إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
قبل أن ندخل على فترة ما بعد مايو، سنتناول موقف الاخوان المسلمين من مشكلة الجنوب من جانبين، الجانب السياسي والجانب الفكري لتأثيرها المعوق دوما، على مجريات الأحداث في السودان بعد اكتوبر.. فأما بالنسبة للجانب السياسي، فلم يكن للاخوان المسلمين وجود يذكر في السودان قبل الخمسينيات، فقد نشأت حركة الأخوان المسلمين في مصر على يد الشيخ حسن البنا.. وبحكم الاتصال الثقافي، والسياسي، بين مصر والسودان بدأت هذه الحركة تظهر في السودان بين الطلاب، فحتى بداية الخمسينات كان نشاط الأخوان المسلمين في السودان محصورا في نطاق الطلاب، ولذلك هم لم يشاركوا في الحركة الوطنية كتنظيم سياسي، ولم يكن لهم موقف من السياسة الانجليزية تجاه جنوب السودان..
لم يظهر الأخوان المسلمون في العمل العام، بصورة واضحة، الا بعد ثورة اكتوبر 1964م.. فبعد ثورة اكتوبر اشترك الاخوان المسلمون في حكومة السيد سر الختم الخليفة الانتقالية.. وعندما تآمرت الاحزاب التقليدية على حكومة اكتوبر، وأطاحت بها، كانوا هم ضمن تلك الاحزاب المتآمرة.. وقد كونوا لهم تنظيما أسموه (جبهة الميثاق الاسلامي)، وكان الغرض من تكوين هذا التنظيم، هو استغلال الاسلام لكسب المزيد من المؤيدين، عن طريق ضم فئات أخرى اليهم.. وقد اشترك الاخوان المسلمون مع الأحزاب الأخرى في مؤتمر المائدة المستديرة لحل مشكلة الجنوب، وقد رأينا كيف أن ذلك المؤتمر فشل في حل المشكلة.. وبعد اكتوبر أدى سلوك الأحزاب السياسي، وفشلها في الحكم، الي زيادة تأزيم مشكلة الجنوب، وتعميق عدم ثقة الجنوبين في الشماليين، وتصعيد الحرب الأهلية.. وقد كان للأخوان المسلمين، دورهم في كل أولئك، فهم مثلا قد كانوا وراء تعديل الدستور، وحل الحزب الشيوعي، وطرد نوابه من الجمعية التأسيسية.. وقد كان لهذا الاجراء أثره السيء على الجنوب، فقد بدا للجنوبيين، أن أي اتفاق مع الاحزاب الشمالية لحل مشكلة الجنوب سياسيا، أمر غير مضمون العواقب، فربما تنكرت هذه الاحزاب لمثل هذا الاتنفاق، وغيرته بالصورة التي تخدم أغراضها هي كما فعلت مع الحزب الشيوعي!!
الدستور الاسلامي المزيف:
والأمر الآخر الذي قام به الأخوان المسلمون، وزادوا به عدم ثقة الجنوبيين في الشماليين، وباعدوا به بين المشكلة والحل، هو رفعهم لشعار الدستور الاسلامي، الذي تبنته الاحزاب الطائفية.. ذلك الدستور الذي دللنا، في العديد من كتبنا، أنه في الحقيقة، ليس بدستور، وليس باسلامي.. وقد أسميناه (الدستور الاسلامي المزيف).. فقد استخدمت الطائفية موضوع الدستور الاسلامي المزيف هذا في استغلال الدين لأغراض السياسة، حتي تمكن لنفسها من رقبة الشعب.. وقد كان الأخوان المسلمون في هذه الفترة ذيلا لطائفة الانصار، التي وظفتهم لخدمة أغراضها.. وقد بدا للجنوبيين في تلك الفترة أن اتجاه الاحزاب الشمالية الي الدستور الاسلامي ما هو الا عمل قصد به فرض الاسلام، واللغة العربية، على الجنوب، حتي تتم الهيمنة التامة عليه.. وقد لاقت محاولة فرض دستور يستغل قداسة الاسلام، مقاومة شديدة من النواب المسيحيين في الجمعية التاسيسية آنذاك.. ومما جاء في هذا الأمر بجريدة الصحافة عدد 25/1/1968م قولها: (فشلت أمس للمرة الثالثة إجازة مسودة الدستور في مرحلة القراءة الثانية.. أصر النواب المسيحيون على الانسحاب رغم كل المحاولات التي بذلت لاقناعهم).. وجاء بالصحافة أيضا عدد 29/1/1968م: (النواب المسيحيون يطالبون بادخال 25 تعديلا على الدستور. التعديلات تنادي بإلغاء النصوص الاسلامية وتطالب بعلمانية الدستور، وانتخاب نائب رئيس الجمهورية من الجنوبيين).. وقد فشل الأخوان المسلمون، والطائفية، في إجازة الدستور الاسلامي المزيف.. وقد سعت الطائفية في النهاية الي فرضه بالقوة، ولكن الله قيض للبلاد، وفي لحظة الصفر، ثورة مايو، لتنقذها من هذه الفتنة.. وبعد فشل تجربة الدستور الاسلامي المزيف، أصبح الأخوان المسلمون يشعرون أن الجنوبيين يشكلون أكبر عقبة أمام طموحهم السياسي، كما شعر الجنوبيون بخطر هذا التنظيم على تطلعاتهم السياسية، ولذلك أصبح هنالك شعور من العدواة متبادل بين الفريقين..
