إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الأستاذ محمود محمد طه والمثقفون (٢٠)

عبدالله الفكي البشير


الأستاذ محمود محمد طه والمثقفون (20)


الأستاذ محمود والمفكرون الإسلاميون
الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد (نموذجاً) (أ)


عبدالله الفكي البشير

في عام 1968م أهدى الأستاذ محمود محمد طه (1909م-1985م) كتابه: زعيم جبهة الميثاق الإسلامي في ميزان: 1. الثقافة الغربية 2. الإسلام، إلى الشعب السوداني، قائلاً: (إلى الشعب السوداني: الذي لا تنقصه الأصالة، وإنما تنقصه المعلومات الوافية.. وقد تضافرت شتى العوامل لتحجبه عنها).


الأستاذ محمود والمفكرون الإسلاميون


يمكنني بناءً على خلاصات الحلقات السابقة، أن أقول: إن تسييل فكر الأستاذ محمود لم يتم بعد، وأن الحوار حوله لم يبدأ، كما أن رؤيته السياسية قد حُجبت قصداً، ونضاله من أجل السودان والإنسانيه قد أُغفل عمداً. لقد اتسم فكر الأستاذ محمود بالأصالة والجدة، وكان صاحب رؤية سياسية ثاقبة وفريدة. كتب الدكتور عبدالله بولا في دراسته الموسومة بـ: "محاولة للتعريف بمساهمة الأستاذ محمود محمد طه في حركة التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر"، مجلة رواق عربي، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، العدد الرابع، أكتوبر 1996م، قائلاً: (... ان مساهمة الأستاذ محمود محمد طه لم تقف بأصالتها عند حدود التجديد النظري بل امتدت إلى كافة مجالات العمل الحركي السياسي والتربوي المنظم). غاب مشروع الأستاذ محمود عن الحضور في ردهات مؤسسات التنوير الأكاديمية وغير الأكاديمية، وغُيِّب عنه الطلاب والباحثون والمؤرخون وغمار الناس. ولكنه غياب وتغييب إلى حين. هذا التغييب لمشروع الأستاذ محمود، قابله حضور قوي للأستاذ محمود في الكثير من أطروحات المفكريين الإسلاميين ومساهماتهم. كانت أفكار الأستاذ محمود حاضرة عندهم دون إعلان عنها، وكان تأثيره واضحاً في أطروحاتهم، برغم سكوتهم عن ذكره وإغفال الإشاره إليه. قال الدكتور منصور خالد: (الكثير من الناس تأثر بالأستاذ محمود، فلننظر إلى الأفكار الجديدة للصادق المهدي وللترابي ولينظروا لأفكار الأستاذ محمود لنرى مدى التأثير). منصور خالد، برنامج مراجعات، حلقة مُعادة، حوار الطاهر التوم، تلفزيون النيل الأزرق، الساعة 22:35، 6/4/2009م، السودان. أيضاً، كان الدكتور إبراهيم محمد زين قد أعد دراسة حول كتاب الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد (1942م- 2004م): (العالمية الإسلامية الثانية: جدلية الغيب والإنسان والطبيعة). جاءت الدراسة بعنوان: "العالمية الثانية وإعادة قراءة التاريخ الديني للإنسانية". أشار الدكتور إبراهيم في دراسته إلى أن الأستاذ محمد أبو القاسم استفاد كثيراً من أفكار الأستاذ محمود، وتحدث عن ما اسماه بنهج السكوت الاستراتيجي لدى الأستاذ محمد أبو القاسم في كتاب "العالمية الثانية" عن مصادر تفكيره واهتمامه العلمي، قال الدكتور إبراهيم: ((أما المثال الثاني للسكوت الاستراتيجي، فهو يخص محمود محمد طه... على الرغم من أن الإشارات التي وردت في حق محمود محمد طه تحتوي على نبرة عالية من السخرية وعدم الرغبة في الإشارة بالتعين، إلا أن أطروحة محمود محمد طه حاضرة في نص العالمية الثانية، فقد أخذت منها كثيراً من المعالم، وتبنت بعض خلاصتها العلمية...). وأضاف الدكتور إبراهيم قائلاً: (لعل من خَبِر التراث الفكري لمحمود محمد طه في الرسالة الثانية، أو طريق محمد، أو نقد التفسير العصري لمصطفى محمود، أو محاضرته عن الماركسية وغيرها من الرسائل يرى نقاط اتفاق كثيرة، لكن ما عمله حاج حمد في كتابه هو محاولة بيان نقاط الاختلاف الجوهرية بينه وبين محمود محمد طه، دون أن يعطيه ميزة الذكر بالاسم أو التنويه لمؤلفاته، ولعل في ذلك غرض خفي تغاباه حاج حمد وتركة للقارئ الفطن ليفهم تلك السخرية والحدة في التناول في إطار ما أسميناه بالسكوت الاستراتيجي). (إبراهيم محمد زين، "العالمية الثانية وإعادة قراءة التاريخ الديني للإنسانية"، مجلة أفكار جديدة، هيئة الأعمال الفكرية، العدد الثامن عشر، الخرطوم). وأحسب أن الدكتور إبراهيم شارك بدراسته تلك في "أعمال الندوة العالمية حول فكر محمد أبوالقاسم حاج حمد" التي نظمت في شهر مايو من عام 2007م، بفندق الهيلتون، الخرطوم، التي شارك فيها نخبة من المفكرين العرب والأفارقة إلى جانب مفكرين ومختصين من السودان.
الشاهد أن أثر الأستاذ محمود ظل واضحاً وحاضراً في أطروحات المفكرين الإسلاميين السودانيين، بل امتد تأثيره وحضوره في أطروحات فكرية لآخرين من خارج السودان. وربما نلحظ ذلك عند المفكر الدكتور نصر حامد أبو زيد (1943م-2010م)، الذي عمل سابقاً أستاذاً بجامعة القاهرة فرع الخرطوم، وربما نلحظة أيضاً، عند الدكتور سيد القمني. وهناك غيرهم.

