيه بعد أن يكون قد أسكت أصوات الشرفاء ودفن كل شعب السودان بمجاعات تسبب فيها عمدا، والجوع كافر.
فرعون وادي النيل شيّد معبده على ضفاف النيل وسار اليه عاريا من الإيمان، وكون له مجلس ادارة ليرأسه كبير الكهنة ووزير شئونه الخاصة، ولكن ارادة الله كانت فوق ارادة الطاغية، فلم يسعد كهنته وزبانيته بدفنه في مثواه الأخير الذي تمناه وكأنه ابن الإله رع، الذي ظن أنه الإمام المجدد على رأس هذا القرن، وظن انه مبعوث العناية الآلهية الذي استخار الله في أمر محمود فلم يجد له مخرجا، ليته في حيثيات المصادقة على الحكم قد كشف عن استخارته لثلة الفقهاء الذين استعان بهم رئيس جهاز أمن الدولة.
لقد كنا نتوقع من خطيبنا ان يحدث وفود العلماء العرب عن براءة السودان من ترحيل الفلاشا أم لدى رئيس جهاز أمن الدولة فتوى شرعية تجيز له ترحيلهم؟؟ وأيهما أخطر على أمة الإسلام محمود الشيخ الكهل، أم فتية الفلاشا الأقوياء الأشداء؟؟ وهل نسي خطيبنا دور صحف الخليج في اسقاط حكم الطاغية بعد اعدام محمود محمد طه وترحيل الفلاشا مباشرة؟؟
ان على السودانيين ان يبتعدوا عن أسلوب ابتكرته بعض الجماعات حتى اصبحت ظاهرة التسوّل ظاهرة عامة للأفراد والجماعات والأحزاب لتضرب بعضها بعضا، فهذا حزب ليبيا وذلك يموّله العراق، وآخر سوريا ورابع موسكو وخامس مصر وسادس ايران وسابع دول الخليج وثامن مجلس الكنائس العالمي وتاسع المخابرات الأمريكية، وتدور الإتهامات همسا وعلانية، فكأننا قد اصبحنا عاجزين عن الإعتماد على الذات وشعبنا يصنع الثورات فتجهضها القيادات. لقد أعاننا الأخوة العرب وعلينا ان نبرهن لهم على اننا قادرون على عون أنفسنا، علينا أن نظهر لهم وحدتنا قبل أن نجرّهم الى تعميق الفرقة بيننا.
لقد عمد خطيب مسجد النيلين الى استجداء زواره وضيوفه من علماء وأمناء منظمة الدعوة الإسلامية (والتي نتمنى الاّ توظف لأغراض سياسية)، راجيا من فاعل خير تزويده بمبالغ تساعده على اسماع صوته للمسلمين الخارجين على دينهم من خلال اقامة وكالة اسلامية للأنباء لتساعده على طباعة المناشير بدلا من محاربة المجاعة، ويستعدي ضيوفنا الكرام على النقابات والتجمعات والأحزاب السودانية المخالفة له، ليتك أصدرت منشورا أو فتوى عن الطاغية وزمرته.
ويتحسر الخطيب لأن صوته لا يسمع كمعارضيه، وينسى أو يتناسى ان كل أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية تنقل خطبة كل جمعة على الهواء مباشرة وتلك مكرمة من مكارم الديمقراطية التي حققتها ثورة رجب التي اعجب بها رجال الدين المسلمين حقا.
ان بعض الجماعات تحاول ان تستعدي ائمة الإسلام وعلماءه وكأن الإسلام يواجه خطرا بعد ثورة رجب في السودان، وقد كان الخطر على الإسلام كامنا في عهد ونظام مايو الذي عذّب وشنق وقطع أوصال الفقراء المعوزين، وأعفى الأثرياء القادرين باسم الإسلام، وهذه قضية فهمها العرب وعلماؤهم اجمعين مثلما فهمها شعب السودان، وقد رثت الصحافة العربية على وجه العموم والخليجية على وجه الخصوص محمود محمد طه قبل أن تتاح للسودانيين فرصة رثائه على صفحهم. ونحن نرثي محمودا انما نرثيه كبطل كان استشهاده الشرارة الأولى التي عجّلت بالقضاء على نظام مايو البغيض، وهذا درس تعلمه العرب من السودان جيدا ووعاه الكتاب والأدباء المخلصون من أبناء العرب وأبناء شعبنا وجادت قرائحهم كما جادت قريحة عالمنا الفذ عبدالله الطيب بقصائد رثاء لم تنظم في شهيد قبله. فما الؤي يستفز أمام مسجد النيلين "كاد المريب أن يقول خذوني"، ولكن ثورة رجب لا تأخذ الناس بالشبهات والأحقاد، فلا نريد ان يستمر التكفير والمحاربة والنفي والقتل والطرد حتى لا تخرب ديارنا مثلما خربت ديار الفونج من قبلنا.
صحيفة الأيام 3 يوليو 1985
أعيد نشرها في كتاب "قادة السودان... وآفة النسيان" صفحات 101 - 107