إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الأستاذ محمود محمد طه والمثقفون (٦)

عبدالله الفكي البشير


الأستاذ محمود محمد طه والمثقفون (6)


رُفَقاء الأستاذ محمود وتلاميذه



عبدالله الفكي البشير

في عام 1968م أهدى الأستاذ محمود محمد طه (1909م-1985م) كتابه: زعيم جبهة الميثاق الإسلامي في ميزان: 1. الثقافة الغربية 2. الإسلام، إلى الشعب السوداني، قائلاً: (إلى الشعب السوداني: الذي لا تنقصه الأصالة، وإنما تنقصه المعلومات الوافية.. وقد تضافرت شتى العوامل لتحجبه عنها).


تلاميذ الأستاذ محمود


تلاميذ الأستاذ محمود هم حواريوه. جاءوا إليه بعد عام 1951م. لازموه وناصروه وآزروه. كانوا ينادونه بالأستاذ، وكان يناديهم بأبنائي وبناتي. اختاروا لأنفسهم اسم الأخوان الجمهوريين، والأخوات الجمهوريات. تكوَّن الاسم من مفردتين: الأخوان، والجمهوريين، فالأخوان مفردة تجد تأصيلها الإسلامي وجذرها الفكري في دعوة الأستاذ محمود. أما مفردة الجمهوريين، فترجع إلى اسم الحزب الجمهوري الذي أنشأه الأستاذ محمود مع ثلة من رفاقه عام 1945م. ومنذ منتصف الخمسينات عُرف تلاميذ الأستاذ محمود بين الناس بالأخوان الجمهوريين، والأخوات الجمهوريات. انداح تلاميذ الأستاذ محمود في الفضاء السوداني، وقادوا سجالاً عظيماً في السوح الفكرية والسياسية. عانوا عناءً شديداً، من جراء ذلك السجال، لكنهم ظلوا ثابتين على مبادئ أستاذهم، ومتصالحين مع ذلك السجال، لأنهم كانوا يدركون أبعاد المشاكل وجذورها في قصة حياة الإنسان. أنسنوا الحياة، وتركوا آثاراً ضخمة، ومعاني ناصعة، تروى وتحكى، بشهادة معاصريهم وأندادهم. قدموا نماذج مشرقة في اخلاقها وسلوكها، وجمال سيرتها. كتب الأستاذ شوقي بدري في عام 2004م، واصفاً الجمهوريين بقوله: (الحقيقه ما شفنا ولا سمعنا بجمهورى ما جميل تقول بنجروهم من الصندل). (شوقي بدري، ضمن "جمهوري جميل ..افتحوا له الابواب كيفما يشاء ..ورحبوا به.."، موقع سودانيزاون لاين Sudaneseonline، المنبر العام، استرجاع (Retrieved) يوم 27 ديسمبر 2004م، الموقع على الإنترنت: http://www.sudaneseonline.com)

كان الحزب الجمهورى قد توقف نشاطه، منذ سجن الأستاذ محمود عام 1946م، واعتكافه عام 1948م. خرج الأستاذ محمود عام 1951م، بعد اعتكافٍ دام ثلاث سنوات، ودعا أعضاء الحزب الجمهورى إلى اجتماع عام عقد فى يوم 30 اكتوبر 1951م، وألقى عليهم بياناً. كان البيان إيذاناً بأمرين: الأول: أن عهداً جديداً في مسار الحزب الجمهوري قد بدأ. والثاني: أن مشروعاً كبيراً وخطيراً قد انبثق. قال الأستاذ محمود لأعضاء الحزب في بيانه: (الحزب الجمهوري ليس حزباً يقوم على التهريج، كما هي العادة المألوفة لدى الأحزاب التي نراها، ونسمع عنها، وإنما هو دعوة إلى فكرة، أولاً، وقبل كل شيء...). ثم تحدث عن الديمقراطية الشعبية، وقدم تعريفاً لها، وقال إنها: (تتلخص في نظام يكفل العدالة الاجتماعية، والحرية الفردية، في ميزان لا يجور -نظام يعمل الشعب فيه بنفسه لنفسه، على هدى المعرفة - في هذا النظام المنشود تكون الحكومة خادمة الشعب، لا سيدته.. في هذا النظام تفهم الحكومة نفسها، ويفهمها كل فرد، كما فهمها أبو العلاء المعري حين يقول:

ملّ المقام فكم أعاشـر أمــة أمرت بغير صلاحها أمراؤها
ظلموا الرعية واستباحوا كيدها وعدوا مصالحها وهم أجراؤها

