إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
انتهينا في الحلقتين السابقتين، إلى أن للشعب السوداني في جملته، خصائص أساسية مشتركة ترجع إلى طبيعة المجتمع القبلي.. وقلنا إن ما يسمى بقيم الفروسية، وهي القيم الممدوحة والمعتبرة في المجتمعات القبلية، كالنجدة، الكرم، الشجاعة، والتضحية..الخ.. قد شكلت أرض خصبة للتصوف، فأعطاها بعدا روحيا، يوجهها ويضبطها.. والشعب السوداني عموما، شعب عاطفي، مسالم ومتسامح يعطي الآخرين اعتبارا مهما كانت معتقداتهم، فهو يركز على إنسانية الإنسان في المقام الأول.. كما أنه شديد التعلق بالاشتراكية كمفهوم إنساني، يرمي إلى توزيع الثروة بين الناس بعدالة، على أساس الحقوق وليس الصدقات، وخير شاهد على ذلك، التكافل الاجتماعي المعروف في حالات المرض، والزواج، والتعليم، والمآتم.. فالمزارع ، عندما يمسك بالبذور ليزرعها في الأرض يقول: " بسم الله، للغاشي والماشي، الصرمان والجوعان، الطير والبهيمة " فكأنه مستعد بطبيعته لإعطاء الآخرين حقوق من ماله الخاص.. وفي تقديري، إن هذه القيم الأصيلة عند السودانيين، إنما ترجع إلى العنصر الأفريقي أكثر من العرب، والدليل على ذلك أنها غير متوفرة عند العرب اليوم، بالمستوى الذي نراه في الواقع السوداني.. وعلى التحقيق فإن هذه القيم هو السبب في السمعة الطيبة التي وجدها السودانيون الذين يعملون في البلاد العربية.. وعلى كل حال نحن "عرب ممزوجة بدم الزنوج الحارة .. ديل أهلي، ديلا قبيلتي لمن أدور أفصل للبدور فصلي " كما عبر الشاعر اسماعيل حسن..
لقد وفدت على السودان دعوات دينية، متطرفة ودخيلة ، اتجهت إلى غرس أفكار خاطئة عن الإسلام، لتخترق هذه القيم الأصيلة وتستبدلها بأخرى يظن أصحاب تلك الدعوات أنها إسلامية، فاتهمت المرأة السودانية بالتبرج والمفارقة للدين، وهي ترتدي الثوب السوداني الذي يمثل قمة الزي المحتشم، الذي يعطي المرأة كرامتها، وإنسانيتها، وشخصيتها.. وقد دفعت تلك الدعوات عضويتها من الشباب إلى انتهاج العنف كبديل للتسامح، في التعامل مع الذين يخالفونهم الرأي، وكذلك دفعتهم إلى تبني مفاهيم تميز بين المواطنين على أساس الدين والنوع.. وعلى رأس تلك الدعوات الوافدة، حركة الأخوان المسلمين التي أسسها السيد حسن البنا بمصر، وقد تسللت إلى السودان، عبر الطلاب السودانيين الذين كانوا يدرسون بمصر، ثم توغلت مع الزمن وسط الشعب، والجيش مستغلة العاطفة الدينية، ترغيبا وترهيبا، إلى أن تسلمت السلطة عام 1989م بالانقلاب العسكري.. ولغياب التربية، وقد اعترف زعمائهم مؤخرا بذلك، انهمكوا في استباحة المال العام لمصلحة تنظيمهم، وتوظيف إمكانات الدولة لإثراء عضويتهم، حتى إن أحد قياداتهم قال عقب الإنقسام الشهير، الذي أحدثه الصراع على السلطة: " عندما كنا سويا في السلطة لا فرق بين أموال الدولة وأموال الحركة الإسلامية !!" وقد رد السيد رئيس الجمهورية على الجماهير، عندما طالبته بمحاسبة الذين نهبوا أموال طريق الإنقاذ الغربي قال: " خليناهم لي الله " وهي عبارة خيبت الآمال في حينها ولا زالت.. وبعد الإنقسام، أخذ الطرفان يتقاذفان الشتائم، والسخرية وقد قال أحدهم: "الكنا قايلنو موسى لقيناهو فرعون!! ".. وهكذا انطمست السمات