مهزلة محكمة الردة:
عندما انزعجت الطائفية، والاحزاب التقليدية، والأخوان المسلمون، من نشاط الجمهوريين، في كشف تزييفهم للدين، واستغلاله لأغراض السياسة، دبروا في 18/11/1968م ما سمي (بمحكمة الردة) للتخلص من خطر الجمهوريين عليهم.. وقد سعت تلك المكيدة السياسية الخاسرة الي حل الحزب الجمهوري، ومصادرة كتب الجمهوريين، ولذلك جآءت قرارات المحكمة متضمنة لهذين الأمرين!! والأمر الذي يهمنا هنا عن مهزلة محكمة الردة انعاكاسها على مشكلة الجنوب.. فقد اعطت تلك المكيدة الجنوبيين تصورا كافيا، لما يعنيه الأخوان المسلمون والطائفيون بالدستور الاسلامي.. فأصبح الجنوبيون يتصورون، أنه اذا كان هذا هو موقف هذه الأحزاب ممن يخالفونهم الرأي في إطار الدين الواحد، وحتي قبل إجازة الدستور الاسلامي، فكيف يكون الحال بالنسبة لهم هم، كغير مسلمين، اذا إجيز ما سمي بالدستور الاسلامي!!
الترابي وحقوق غير المسلمين:
لم يكتب الأخوان المسلمون، بصورة مباشرة، عن مشكلة الجنوب.. وهم لم يفعلوا، تفاديا للحرج الذي ستضعهم فيه مثل هذه الكتابة، إذ أنهم لوكتبوا عن مشكلة الجنوب، فإنهم إما أن يتنكروا للشريعة، التي يزعمون أنهم يدعون الي تحكيمها، وذلك لأرضاء غير المسلمين في الجنوب، أو أن يفصحوا بكل الصدق والوضوح عن موقفهم من غير المسلمين، فيخسروا بذلك الجنوبيين.. ولذلك فقد آثروا الصمت، في هذا الموضوع، تفاديا للحرج.. ولكن الأب فيليب عباس غبوش أفسد عليهم محاولتهم هذه للصمت. فهو قد حاصر زعيمهم الترابي، أثناء مداولات اللجنة القومية للدستور الدائم، حتي اضطره اضطرارا للافصاح عن رأيه..
فقد جاء في محضر مداولات اللجنة القومية للدستور الدائم الحوار التالي:
(السيد موسى المبارك: جاء في مذكرة اللجنة الفنية نبذة حول الدستور الإسلامي في صفحة (7) أن يكون رأس الدولة مسلما، أود أن أسأل: هل لغير المسلمين الحق في الاشتراك لانتخاب هذا الرئيس ؟
السيد حسن الترابي: ليس هناك ما يمنع غير المسلمين من انتخاب الرئيس المسلم، الدولة تعتبر المسلمين وغير المسلمين مواطنين، أما فيما يتعلق بالمسائل الاجتهادية فإذا لم يكن هناك نص يترك الأمر للمواطنين عموما، لأن الأمر يكون عندئذ متوقفا على المصلحة، ويترك للمواطنين عموما أن يقدروا هذه المصلحة، وليس هناك ما يمنع غير المسلمين أن يشتركوا في انتخاب المسلم، أو أن يشتركوا في البرلمان لوضع القوانين الاجتهادية التي لا تقيدها نصوص من الشريعة..