محمد أبو القاسم حاج حمد لماذا؟


يعود اختياري للأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد كنموذج لمحور: "الأستاذ محمود والمفكرون الإسلاميون"، إلى ثلاثة أسباب هي:
أولاً: لقد أتيحت لي فرصة الإطلاع على معظم كتب الأستاذ محمد أبو القاسم، وكذلك على عدد مقدر من دراساته ومقالاته.
ثانياً: لقد التقيت بالأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد لأول مرة بفندق قصر الصداقة في الخرطوم عام 1995م، بمعية صديقي الأستاذ أمير صديق، الذي يعمل حالياً إعلامياً بقناة الجزيرة، وصديقي المهندس عماد البليك، الذي يعمل حالياً سكرتيراً لتحرير صحيفة عمان، بمسقط، سلطنة عمان. كنا وقتئذ طلاباً في الجامعات يشغلنا حوار متصل حول المثقف السوداني. عماد وشخصي طلاباً بجامعة الخرطوم، وكان أمير قد أنجز بكالريوس اللغة الفرنسية. قلت للأستاذ محمد أبو القاسم في ذلك اللقاء ضمن تساؤلات أخرى من الأخوين أمير وعماد، قلت له: من يقرأ كتابك: (العالمية الإسلامية الثانية: جدلية الغيب والإنسان والطبيعة)، يرى الأستاذ محمود بين سطوره. تحدث الأستاذ محمد أبو القاسم حديثاً مطولاً حول تلك الإشارة، ولسوف أورد لاحقاً بعضاً من حديثه، خاصة وأني لا أزال أحتفظ بشريط الكاسيت الذي سجلنا فيه ذلك اللقاء، وهو بحالة جيدة.
ثالثاً: بسبب ذلك الحوار مع الأستاذ محمد أبو القاسم ظللت متابعاً للندوات والدراسات النقدية حول مساهماته الفكرية، ومن ذلك كما سيرد لاحقاً، ندوة القاهرة مارس 1992م، وندوة الخرطوم مايو 2007م، إلى جانب بعض الدراسات والمقالات النقدية.
موضوع الأستاذ محمود والأستاذ محمد أبوالقاسم، موضوع كبير، ولهذا، فإنني سأعالجه معالجة مجمله من خلال تقديم إضاءات ومداخل وسأتوسع أكثر حينما أعد هذه الحلقات في كتاب. وبما أن معالجة موضوع الأستاذ محمود والأستاذ محمد أبو القاسم تقضتي كتاباً قائماً بذاته، فقد رأيت تقسيم الموضوع إلى حلقتين، نسبة لأن التقاطع بين الأستاذ محمود والأستاذ محمد أبو القاسم كان على صعيدين، الصعيد الأول: هو الصعيد السياسي، ولهذا سأتناول في هذه الحلقة الموقف السياسي للأستاذ أبو القاسم من الأستاذ محمود كما هو مثبت في كتاباته، وهو موقف شابه شىء من العداء. وسأتناول في حلقة لاحقة التقاطع على الصعيد الثاني وهو صعيد الفكر الإسلامي.