(فالحاكم أجير لي، ولك وهو، أصلح ما يكون، خادم لي، ولك، وليس سيداً، متسلطاً على الرقاب...) وبيَّن أن الديمقراطية الشعبية لم تتحقق حتى اليوم، ولا نجاة للإنسانية إلا بتحقيقها وقال: (...وأن أياً من الديمقراطيتين -الرأسمالية والشيوعية- لا يمكن أن تحققها، البتة.. وأنه لابد، لتحقيق الديمقراطية الشعبية، من الإسلام، لأنه الفلسفة الاجتماعية الوحيدة، في هذا العالم، التي حاولت، وأفلحت، في الجمع بين الروح والمادة، على هدى، وبصيرة، والجمع المستبصر، بين الروح والمادة، هو وحده الذي يمكن أن يحقق الحرية الفردية، والعدالة الاجتماعية، في نظام متكافل للجميع...)..
أعلن الأستاذ محمود في ذلك الاجتماع عن المسار الجديد، وهو الدعوة إلى المذهبية الإسلامية الجديدة، التي تقوم على الحرية الفردية المطلقة، والعدالة الاجتماعية الشاملة، ليتجه الحزب الجمهورى من ملء فراغ الحماس في مواجهة المستعمر، الى ملء فراغ الفكر. وكان ذلك إيذاناً بطرح مشروع كبير وخطير.

طرح المشروع والاستعداد للنتائج


أوضح الأدلة على أن مشروعاً كبيراً وخطيراً قد انبثق، هو ما أبداه الأستاذ محمود من استعداد لتحمل النتائج المتوقعة منذ طرحه لمشروعه. ولعل أنصع برهان على هذا الاستعداد، هو كتابته لوصيته قبل خروجه من الاعتكاف. كتب الأستاذ محمود وصيته في يوم السبت 13 شعبان 1370هـ موافق 19 مايو 1951م. وضمنها ثمانية عناصر مرقمة من 1 إلى 8. استهل الأٍستاذ محمود وصيته قائلاً: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذه وصيتي، ووكيلي على تنفيذها زوجتي بعد الله). ثم عدد سبعاً من عناصر الوصية، ثم قال في العنصر الثامن والأخير من وصيته: (لايفرش عليّ ولا يتصدق، ولا أكفن في جديد، ولا يناح عليّ، ولا تجعل على قبري أيّ علامه، ويباشر غسلي زوجتي). تُعبر الوصية عن حالة الاستعداد المبكر لصاحبها وتحسبه للنتائج المتوقعة. لقد كان المشروع جديداً وغريباً -ولا يزال-، يحتاج النظر فيه، دعك من الإقتناع به، إلى نشاط العقول وحيويتها، في وقتٍ ساد فيه -ولا يزال- كسل العقول، والاستكانة للسائد والمألوف، والشعور بالطمأنينة مع القديم. يقول الدكتور طه حسين (1889م-1973م)، في كتابه: في الشعر الجاهلي، دار المعارف للطباعة والنشر، سوسة، تونس، ط2، 1998م، ص 155، 156: (... الكسل العقلي يحبب إلى الناس أن يأخذوا بالقديم تجنباً للبحث عن الجديد...). إن وصية الأستاذ محمود تحمل دلالات كثيرة وعظيمة. تجدر الإشارة إلى أن الأهمية التاريخية لهذه الوصية، وعظمة دلالاتها ومضامينها، دفعتني إلى أن أعكف على دراستها وتحليلها، بعد أن لفت نظري إليها أحد تلاميذ الأستاذ محمود، وهو الدكتور عبدالله عثمان. وقد فرغت من دراستها، والآن أنا بصدد التدقيق والإتقان لمسودة الدراسة، وقد وسمتها بـ: "وصية الأستاذ محمود محمد طه (1909م-1985م): قـراءة وتحليل"، وآمل أن أدفع بها للنشر في إحدى الدوريات قريباً.
طرح الأستاذ محمود مشروعه، وكتب وصيته، وكان يُدرك تماماً، أن المفارقة للسائد، والدعوة إلى الجديد، في ظل الكسل العقلي والضعف المعرفي ثمنها الحرب والموت. كان مستعداً لدفع الثمن، وكان قادراً على هزيمة تجربة الموت. كتب الأستاذ الحاج وراق في عموده مسارب الضي، بصحيفة الحرية، كلمة بعنوان "18 يناير ذكري فداء العريس"، يوم 22/12/2001م، حديثاً سمعه من الأستاذ محمود، قال وراق: (سمعته يقول "سيأتي نموذج الإنسان الذي يهزم تجربة الموت ويمشي إلى الله مشيا"ً..)، وأضاف وراق قائلاً: (كان قوله فعله.... مشى في لجج الموت نازعاً حتي غريزة البقاء، وليس أقوى منها غريزة، مشى هادئاً مطمئناً، بل وباسماً – ابتسامة الرضا برؤية اكتمال المسير خلف غبار الجزئي والمؤقت والعابر والشرير).