السيد فيليب عباس غبوش: أود أن اسأل يا سيدي الرئيس، فهل من الممكن للرجل غير المسلم أن يكون في نفس المستوى فيختار ليكون رئيسا للدولة ؟؟
الدكتور حسن الترابي: الجواب واضح يا سيدي الرئيس فهناك شروط أهلية أخرى كالعمر والعدالة مثلا، وأن يكون غير مرتكب جريمة، والجنسية، وما إلى مثل هذه الشروط القانونية..
السيد الرئيس: السيد فيليب عباس غبوش يكرر السؤال مرة أخرى.
السيد فيليب عباس غبوش: سؤالي يا سيدي الرئيس هو نفس السؤال الذي سأله زميلي قبل حين، فقط هذا الكلام بالعكس، فهل من الممكن أن يختار في الدولة – في إطار الدولة بالذات – رجل غير مسلم ليكون رئيسا للدولة ؟؟
الدكتور حسن الترابي: لا يا سيدي الرئيس..)
واضح من الحوار التواء الترابي، فهو لم يجب على السؤال الا بعد أن حوصر، وذلك تفاديا للحرج الذي ذكرناه، وهوموقف الأخوان المسلمين بصورة عامة من حقوق غير المسلمين، فهم لا يحبون أن يعلنوا رأيهم في هذا الأمر بصورة واضحة، وهو تمويه على كل حال لا معنى له، طالما أنهم يدعون إلى تحكيم الشريعة، وموقف الشريعة واضح، ومعروف.. والأخوان المسلمون في عملهم السياسي ليس لهم منهج، وتصور ثابت يلتزمونه.. وقد رصدنا نحن لهم، في كتاباتنا عنهم العديد من الأقوال، والمواقف، المتناقضة.. وهم، وفي ظل ثورة مايو، التي حاربوها بالسلاح، بحجة أنها لا تحكم بالاسلام، ثم جاءوا ليشتركوا معها في الحكم اشتراكا تاما، هم حينها، كانوا يزعمون أنهم يعملون على تحكيم الشريعة الاسلامية.. فهم قد كانوا وراء تكوين (لجنة تعديل القوانين لتتمشى مع الشريعة الاسلامية)، واليهم تنتهي رئاسة هذه اللجنة، وعملهم في هذه اللجنة هو أيضا من أسباب تصعيد التوتر في نفوس الجنوبيين، وتصعيد الصراع العقيدي بين المسلمين والمسيحيين.. ولقد كان مما قاموا به في هذا الصدد من عمل كاد يؤدي للفتنة الدينية، معارضتهم للمسيحيين في الاحتفال بمناسباتهم الدينية، وإصدار المنشورات التي تدعو للفتنة الدينية بين المسلمين والطوائف المسيحية.. وقد رصدنا لهم نحن في هذا الصدد، ضمن كتاباتنا عنهم صورة لهذه المنشورات التي وزعوها، وعرضوا نماذج منها في ميدان المعارض بأبي جنزير، في معرض نظمه اتحاد طلاب الجامعة الاسلامية والذي يسيطر عليه الاخوان المسلمون.. فلقد جاء في احدى منشوراتهم هذه قولهم: (أيها المواطنون: لقد أصبح التحرك المسيحي المشبوه في السودان أمرا بالغ الخطورة على المسلمين وعلى العقيدة الاسلامية، وصار السكوت عليه جريمة في حق المسلمين وعقيدتهم، وخطرا يهدد وجودهم وكيانهم وحاضرهم ومستقبلهم.. ولقد أصبح من الحقائق الثابتة أن النشاط الكنسي القائم في البلاد منذ سنوات، إنما هو مخطط مرسوم ومدعوم من قوى أجنبية مسيحية، خارج وداخل البلاد)..
ويمضي منشور الأخوان المسلمين في تأجيج مشاعر الهوس الديني، وكأنما هناك حربا صليبية وشيكة الوقوع، فيقول: (وقد أصبح المسلمون يحسون بأنهم الآن مواجهون بعمل كبير، وخطير وأنه قد يكون مصحوبا بعمليات تدريب، عسكرية مسيحية وضحت حقائقها من مواكب للصليب التي كانت تجوب الطرقات في تحد ظاهر لمشاعر المسلمين).. وهكذا فإن مواقف الأخوان المسلمين السياسية، ظلت دائما من أسباب تصعيد مشكلة الجنوب، وهي إلى اليوم لا تزال كذلك..