السودانية عند الأخوان المسلمين، وبعدت المسافة بينهم وبين القيم الأصيلة التي أشرنا إليها.. ولذلك ترى أحدهم يتعامل مع الشعب، باستعلاء زائف، وهو يركب العربات الفارهة، ويتطاول في البنيان، ولأنه منقسم على نفسه أمام أهله، فتراه يبتسم في غير مدعاه للابتسامة، ويحرك حواجبه، أعلى وأسفل، كإشارة للوعيد، والإنذار لمن يخالفونه الرأي، ولمن يتهمونه بالفساد.. ولعل الأستاذ الطيب صالح كان يشير إلى ذلك الشرخ في أصائل الطبائع السودانية عندما كتب عنهم مقالته الشهيرة: من هؤلاء؟ من أين أتى هؤلاء ؟ وهو يقيم الإنقاذ عندما قامت.. لقد كان الأستاذ محمود يردد كثيرا: " قد تلقى إنسان صلاي وصوام، لكن إذا كان داير تعرف عنده دين أم لا شوفو في المال بيعمل كيف !! " فهؤلاء القوم لا هم لهم غير السلطة والمال، ولذلك فهم أبعد ما يكونون عن روح الدين، وقد شبه الأستاذ محمود حجم الخراب الذي أحدثته دعوة الأخوان المسلمين في النفوس بالإناء الذي ولغ فيه الكلب، وقال: لا يتطهر إلا إذا غسل سبع غسلات أولاهن بالتراب.. ونتيجة لسياسة التحرير، تراكم المال عند الفئة الداعمة للسلطة، فانقسم المجتمع السوداني إلى طبقتين، وتحت ضغوط الفقر والحاجة حدثت هجرة مكثفة، إلى جميع أنحاء العالم من أجل لقمة العيش.. وبسبب اتساع دائرة الفقر في الداخل، زهد معظم هؤلاء المهاجرين ليس في العودة وحسب، وإنما حتى مجرد قضاء الإجازة، تفاديا للحرج الذي يؤرق مضاجعهم عندما يعجزون عن تلبية حاجات المحتاجين من أسرهم الممتدة.. وفي النهاية أشعلت قيادات هذه الجماعة المتحاربة الفتن في أطراف البلاد المختلفة، وأدت إلى الحروب حتى وجدنا أنفسنا أمام السؤال الكبير: " هل يكون السودان أم لا يكون!! ".. إن الإصلاح في السودان مرهون باقتلاع هذه الدعوة الدخيلة من جذورها، في النفوس، وإبعادها عن السودان، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بالفكر الإسلامي المستنير، الواعي بحاجة العصر، وبضرورة تطوير التشريع الإسلامي من فروع القرآن إلى أصوله على منهج الرسالة الثانية من الإسلام، وسنفصل في هذا الجانب فيما يلي من حلقات..
قد يقول قائل: إن الشعب السواداني قد انتخب الأخوان المسلمين، مؤخرا، وهذا يدل على قبول الشعب لدعوتهم.. والرد على مثل هذا الإدعاء ببساطة، علاوة على أن الأخوان المسلمين غير معنيين في برنامجهم بقبول الشعب أو عدمه، هو أن الشعب من كثرة الإذلال، والمعاناة في المعيشة، والصحة، والتعليم وإقصاء أبنائهم من فرص العمل، ظن بعض الناس أن الانضمام إلى المؤتمر الوطني، سيجلب لهم الوظائف لبناتهم وأبنائهم، الذين يتعرضون للإقصاء وسيخفف عنهم الضغوط.. فكأن عبارة الأستاذ محمود أمام المحكمة، قد انطبقت تماما عليهم وهي قوله عن قوانين سبتمبر 1983م: "أنها وضعت واستغلت لإرهاب الشعب وسوقه للاستكانة عن طريق إذلاله،ثم إنها هددت وحدة البلاد ".. فهذا ليس بتأييد وإنما هو استكانة سببها المعاناة التي طالت.. هذا، وأحب أن أشير إلى حادثة حدثت في مركز الأستاذ محمود وهي أن مواطنا طلب فرصة للحديث في احدى الندوات قال: إنه مؤتمر وطني وفي نفس الوقت مؤيد للفكر الجمهوري ثم اتجه ليلوم الجمهوريين في عدم الانضمام إلى المؤتمر الوطني!!
