إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

التحدي الذي يواجه السودانيين (١)

د. محمد محمد الأمين عبد الرازق


التحدي الذي يواجه السودانيين (1)


محمد محمد الأمين عبد الرازق


الإنسان حيوان مفكر، وهو في مسيرة حياته المتطورة، متجاذب بين الحيوان من أسفل والإنسان من أعلى.. فهو يستخدم قواه العضلية في حل مشاكله، كما تفعل الحيوانات، وقد يمارس العنف بدرجة أبشع ببعيد مما يفعل الحيوان الأعجم.. فإذا فشل في تحقيق مبتغاه، وثبت بالتجربة عدم جدوى العنف في إنهاء المشكلة، اتجه إلى الحوار الفكري بدل العنف، فتبرز فيه صفات الإنسان بعد أن كانت مغطاة بشراسة الحيوان.. وعلى هذا الأساس يمكن أن نقول إن الإنسان متطور عبر الصراع الاجتماعي، من الحيوان إلى الإنسان، أو من مرحلة الحيوانية نحو مرحلة الإنسانية.. والبشر المعاصرين لا يمكن إدراجهم في مرحلة الإنسانية، فهم، بصورة عامة، لا يزالون في مرحلة الحيوانية، فالحيوان كلمة لا تعني الحيوان الأعجم وحده، وإنما تعني أيضا البشر الذي يمارس العنف في حياته بأي صورة من الصور.. والقرآن يسمي هؤلاء "بني آدم" قال تعالى: "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " قال " كثير ممن خلقنا " وليس جميع من خلقنا، والاستثناء هنا يشير إلى الإنسان، فبني آدم أو البشر، غير مفضلين عليه، وإنما هم مشاريع نحوه.. والقرآن مليء بالدعوة إلى التفكر، بل يكاد يكون كله موظف للتفكر، ولكن الفكر قابل للالتواء مع الحيوان، ولذلك فإن الفكر المطلوب هو الذي يدفع الإنسان نحو إنسانيته.. ومن أجل توضيح هذه النقطة الجوهرية، قال تعالى عن المشركين: "وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير" فهم كانوا يوظفون عقولهم لخدمة دوافع الحيوان فيهم بالاحتيال لتنفيذها، ومن ثم الاضرار بالآخرين.. ولذلك فهم لا يفكرون التفكير المطلوب دينا، وعلى هذا المعنى ففكرهم ليس بفكر، وعقلهم ليس بعقل.. والعقل الملتوي مع الحيوان هو عقل معاش متعلق بالدنيا، أما العقل المتجه نحو إنسانية الإنسان فهو عقل معاد، متعلق بالآخرى وهي الحياة الإنسانية.. والمنتظر للبشر الذين يعمرون هذا الكوكب، أن يتطوروا عبر الصراع الاجتماعي بالفكر والتجربة، لتخرج عقول المعاد من عقول معاشهم، ليبرز الإنسان وتبدأ مرحلة الإنسانية التي جاء طلائعها في التاريخ، من الأنبياء الموحدين.. ومن أجل توضيح وتوكيد هذه المعاني التي جعلناها استهلالا لبحثنا هذا، أهدى الأستاذ محمود محمد طه جميع كتبه الأساسية إما إلى الإنسان أو إلى الإنسانية.. فمثلا جاء إهداء كتاب الرسالة الثانية من الإسلام، وهو الكتاب الأم، هكذا: ( إلى الإنسانية !! بشرى.. وتحية.. بشرى بأن الله ادّخر لها من كمال حياة الفكر، وحياة الشعور، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر..
وتحية للرجل وهو يمتخض، اليوم، في أحشائها، وقد اشتد بها الطلق، وتنفس صبح الميلاد..)..
أما اهداء كتاب القرآن ومصطفى محمود والفهم العصري، فجاء هكذا: ( إلى الذي ظلت البشرية.. تنتظره وتترقب ظهوره.. إلى الإنسان !! ثم إلى الرجال والنسوان.. هل تحلمون به ؟؟ إنه فيكم !! يظهره القرآن..)..
على ضوء هذه المقدمة، يتضح التحدي الذي يواجه المجموعات البشرية حيث وجدت : هل ستتمكن تلك المجتمعات، من الاستفادة من التجربة التي مرت على هذا الكوكب، فتتجه نحو تأسيس وإقامة حكومة العدل، على قانون الإنسان أم تظل تتخبط في متاهات قانون الغابة ؟؟
وهذا التحدي الماثل أمام البشرية، إنما يواجهنا نحن السودانيين، بصورة حاسمة، في مرحلتنا الحاضرة، فقد وجدنا أنفسنا أمام سؤال واضح المعالم: هل يكون السودان أم لا يكون ؟؟
في إطار تسليط الضوء على مشاكل السودان، ومحاولة البحث عن الحلول أخرج الأخوان الجمهوريون كتاب : جنوب السودان.. المشكلة والحل عام 1982م.. وفي البداية نقدم كيف ناقش ذلك الكتاب جذور المشكلة ثم نقتطف فيما يقبل من حلقات، المعالجات التي قدمها في كل جانب من الجوانب المتعلقة بالمشكلة.. جاء في الكتاب (جنوب السودان.. المشكلة والحل) ما يلي:

الإهـــداء:


الشعب السوداني الكريم !!
إن قطرك الذي تسكنه، وهوالسودان، إنما
يمثل القلب في أفريقيا !! في العالم ؟؟
هومن حيث الشكل الجغرافي الذي يظهر به
على الخريطة يشبه القلب !!
وهومن حيث الموقع الذي يحتله من القارة
يشبه القلب أيضاً !!
هذا القطر، بشمالييه، وجنوبييه، يمثل الرجل الواحد !!
هويمثل الروح، والنفس، في البدن الواحد !!
وطريق الروح، والنفس، في البدن الواحد، هو الوحدة،
والإنسجام، والتواؤم، وما هو بطريق التفرقة، ولا النشوز،
ولا الإعراض !!
فعلى المثقفين، من أبناء الشمال، ومن أبناء الجنوب،
واجب عظيم هو توحيد شقي البدن الواحد بالفكر الثاقب
والعلم الصحيح، والخلق القوي، الرصين، حتى تخرج من توحيد السودانيين: شماليين، وجنوبيين، قومية واحدة، خصبة، ذات خصائص متنوعة، ونكهة متميزة، يشحذ فكرها، ويخصب عاطفتها، الملكات المختلفة، المشرجة في تكوين الشماليين، والمشرجة في تكوين الجنوبيين،
كلٍ على حدة، وعلى السوية !!
ليس لهذا الشعب غير الوحدة !!
وليس لهذا القطر غير الوحدة !!
كان على ربك حتماً مقضيا !!

بسم الله الرحمن الرحيم
(يأيها الناس !! إنا خلقناكم من ذكرٍ، وأنثى، وجعلناكم شعوباً، وقبائل، لتعارفوا، إن أكرمكم، عند، الله، أتقاكم.. إن الله عليم خبير.. )
صدق الله العظيم

المقدمة:


هذا كتاب نصدره عن مشكلة الجنوب.. ومشكلة الجنوب هي أكبر مشكلة واجهت السودان منذ استقلاله، وهي قد ظلت التحدي الأساسي الذي يواجه جميع حكومات العهد الوطني.. وهي مشكلة لها جذورها في التاريخ ولكن الاستعمار الإنجليزي قد عمقها، لترثها أنظمة الحكم الوطني من بعده.. وقد استغل الإنجليز في صنعهم لمشكلة الجنوب، الاختلافات العنصرية والدينية، والثقافية، القائمة بين شمال السودان وجنوبه، وهم قد عمقوا هذه الاختلافات، وجعلوا منها سبباً للعداوة والصراع بالصورة التي أدت إلى تفجير المشكلة حتى إنها أدت إلى حرب أهلية طويلة.. ونحن لا نلوم الاستعمار الإنجليزي وحده في قيام ، وتصاعد هذه المشكلة، فالأحزاب السياسية، وأنظمة الحكم الوطنية، هي أيضاً بعد خروج الاستعمار، أحزاباً طائفية، لا تملك مذهبية ترشد عملها السياسي، ولم تكن تلك الأحزاب على قدر من الوعي ومن المسئولية يعينها على تفهم أبعاد مشكلة الجنوب، والعمل على حلها، وقد فشلت تلك الأحزاب والحكومات التي قامت على أساسها، في حل مشاكل البلاد السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وجمدت وعي الشعب.. ولذلك فإن هذه الأحزاب، وهذه الحكومات، وقد فشلت في حل مشكلة الشمال، ما كان لها أن تستطيع حل مشكلة الجنوب.. فتفاقمت المشكلة، وزادت حدة، خصوصاً على عهد الحكم العسكري الذي قام في البلاد في نوفمبر 1958م.. وأخيراً وجدت مشكلة الجنوب حلها السياسي في اتفاقية أديس أبابا 1972 م على عهد ثورة مايو، وتم بذلك إنجاز كبير أوقف الحرب الأهلية، وأوقف نزيف الدم في الجنوب، ولا تزال أسباب العداوة والصراع، موجودة داخل النفوس، ولا يزال عدم الثقة الذي خلفته التجربة الطويلة والمريرة هو الغالب.. فليس من طبائع الأشياء أن تتغير النفوس لمجرد الوصول إلى حلول سياسية وقانونية !!
ولذلك هنالك الكثير من العمل الجاد الذي ينتظر كلا الشماليين والجنوبيين ليقوموا به، حتى يتأمن الحل السياسي، وتوفر الثقة المفقودة، ويتم بناء القومية السودانية على أسس ثابتة تقوم على وعي وتربية المواطنين بالصورة التي لا تجعلهم يرون في الاختلاف، مدعاة للصراع والخلاف.. أما دون هذا المستوى فإن النكسات ليست بمستبعدة.. بل إن المشكلة قد بدأت بالفعل تطل برأسها من جديد، خصوصاً بعد إثارة موضوع تقسيم الجنوب، الذي أصبح عليه اختلاف بين الجنوبيين،وهو موضوع لا يزال ينتظر الحل..
إن مشكلة الجنوب، في حقيقتها، إنما هي مشكلة حضارية.. وهي في ذلك نموذج للمشاكل الموجودة في عديد المناطق، في عالمنا اليوم.. فقد ظلت الاختلافات في العقيدة، أوالعنصر، أواللون،أوالجنس، أوالثقافة، تشكل الأسباب الأساسية للصراع بين البشر عبر تاريخ البشر.. وإنما كان ذلك كذلك بسبب القصور، وقلة الوعي، والبعد عن القيم الإنسانية.. وعندما تأتي مرحلة الرشد، والمسئولية تتوكد القيم الإنسانية، ويلتقي الناس فيما يجمع بينهم، وليس فيما يفرقهم ـ يلتقون في العقل،والقلب، أوقل في الفكر والخلق، يصبح كل فرد بشري هو غاية في ذاته، وتوظف كل الوسائل لتحقيق إنسانية الإنسان، وتزول كل أسباب الخلاف، والصراع، القديمة.. وعند هذه المرحلة ستكون الاختلافات الطبيعية بين البشر، هي من أهم أسباب إثراء الحياة، وإخصابها، وذلك باستثمار، وتوظيف، الملكات، والخصائص،والمواهب، المختلفة لخدمة أغراض الحياة الإنسانية الراقية التي لا تقر الاختلاف بين البشر فحسب، بل وتعين كل فرد بشري على تحقيق فرديته التي ينماز بها عن الآخرين، ثم لا يكون هناك تمييز ضد أحد، إنما جميع الناس سواسية أمام القانون، وفي الحقوق والواجبات، وفي نظرة المجتمع، تلك النظرة التي تقوم على الرأي العام السمح الذي لا يضيق بالاختلاف والتمايز..
هذا المستوى الحضاري هو ما ندعوإليه نحن، ونعمل على تحقيقه، وهو ما نعتقد أن مشكلة الجنوب، وجميع مشاكل الحياة المعاصرة ستجد حلها النهائي فيه..
ونحن في هذا الكتاب سنؤرخ بصورة موجزة لمشكلة الجنوب فنوضح أصولها، وملابساتها، ومراحل تطورها، حتى وقتنا الحاضر.. ثم نوضع موقفنا نحن من هذه المشكلة، من الناحية السياسية، التاريخية، ومن الناحية الفكرية.. فالمشكلة كانت أكبر تحد واجه التنظيمات، والأحزاب السياسية، التي تصدت للعمل العام في بلادنا، وهي لا تزال كذلك، بصورة خاصة لأصحاب المذهبيات، ولذلك سنوضح موقفنا نحن كدعاة إسلاميين منها.. ولإتاحة الفرصة للمقارنة، سنتحدث عن موقف الدعاة الإسلاميين السلفيين، من المشكلة، وذلك من خلال إبراز موقف تنظيم الأخوان المسلمين، كتنظيم يمثل الفكر الإسلامي السلفي..