تعريف بالأستاذ محمد أبو القاسم


وُلد الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد (1942م- 2004م)، في جزيرة "مقرات" في أبو حمد. دَرس الكتّاب والوسطى في مدينة بور تسودان، وبعض الثانوية بمدينة عطبرة، ثم أنهى دراسته الثانوية العليا في 1962م في مدرسة "الأحفاد" بمدينة أم درمان. انتمى في بواكير شبابه للثورة الإرترية عام 1963م، والتحق بقيادة حزب الشعب الديمقراطي عام 1965م، فتولى مسؤولية بعض الدوائر الانتخابية والحركة العمالية في الحزب. كما انتمى لمنظمات "الاشتراكيين العرب" عام 1966م. تفرغ للثورة الإرترية، وأصبح مسؤولاً في أول مكاتبها الخارجية في دمشق حيث أشرف على الإعلام وبعض الاتصالات الخارجية، كما ساهم في تمرير أولى شحنات الأسلحة السورية لإرتريا عام 1965م. وبعد استقلال إرتريا عام 1993م حُظى بالجنسية الإرترية والسمة الدبلوماسية كتقدير أدبي، وعُين مستشاراً لشئون الاستثمار لدولة أرتريا. عمل في عام 1975م مسؤولاً في قسم المعلومات في الدائرة السياسية ثم إدارة التفتيش بوزارة خارجية دولة الإمارات العربية المتحدة حتى استقالته في عام 1982م. أسس في عام 1982م "مركز الإنماء الثقافي" في أبوظبي، كما أسس "وكالة التعاون الخليجي للتمثيل الإعلامي وتسويق الدراسات" في دبي عام 1986م. عمل مديراً لتحرير صحيفة "الفجر في أبو ظبي في الفترة من يوليو 1986م إلى إبريل 1987م. ارتحل إلى قبرص في عام 1988م حيث أسس "دار الدينونة" للنشر، كما أسس وكالة أنباء القرن الإفريقي، ومجلة "الاتجاه". كما اختار مدينة بيروت مقراً لإقامته. عمل مستشاراً علمياً للمعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية خلال الفترة من 1990م إلى 1995م. قاد في عام 1997م محاولات الوفاق بين السودان وإرتريا في إطار تطلعه لكنفدرالية القرن الإفريقي. كما سعى لإحداث وفاق سوداني- سوداني شامل، ودعا للوفاق الوطني. كان من دعاة التوجه الإقليمي للسودان نحو القرن الإفريقي في إطار التنسيق مع الدول المتشاطئة حول النيل وعلى رأسها مصر، ودول البحر الأحمر وعلى رأسها المملكة العربية السعودية واليمن. أسس الأستاذ محمد أبو القاسم في عام 1999م حزباً سياسياً في السودان واختار له اسم: الحركة السودانية المركزية للبناء والوحدة (حسم)، ضمن أحزاب التوالي، ثم ما لبث أن حل حزبه في عام 2001م.

الإنتاج المعرفي للأستاذ محمد أبو القاسم


تمحور الإنتاج المعرفي للأستاذ محمد أبو القاسم في أربعة ميادين هي: درسات عن السودان، ودراسات في الفكر الإسلامي، ودراسات عن إرتريا والقرن الإفريقي، ودراسات عن الخليج العربي والعالم العربي.