إن تجربة الحرب الطويلة في الجنوب بين الحكومة والحركة الشعبية، قادت الطرفين إلى طاولة المفاوضات، وانتهى بنا الحوار إلى اتفاقية السلام الجارية اليوم، وقد تبقى من الاتفاقية الاستفتاء المفترض أن يجرى في يناير القادم حول خياري الوحدة أو الانفصال.. وجميل أن تتبنى الحكومة في الشمال، الوحدة لتجنب البلاد التفتت.. والواجب على الجنوبيين، وبصورة خاصة الحركة الشعبية، أن يعملوا على دعم الوحدة عند الاستفتاء، فليس في التفتت خير لا للشمال ولا للجنوب.. فالناس ينتظرون الحكومة الواسعة ثم هي عادلة، والواجب علينا أن نتكاتف من أجل إبرازها هي لنكون نموذجا للآخرين كما كان يأمل الزعيم الراحل د.جون قرنق.. والخطأ كل الخطأ أن يعتقد بعض الجنوبيين أن الإغراءات الأمريكية والغربية، يمكن أن تحيل الجنوب إلى جنة !! فإن ذلك وهم كبير، فكل الدول تبحث عن مصالحها هي، فيجب علينا ألا نرهن إرادتنا لأي جهة، وأن نعي جيدا أن العلاقات بين الدول تقوم على المصالح المشتركة، وتطور أي بلد مرهون باستقلال القرار فيها.. إن جذور مشكلة الجنوب، ترجع إلى الغرب الذي يتمنى الانفصال، ويعمل له فقد بذر الاستعمار الانجليزي بذور الفتنة بين الشمال والجنوب، وفيما يلي نطالع ما جاء في كتاب "جنوب السودان.. المشكلة والحل" حول تجارة الرقيق والتبشير المسيحي: تجارة الرقيق:
يهمنا أن نقف هنا وقفة قصيرة مع تجارة الرقيق في جنوب السودان، والتي نشطت في هذه الفترة، وذلك لعلاقتها الوثيقة بموضوعنا ـ مشكلة الجنوب.. فقد استغل الاستعمار الإنجليزي هذه التجارة لإيغار صدور الجنوبيين ضد الشماليين، ولتنمية العداوة بينهما.. وتجارة الرقيق قد عرفت في التاريخ القديم في معظم أنحاء العالم، وهي قد تمت مؤخراً، في أبشع صورها، على يد الأوربيين، فيما سميّ بتجارة الرقيق عبر الأطلنطي، تلك التجارة التي أدت إلى تحويل الملايين من أفريقيا السوداء، وفي أسوأ الظروف، إلى الأراضي الجديدة .. وقد كانت تجار الرقيق في جنوب السودان، عملاً محلياً، يقوم على الحروب القبلية.. وكان عدد من الزعماء الجنوبيين من أشهر العاملين في تجارة الرقيق، ومن أشهر هؤلاء موبوي (Moboi) ، زعيم الزاندي، الذي كان يملك الآلاف من الأرقاء الذين حصل عليهم عن طريق الحرب مع القبائل الأخرى.. وقد كانت تجارة الرقيق في جنوب السودان قبل الفتح التركي المصري، تجارة محدودة، إلا أنها توسعت بعد الفتح، فهي في البداية كانت من أغراض الفتح.. وقد بدأ التوسع في هذه التجارة بعد رحلات إكتشاف منابع النيل، خصوصاً بعد أن عمل بها التجار من الأوربيين، الذين استخدموا الأسلحة النارية وكان لهم وكلاء من العرب ومن السودانيين الشماليين، وفيما بعد استقل هؤلاء الوكلاء، وأصبحت لهم تجارتهم الخاصة بهم.. وبعد انتشار الوعي نشطت