موقف الأخوان المسلمين الفكري:
الأخوان المسلمون يزعمون أنهم دعاة لتطبيق الشريعة الاسلامية.. وهم، على كل حال، لا يدعون إلى تطوير التشريع الاسلامي، بالصورة التي ندعولها نحن، في الانتقال من نصوص الشريعة الفرعية إلى نصوص السنة الأصلية.. بل إنهم ليعارضون رأينا هذا، أشد المعارضة.. وعلى ذلك، فإن موقفهم الفكري، والديني الحقيقي، من مشكلة الجنوب، هو موقف الشريعة من غير المسلمين.. فالأغلبية الساحقة من الجنوبيين وثنيون ومسيحيون كما بينا.. وموقف الشريعة من غير المسلمين، موقف واضح، ومحدد.. وقد قام عليه التطبيق العملي في القرن السابع.. وقد كانت الشريعة، في وقتها، حكيمة، كل الحكمة، لأنها كانت المستوي الذي يناسب طاقة الناس، وحاجتهم، في ذلك الوقت.. ولكن الخطأ، كل الخطأ، في نقل الشريعة إلى غير وقتها، وهذا ما يتورط فيه الأخوان المسلمون، وجميع الدعاة السلفيين، وهم بذلك يشوهون الاسلام ويظهرونه بمظهر القصور.. وليس القصور بقصور الاسلام، وإنما هو قصورهم هم، ويجب أن يوضع عند عتبتهم هم، وأن تبرأ ساحة الاسلام منه.. وموقف الشريعة من حقوق غير المسلمين، أخذا من النصوص المحكمة، ومن التطبيق العملي هو كما يلي: فأما بالنسبة للمشركين فهم بعد أن تعرض عليهم الدعوة الاسلامية لهم أحد خيارين، لا ثالث لهما: فهم إما أن يسلموا فتصبح لهم ما للمسلمين من حقوق، وعليهم ما على المسلمين من واجبات، وإما أن يقاتلوا.. وفي هذا الأمر جاء قوله تعالى: (فاذا انسلخ الأشهر الحرم، فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وخذوهم، واحصروهم، واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، فخلوا سبيلهم، إن الله غفور رحيم!!).. وفي ذلك جاء قول النبي الكريم: (أمرت أن اقاتل الناس حتي يشهدوا أن لا اله الا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، ويصوموا الشهر، ويحجوا البيت، من استطاع اليه سبيلا، فاذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم الا بحقها، وأمرهم إلى الله)..
أما غير المسلمين من الكتابيين، وهم اليهود والنصارى، فيعرفون بالذميين، وهم من أعطاهم المسلمون الأمان على مالهم، ودمهم، وعرضهم، مقابل أن يعطوا الجزية.. ولهؤلاء بعد أن تعرض عليهم الدعوة، إما أن يسلموا، أو أن يعطوا الجزية، أو أن يقاتلوا.. فهي خصلة من ثلاث خصال، وقد وردت في حقهم الآية الكريمة: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، من الذين أوتوا الكتاب، حتي يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون).. وقد جاء عن تفسير هذه الآية عن ابن كثير قوله: (وقوله: "حتي يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" أي إن لم يسلموا.. و"عن يد"، أي عن قهر لهم وغلبة، وهم صاغرون، أي ذليلون حقيرون مهانون، فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين.. الخ) – ابن كثير، الجزء الثالث، صفحة 282،283 – وبمثل هذا التفسير قال الرازي، والقرطبي، وغيرهم من المفسرين.. ومما ورد عن سيدنا عمر رضي الله عنه في هذا الصدد، ما رواه أبوموسي رضي الله عنه فقال: (( قلت لعمر ان لي كاتبا نصرانيا. قال: (مالك؟؟ قاتلك الله!! أما سمعت قول الله تعالي يقول: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصاري أولياء، بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم" ألا اتخذت حنيفا. قال: قلت: يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه.. قال: لا أكرمهم اذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله.)) – ابن قيم الجوزية، أحكام أهل الذمة، الجزء الثاني، صفحة 210 – ولمزيد من التفصيل راجع كتاب (حقوق أهل الذمة في الاسلام)، لأبي الأعلي المودودي، وهو من الدعاة المعتمدين عند الأخوان المسلمين..