الدراسات عن السودان:


كان كتابه: (الوجود القومي)، مطبعة الزمان، الخرطوم، 1964م، من أوائل كتبه. كما نشر بعد ذلك كتاباً بعنوان: (الثورة والثورة المضادة في السودان)، من دار الطليعة، بيروت، لبنان، عام 1969م. وصدر له كتاب: (نحو وفاق وطني سوداني: رؤية استراتيجية) عن مركز الدراسات الاستراتيجية، بالخرطوم عام 1998م، (220 من القطع المتوسط). إلا أن كتابه العمدة في الدراسات السودانية هو كتاب: (السودان: المأزق التاريخي وآفاق المستقبل)، وصف أبو القاسم كتابه هذا في مقدمته قائلاً: (إنه دراسة تحليلية موثقة لخلفيات التركيب الحضاري والتكوين الجغرافي، السياسي والفكري بداية من القرن السابع قبل الميلاد وإلى ما بعد الإنقاذ انتهاء بعام 1996م). كانت الطبعة الأولى من هذا الكتاب قد صدرت عام 1980م في مجلد واحد وغطى الفترة من (700 ق.م. إلى عام 1980م). ثم صدرت الطبعة الثانية من الكتاب في مجلدين، فغطى المجلد الأول (جدلية التركيب منذ 700 ق.م. وإلى 1980م). والمجلد الثاني: (من 1956م وإلى 1996م)، ويحتويان على 1375 صفحة. صدرت الطبعة الأولى من دار الكلمة ببيروت، لبنان. والطبعة الثانية عام 1996م صدر عن المكتب العالمي للدراسات والأبحاث، بجزر الهند الغربية البريطانية. وقامت بتوزيعه دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان.
وهناك العديد من المقالات التي نُشرت في صحف سودانية وغير سودانية إلى جانب المحاضرات والمشاركات في الندوات والمؤتمرات واللقاءات التلفزيونية.

الدراسات في الفكر الإسلامي


أهم كتبه في مجال الدراسات المنهجية والفلسفية في الفكر الإسلامي هو كتاب: (العالمية الإسلامية الثانية: جدلية الغيب والإنسان والطبيعة). صدر الكتاب في طبعته الأولى عام 1979م في مجلد واحد. ثم صدرت الطبعة الثانية عام 1996م في مجلدين (1072 صفحة من القطع المتوسط)، عن المكتب العالمي للدراسات والأبحاث، بجزر الهند الغربية البريطانية. وقامت بتوزيعه دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان. كما نشر دراسة بعنوان: "الأزمة الفكرية والحضارية للواقع العربي الراهن"، وهي دراسة تحليلية لمعالجات الصحوة الإسلامية والبحث عن القوانين الذاتية للخصوصية العربية، نشرت في (29) حلقة بصحيفة "الخليج"، الشارقة، خلال الفترة من 11 فبراير 1987م وإلى سبتمبر 1987م. ثم طوَّر الدراسة لاحقاً، وقام المركز الإسلامي بواشنطن بطبعها وتعميمها في تداول محدود، 1990م. وأصدر كتاب: (منهجية القرآن المعرفية: أسلمة فلسفة العلوم الطبيعية والإنسانية)، وهو كتاب فرغ من تأليفه في واشنطن عام 1991م. وتبنى المعهد الإسلامي العالمي بواشنطن طباعته وتعميمه في تداول محدود. وعقدت حوله ندوة في القاهرة مارس 1992م. كما صدر له كتاب: (أبستمولوجية المعرفة الكونية، إسلامية المعرفة والمنهج)، سلسلة فلسفة الدين والكلام الجديد، دار الهادي، بيروت، 2004م. (428 صفحة من القطع المتوسط).إلى جانب دراسات أخرى لا يسع المجال لذكرها.

الدراسات عن إرتريا والقرن الإفريقي:


نشر عام 1968م دراسة بعنوان: "حتمية الثورة الشعبية المسلحة في أرتريا وطبيعتها"، مجلة دراسات عربية، بيروت، سبتمبر 1968م. كما أصدر كتاب بعنوان: (الأبعاد الدولية لمعركة إرتريا)، دار الطليعة، بيروت، 1974م. ونشر "دراسات في القرن الأفريقي"، و "الثورة الأرترية ومنازعات القرن الأفريقي" دراسة من (6) حلقات، صحيفة الفجر، أبوظبي، أكتوبر، نوفمبر 1986م. وكذلك دراسة عن "أزمة القرن الأفريقي وموقعه في استراتيجية العدو الصهيوني" مركز دراسات العالم الإسلامي في مالطا، 25 مايو 1990م. وغيرها.