حركة محاربة تجارة الرقيق في أوربا، وأصبحت الدول الأوربية، خصوصاً بريطانيا، تسعى مع الحكم التركي المصري في السودان لإيقاف تجارة الرقيق، ولذلك أصبحت محاربة تجارة الرقيق فيما بعد من أهداف الحكم التركي التي عمل على تحقيقها في السودان، خصوصاً على عهد الخديوي إسماعيل، وبالذات في عهد حكمدارية غردون.. وقد صور الاستعمار الإنجليزي للجنوبيين، تجارة الرقيق كعمل قام به الشماليون العرب ضدهم، وذلك بغرض خلق العداوة بين الشمال والجنوب.. كما أن المبشرين المسيحيين في الجنوب حرصوا، أثناء تعليمهم للجنوبيين، على ربط تجارة الرقيق بالمسلمين العرب، كما حرصوا على ألاّ تغيب ذكرى هذه التجارة، وصورها البشعة، عن أذهان الجنوبيين، وذلك ضمن مخططهم لمحاربة العرب والإسلام في الجنوب، وبغرض جعل الجنوب خالياً تماماً من أي منافسة تحد من التبشير، ومن انتشار المسيحية فيه..
التبشير المسيحي:
في العهد التركي المصري بدأ الإهتمام الأوربي بالسودان وشئونه، كما بدأ التبشيرالمسيحي في جنوب السودان، وقد كان المبشرون يعتبرون جنوب السودان منطقة كبيرة الأهمية بالنسبة لهم، وذلك لموقعه الإستراتيجي الهام بالنسبة لبقية أفريقيا السوداء، فهم من خلاله يستطيعون نشر المسيحية في العديد من مناطق أفريقيا، ويستطيعون أن ينافسوا الإسلام بها، ويوقفوا تغلغله.. ومما يدل على مدى اهتمام الأوربيين بنشر المسيحية في الجنوب، كتابة غردون باشا في 1871م للجمعيات التبشيرية البريطانية، يدعوها للعمل التبشيري في المديرية الاستوائية، التي كان يعمل بها آنذاك.. وعندما تم الاحتلال الإنجليزي لمصر في عام 1882م، فتح جنوب السودان للتدخل المباشر فيه بصورة أكبر، ولكن حدّ من هذا التدخل قيام الثورة المهدية التي انتصرت على الأتراك واستولت على الخرطوم في يناير 1885م.. وقد ساندت بعض القبائل الجنوبية، خصوصاً في بحر الغزال، الثورة المهدية، وثارت ضد الحكم التركي، ولكن المهدية لم تستطع السيطرة على الجنوب، وإقامة إدارة مستقرة فيه.. وفي عهد المهدية عادت الحروب والصراعات القبلية في الجنوب من جديد.. ثم أصبح الجنوب مسرحاً لصراع الدول الإستعمارية الأوربية، خصوصاً بلجيكا، وفرنسا، بريطانيا، إلى أن تم الفتح الإنجليزي المصري للسودان في عام 1898م، وكان هذا الفتح البداية الحقيقية لمشكلة الجنوب، بما اتخذه من سياسة هدفت إلى فصل الجنوب عن الشمال، وإلى تعميق أسباب الخلاف والعداوة بين الإقليمين، وقد ظهرت ثمار هذه السياسة الإستعمارية بعد الإستقلال، وأدت إلى حرب أهلية في الجنوب استمرت لسبعة عشر عاماً..) انتهى..
الآن انتهينا من فترة الحكم التركي وما قبلها.. الوضع في الجنوب، وتفاصيل محاولة الإنجليز الفاشلة لفصل الجنوب إبان فترة الحكم الثنائي هو موضوع الحلقة القادمة..