هذا هو موقف الشريعة من غير المسلمين، وهو موقف الأخوان المسلمين الذين يدعون إلى تطبيق هذه الشريعة، فإذا حاولوا أن يظهروا بغير هذا الموقف، فإنهم لن يجدوا له سندا من الدين، طالما أنهم لا يدعون إلى تطوير التشريع، ولذلك فإن ظهورهم بغير هذا الموقف، إنما هو عمل في التكتيك السياسي فقط.. والجنوبيون يعرفون للاخوان المسلمين موقفهم هذا، ولا تجوز عليهم أساليبهم التكتيكية، وهذا هو السر في عدواتهم الشديدة لهم..
ما بعد الانتفاضة :
باستيلاء القوات المسلحة على السلطة في يوم 6/4/1985م، انتهت مايو وبدأت مرحلة جديدة، فتكون المجلس العسكري الانتقالي برئاسة الفريق سوار الدهب، وأكد في بيانه الأول أنه سيعمل على تسليم السلطة للشعب بعد فترة انتقالية مدتها عام وعبر انتخابات حرة.. وفي نفس اليوم وزع ميثاق التجمع الوطني لإنقاذ الوطن، من جانب الأحزاب الطائفية وبعض النقابات، ونص على تنظيم المشاركة السياسية وفق دستور 56 المعدل 1964م.. وبعد مداولات طويلة بين قوى الانتفاضة، استبعد دستور 56 وأعلن بدلا عنه دستور السودان الانتقالي لسنة 1985م، في أغسطس من المجلسين العسكري والوزراء، ولم تلغ قوانين سبتمبر كمطلب أساسي لقوى الانتفاضة، بحجة أن هذه القضية تقع المسئولية فيها على الحكومة المنتخبة..
هذا التغيير الذي أزال نظام مايو، ولم يستجب لأهم مطالب الانتفاضة، لم يحدث جديدا في ناحية مشكلة الجنوب.. فقد استمرت الحرب، ولم تعترف الحركة الشعبية بالمجلس العسكري واعتبرته امتدادا لنظام مايو، وأسمته مايو 2 ، أكثر من ذلك فقد كانت تطالب الجماهير عبر إذاعتها بمواصلة العصيان المدني، لإسقاط المجلس العسكري.. ثم صعدت العمليات العسكرية في الجنوب، وجنوب كردفان والنيل الأزرق إضافة إلى البيانات المعادية المستمرة عبر إذاعتها..
وفي منتصف عام 1985م، شكلت لجنة وزارية للتحضير لمؤتمر الجنوب برئاسة د. أمين مكي مدني وزير الأشغال، فأصدرت اللجنة بيانا أكدت فيه أن خيار الحكومة هو الحل السياسي، والعفو العام لكل من حمل السلاح، ووقف إطلاق النار، كما أكد البيان أن التنوع العرقي والقبلي والديني إنما هو من مميزات الشعب، وكذلك أوضح أن خطة التنمية تهدف إلى القضاء على التهميش الاقتصادي للأطراف وعدالة توزيع الثروة.. كان هذا البيان هو أول مبادرة سياسية رسمية للحوار السلمي، فرحبت به قوى التجمع الوطني ولكن حزب المؤتمر الأفريقي السوداني أكد أنه إذا لم يتم إلغاء قوانين سبتمبر، وإذا لم تتم العودة إلى دستور 56 ، فإن أي حديث عن مؤتمر قومي للسلام يصبح ضربا من الخيال..
وفي يونيو 1985م، بعث رئيس الوزراء الانتقالي برسالة إلى قرنق، فأعلنت الحركة الشعبية أنها ستسلم الرد في رسالة تسلم إلى حامية الناصر.. وبالفعل سلمت الرسالة في سبتمبر بعد أن وفرت القوات المسلحة الأمان اللازم لذلك، ولكن وبعد التسليم لم تستجب قوات الحركة الشعبية لطلب الحامية لها بالانسحاب من المنطقة، وهاجمت المدينة والمطار والسوق حسب بيان القوات المسلحة.. وكرد فعل داخلي، وجهت الجبهة الاسلامية القومية نداء لتسيير موكب شعبي لإدانة الحركة الشعبية، تحت إسم " هيئة أمان السودان " وكان ذلك في يوم 21 سبتمبر، وشاركتها في ذلك الهيئة القومية للنقابات والاتحادات التابعة لها.. ومن جانب آخر أدان التجمع الوطني التصعيد الذي قامت به حركة قرنق خلال وبعد تسليم الرسالة في بيان له، لكنه أصدر بيان آخر وصف فيه موكب أمان السودان بأنه محاولة لعرقلة مسيرة السلام، ودعا إلى رفض الحل العسكري.. لقد ازداد الموقف توترا، بعد موكب الجبهة الاسلامية، فقد أعلنت الشرطة أن عدد القتلى اثنان، وأن المصابين 45 وأن القتلى أصيبوا بطلقات نارية انطلقت من داخل مبنى الجبهة الاسلامية القومية !!