الدراسات عن الخليج العربي:


نشر العديد من الدراسات والبحوث، ومن أهمها كتابه: (السعودية: قدر المواجهة المصيرية وخصائص التكوين، لا حرب دون مصر- لا سلام دون سوريا- لا تطبيع دون السعودية)، الطبعة الأولى عام 1996م، (326 صفحة من القطع المتوسط).

الموقف السياسي من الأستاذ محمود


من واقع الدراسات المنشورة للأستاذ محمد أبو القاسم، ومن أهمها كتابه: (السودان: المأزق التاريخي وآفاق المستقبل) كما وردت الإشارة إليه سابقاً، نجد أن الموقف السياسي للأستاذ محمد أبو القاسم من الأستاذ محمود لا ينفصل من موقف طلائع المتعلمين. فموقف طلائع المتعلمين من الأستاذ محمود كما بيَّنت في الحلقات السابقة، موقف اتسم بالعداء والسعي لتغيبه عن الذاكرة الجمعية. كذلك أغفل محمد أبو القاسم الأستاذ محمود ودوره في تطور الحركة الوطنية وفي النضال السياسي. لقد ترسم الأستاذ محمد أبو القاسم خطى طلائع المتعلمين. فحينما أصدر كتابه آنف الذكر في طبعته الأولى عام 1980م، في مجلد واحد، أظهر فيه تجاهلاً متعمداً للأستاذ محمود، وأغفله إغفالاً ينم عن غرض وضغينة. وحينما كتب المجلد الثاني وأصدر الطبعة الثانية من كتابه عام 1996م، في مجلدين. أظهر فوق التجاهل المتعمد والإغفال المغرض، عداءً فارق معه العلمية في التناول والحياد المتوقع من باحث في قامته. فالأستاذ محمد أبو القاسم رجل (أعرض في العلم وبلغ الغاية في البحث والاستقصاء) كما وصفه الدكتور منصور خالد. (منصور خالد، جنوب السودان في المخيلة العربية: الصورة الزائفة والقمع التاريخي، دار تراث للنشر، لندن، 2000م، ص 330). ولكن مع ذلك، تجاهل إسهام الأستاذ محمود ودوره النضالي الثابت في كتاب الأستاذ أحمد خير المحامي الذي يُعتبر العمدة في تاريخ الوطنية السودانية. وفي تقديري أن محمد أبو القاسم تشرب العداء للأستاذ محمود منذ سني شبابه الباكر. قبل الوقوف على طبيعة تجاهل الأستاذ محمد أبو القاسم للأستاذ محمود، وإظهار العداء له، أود أن أقف عند السؤال التالي كيف ترسم الأستاذ محمد أبو القاسم خطى طلائع المتعلمين في موقفهم من الأستاذ محمود؟ وُلد محمد أبو القاسم قبيل مهرجان تكوين الأحزاب السودانية، بنحو بعام ونيف، حيث وُلد في (نوفمبر) نهاية عام 1942م، وكان مهرجان تكوين الأحزاب خلال عامي 1944م و1945م. ولج محمد أبو القاسم العمل السياسي في شبابه الباكر، حيث أصبح من قيادات حزب الشعب الديمقراطي وهو في سن الثالثة والعشرين، مستظلاً بمظلة الشيخ علي عبد الرحمن الأمين (1906م-1983م). وقد أشار لذلك في كتابه، الذي خصص فيه فصلاً للحديث عن الشيخ علي قائلاً في صفحة (298) من المجلد الثاني: (ربما بدا للبعض وقتها أن اختياري لحزب الشعب قد يرجع إلى اعتبارات طائفية وقبلية، غير أن تلك الاعتبارات لم يكن لها شأن بالاختيار ولكن كان لها كل الشأن في المركز القيادي الذي شغلته في سن مبكرة وفي ممارستي لدور أكبر من حجمي الحقيقي في أوساط الحزب الإعلامية في الخرطوم والعمالية في عطبرة، ولعلي قد استمتعت كثيراً بمظلة الشيخ القوية). في تقديري، أن ملازمة الأستاذ محمد أبو القاسم للشيخ علي في شبابه الباكر، قد ساهمت في تكوينه السياسي، وفي موقفه من الأستاذ محمود. خاصة وأن للشيخ علي موقفاً من الأستاذ محمود عبر عنه في مذكراته بالتجاهل المتعمد والإغفال المقصود، (لقد بينت ذلك في الحلقة (13) من هذه السلسلة، وقد نُشرت الحلقة يوم الخميس 18 نوفمبر 2010م)، ولعل هذا يفسر لنا موقف الأستاذ محمد أبو القاسم من الأستاذ محمود، بل أذهب أبعد من ذلك لأقول أن الأستاذ محمد أبو القاسم قد تشرب العداء للأستاذ محمود منذ تلك المرحلة.
لم يكن الشيخ علي -حال معظم طلائع المتعلمين- على وفاق مع الأستاذ محمود في الرؤية السياسية، فعلى سبيل المثال، عندما سافر الشيخ علي والسيد إسماعيل الأزهري (1900م-1969م) إلى مصر بعد جفوة بين أزهري والمصريين بسبب إنحياز الأول للاستقلال، وخلافات الختمية مع أزهري، ائتلف الختمية مع الأمة فتكونت حكومة السيدين.. فاتجهت مصر لتجميع أزهري والختمية لإحياء فكرة الاتحاد مع مصر، ونسب لشيخ علي أنه قال لصحف القاهرة إن حزبه الآن يقف في المعارضة. الأمر الذي يدل على استجابته لرغبة المصريين. هذا في الوقت الذي كان فيه شيخ علي لا يزال وزيراً في حكومة السيدين. حينها صرح الأستاذ محمود لصحيفة أبناء السودان 15/11/1958م، قال في بعضه: (... ونسب لإسماعيل الأزهري تصريح أمام جمال عبد الناصر يعترف فيه بهذه الاتفاقية، ويزعم أن هذه الاتفاقية لم تعقنا في شيْ.. وهذا في نظري، بمثابة الخيانة العظمى.. فإن لم يكن هناك قانون يحاكم على الخيانة العظمى، فإن الرأي العام المستنير يجب ألا ينسى مثل هذا العمل الشاذ لأزهري.. إن أزهري بتصريحه السالف يريد أن يقول لجمال عبد الناصر: عاونّي على إسقاط الحكومة الحاضرة وإقامة حكومة أكون على رأسها وأنا كفيل بإعطائك ما تصبو إليه في المسائل المعلقة بيننا !! أما تصريحات علي عبد الرحمن إن صحت، فإن أيسر ما يستحقه أن يفصل من الوزارة..).
في تقديري، أن الأستاذ محمد أبو القاسم قد تأثر بالشيخ علي في موقفه من الأستاذ محمود. ويمكن ملاحظة ذلك في كتابه آنف الذكر. فقد تحدث محمد أبو القاسم في كتابه عن نشأة الأحزاب السياسية، وكان من أهم مصادره عن نشأة الأحزاب، كتاب الأستاذ أحمد خير المحامي (1905م-1995م): (كفاح جيل: تاريخ حركة الخريجين وتطورها في السودان). كان الأستاذ أحمد خير المحامي قد تحدث عن نشأة الحزب الجمهوري من خلال عنوان جانبي لا تخطئه العين، جنباً إلى جنب مع بقية الأحزاب. وعلى الرغم من ذلك فقد تحدث الأستاذ محمد أبو القاسم في كتابه في الصفحات (414-422) من المجلد الأول، عن كل الأحزاب التي وردت في كتاب أحمد خير المحامي عدا الحزب الجمهوري، فلم ترد أي إشارة إلى نشأته أو إشارة إلى رئيسه الأستاذ محمود. وتحدث وأشار إلى نحو 22 حزباً معتمداً على كتاب الأستاذ أحمد خير وعلى مصادر ومراجع أخرى، ولم ترد أي إشارة للحزب الجمهوري أو الأستاذ محمود. وبعد أن تجاوز نشأت الأحزاب، وفي فصل لاحق، تحدث عن "المؤتمر الوطني للدفاع عن الديمقراطية" الذي نشأ عام 1965م، وضم (32) تنظيماً، ذكر أن