وهكذا لم تنجح الفترة الانتقالية، في إحداث تغيير لحل مشكلة الجنوب، ويرجع ذلك لعدة أسباب أهمها أن المجلس العسكري كان ينظر إلى المشكلة من زاوية أنها تمرد عسكري، وخروج على القانون دون تقدير للدوافع السياسية، ثم إنه لم يلغ قوانين سبتمبر لتصفية آثار مايو بالرغم من مطالبة قوى الانتفاضة بذلك.. يضاف إلى ذلك أن الجبهة الاسلامية القومية كانت تدعو باستمرار، إلى الجهاد تحت شعارات " الدفاع عن العقيدة والوطن " في انسجام تام مع صحيفة القوات المسلحة، أسوأ من ذلك فإنها كانت تدمغ كل يخالفها الرأي بتهمة الخيانة والطابور الخامس، خاصة من يطالبون بالحوار والحل السلمي !! وفي الجانب الآخر كان قرنق، مصرا على تصعيد العمليلت العسكرية على من أسماهم مايو2 ، وتوسيع مناطق العمليات لأنه لا يرى أن هناك اختلافا بين المجلس العسكري ومايو.. ونتيجة لكل ذلك فشلت جهود مجلس الوزراء الانتقالي في إيقاف الحرب الأهلية في البلاد..
أما التجمع الوطني فقد اتجه إلى الاتصال بالحركة الشعبية، وأجرى معها حوار أثمر إعلان كوكادام، وكان ذلك في مارس 1986م.. وقد تضمن الإعلان جملة من النقاط أهمها: انعقاد المؤتمر الدستوري في يونيو 86 ، إلغاء اتفاقية الدفاع المشترك والبروتوكول الليبي، إلغاء قوانين سبتمبر 83 وكافة القوانين المقيدة للحريات واعتماد دستور 56 المعدل64 مع إضافة الحكم الإقليمي، والقضايا الأخرى التي تتفق حولها القوى السياسية.. هذا، وقد لقي هذا الإعلان قبولا واسعا من القوى السياسية ما عدا الجبهة الاسلامية التي كانت ترى أن الحوار يجب أن يكون بين الحكومة العسكرية والمتمردين بعد الاتفاق على وقف إطلاق النار.. أما الحزب الاتحادي الديمقراطي فقد أعلن أنه مع الحوار دون قيد أو شرط على أساس وقف إطلاق النار، وهو يشير بصورة أكثر تحديدا إلى إلغاء الاتفاقية العسكرية مع مصر وإلغاء قوانين سبتمبر فقد اتضح فيما بعد، أن موقفه من القوانين أن تعدل فقط ولا تلغى..
الشاهد في الأمر، أن المجلس العسكري وجميع الأحزاب السياسية الشمالية لم تكن تملك رؤية واضحة حول قوانين سبتمبر، وذلك لأنها تنطلق من الفهم السلفي للإسلام، الذي يميز بين المواطنين على أساس العقيدة والجنس ولا يعطي حقوق المواطنة المتساوية للجميع.. فهم والمسلمون عامة في كل مكان، إنما يدعون إلى تحكيم الشريعة كما طبقت في القرن السابع من غير تطوير إلى أصول الإسلام حيث الحقوق المتساوية والحريات كما تدعو الفكرة الجمهورية.. ولذلك ظلت قوانين سبتمبر هي الصخرة التي تتحطم عليها على الدوام، كل محاولة للحل السلمي، إلى يومنا، هذا فقد ظلت هذه القوانين باقية إن لم تكن بالنص فبالمحتوى، وفي النهاية قادتنا في اتجاه تفتيت وحدة البلاد.. وستلاحظ عزيزي القاريء، كيف عجزت حكومات الديمقراطية الثالثة، عن حل مشكلة الجنوب لنفس هذه الأسباب علاوة على الصراع الطاحن على السلطة دون مراعاة لمصالح البلاد والعباد، وهذا في الحلقة القادمة..