من بينهم كان الحزب الجمهوري الذي يقوده الأستاذ محمود محمد طه. ثم عرَّف الحزب الجمهوري في هامش الصفحة. قائلاً: (حزب ديني يعتمد على الاتجاهات التجديدية التأويلية الباطنية للأستاذ المهندس محمود محمد طه وهو حزب نخبة صغير معادية للإخوان المسلمين والطائفية. وقد حرض الإخوان المسلمون نميري على إعدام الأستاذ محمود تاريخ 18 يناير 1985م). وهذا تعريف لا يمكن قبوله من أستاذ كبير وباحث دقيق في قامة محمد أبو القاسم، فهو بلاشك قد قرأ ما قاله الأستاذ أحمد خير المحامي عن الحزب الجمهوري وعن رئيسه الأستاذ محمود، ولكن أغفله عمداً. ولقد أوردت في الحلقات السابقة ما قاله الأستاذ أحمد خير المحامي، كما أوردت الكثير من المصادر والمراجع التي تحدثت عن نشأة الحزب الجمهوري وعن رئيسه الأستاذ محمود، وعن دوره النضالي واسهامه في الحركة الوطنية، ومن هؤلاء: الأستاذ يحيى محمد عبد القادر(1914م-؟؟؟)، والأستاذ التجاني عامر (1908م-1987م)، والدكتور محمد سعيد القدَّال (1935م-2008م)، والدكتور منصور خالد، والدكتور فرانسيس دينق، والدكتور فيصل عبدالرحمن علي طه، وغيرهم.
من المعروف عن الأستاذ محمد أبو القاسم أنه قارئ نهم، كان يقول: (حينما كنت طالباً في المدرسة كانت معي مفاتيح المكتبة، فإن أرادوا المكتبة سألوا عني). وتلمح ذلك أيضاً، في طول قائمة المصادر والمراجع في دراساته، وتجد الغريب النادر من المصادر والمراجع بينها، فهو قارئ نهم ومُوثق دقيق. ولهذا، فإنه بلا شك قرأ الكثير من المصادر والمراجع التي تحدثت عن نشأة الحزب الجمهوري، ولكن العداء الذي تشربه منذ سنى شبابه الباكر تجاه الأستاذ محمود جعله صاحب غرض، وهو يترسم نهج طلائع المتعلمين. بل أظهر عداءً شديداً للأستاذ محمود في المجلد الثاني، وهو يتحدث عن إعدامه، حديثاً تلمح فيه التشفي الواضح. فقد تحدث حديثاً يتنافى مع العلمية وأسس البحث، ولا يتماسك أمام النقد بأدنى سبل استخدام مقارنة القرائن، وبأقل حد من إمكانيات التنقيب البحثي، فضلاً عن مجافاة حديثه للحس الإنساني السليم. تحدث وكان أثناء حديثه يحيل القارئ في هامش الصفحة إلى تقارير سلطات الأمن بتاريخ كذا وكذا. ولكن لأي جهة قدمت هذه التقارير؟ ومن الذي أعدَّها؟ وما الغرض من إعدادها؟ وأين هي مودعة؟ وكيف يمكن التحقق من صحة وجودها أصلاً سواء كانت صحيحة أو خطأ؟ أسئلة كثيرة، ليست لها إجابات الأمر الذي ينسف كل ما أورده الأستاذ محمد أبو القاسم فيما يتعلق بإعدام الأستاذ محمود. هذا إلى جانب أنني لا أحسب أن سلطات الأمن لديها تقارير تُنشر بشكل دوري حول الأحداث والوقائع، وإن كانت فلا أحسب أنه يمكن الإعتماد عليها كمصدر من مصادر الدراسات والبحوث، خاصة في قضية مثل قضية الأستاذ محمود، ومن جهاز أمن مثل جهاز أمن الرئيس نميري. كما يجب أن لا ننسى أننا نعيش في العالم الثالث، فسلطات الأمن في العالم الثالث عام 1985م يصعب الأخذ بتقاريرها إلا لدى القائمين على نظام الحكم والمنتفعين من ذلك النظام.

نلتقي يوم الخميس القادم...

(نقلاً عن صحيفة الأحداث، الخميس 6 يناير 2011م)