بداية مرحلة التتلمذ على الأستاذ محمود


كانت مرحلة التتلمذ على الأستاذ محمود، هي الفرصة التي اتاحت للأجيال الجديدة آنذاك، اللقاء به، والأخذ من معينه المعرفي والفكري. ويمكن التأريخ لهذه المرحلة بكلمة كتبها الأستاذ سعيد الطيب شايب (1931م-2002م) يتساءل فيها عن الأستاذ محمود الذي لمع نجمه عقب ثورة رفاعة ولكنه سرعان ما اختفى بسبب السجن ثم بسبب اعتكافه في رفاعة. رد الأستاذ محمود على كلمة سعيد شايب بمقالٍ جاء في جريدة الشعب، يوم السبت 27/1/1951م، بعنوان: "سعيد يتساءل". قال الأستاذ محمود في مقاله: (حضرة صاحب جريدة الشعب، تحية، وبعد: فقد اطلعت، بعددكم السادس، على كلمة من الأخ سعيد يتساءل فيها عني، وقد أعلم أن كثيراً من الأخوان يتساءلون، كما تساءل، فلزمني لهم حق الشكر، ولزمني لهم حق الإيضاح...). ثم تحدث الأستاذ محمود عن نشأة الحزب الجمهوري، ومعارضته للحكومة، وتناول مدلول كلمة الإسلام، وطبيعة نظرته إلى موضوع الدعوة إلى الإسلام، قائلاً: (فأنت، إذا أردت أن تدعو إلى الإسلام، فإن عليك لأن ترده إلى المعين المصفى الذي منه استقى محمد، وأبوبكر، وعمر .. وإلا فإن الدعوة جعجعة لا طائل تحتها .. ولم تطب نفسي بأن أجعجع...). ثم طرح في مقاله السؤال التالي: فهل حبسني ابتغاء المعرفة؟؟ وأجاب عن السؤال مبيناً أسباب انقطاعه، وحبسه لنفسه فقال: (لا والله!! ولا كرامة .. وإنما حبسني العمل لغاية هي اشرف من المعرفة.. غاية ما المعرفة إلا وسيلة إليها.. تلك الغاية هي نفسي التي فقدتها بين ركام الأوهام، والأباطيل.. فإن عليّ لأن أبحث عنها على هدي القرآن، أريد أن أجدها.. وأريد أن أنشرها.. وأريد أن أكون في سلام معها، قبل أن أدعو غيري إلى الإسلام.. ذلك أمر لا معدى عنه.. فإن فاقد الشيء لا يعطيه.. فهل تريدون أن تعلموا أين أنا من ذلكم الآن؟؟ إذن فاعلموا: أني أشرفت على تلك الغاية، ويوشك أن يستقيم لي أمري على خير ما أحب..).
مثَّل تساؤل سعيد شايب عن الأستاذ محمود، ورد الأستاذ محمود عليه، النواة الأولى لمرحلة التتلمذ على الأستاذ محمود، والبداية الفعلية للتواصل بين الأستاذ محمود والأجيال الجديدة (آنذاك). وعندما طرح الأستاذ محمود عام 1951م ملامح مشروعه، ثم أخذ يُبين ملامحه، ويُفصل فيه، جاء الأستاذ سعيد الطيب شايب ليكون بذلك من أوائل تلاميذ الأستاذ محمود. ثم جاء محمد يوسف عبادي، وخوجلي محمد خوجلي، والأستاذ جلال الدين الهادي الطيب إدريس (1938م، 2002م) والأستاذ عبداللطيف عمر، وعبد الباقي إسماعيل، وقسم الله عبيد فضل. أيضاً، سار مع الأستاذ محمود في المسار الجديد بعض رفقائه من أعضاء الحزب الجمهوري القدامى. وكان من هؤلاء: أمين محمد صديق، ومحمد فضل الصديق (1919م-1982م)، ، وميرغني حمزة، ومهدي أبو بكر، والتوم عبد الجليل، وتاج السر الحوراني، وذو النون جبارة (1918م-1974م)، وعبدالرحمن البوشي (1918م-1978م)، الذي كان معاصراً للأستاذ محمود في قسم الهندسة بكلية غردون، وتخرج فيها عام 1938م، وكان ذلك بعد تخرج الأستاذ محمود بعامين. ومن أوائل الجمهوريات اللائي التحقن بالأستاذ محمود الحاجة كلتوم حسين (؟؟؟-1984م) زوجة محمد فضل الصديق، وبتول مختار محمد طه (ابنة أخيه)، ونوال محمد فضل. ومنذ نهاية الخمسينات من القرن الماضي بدأ اعتناق الطلاب لفكر الأستاذ محمود بطلاب المعهد العلمي بأمدرمان الذين كان منهم إبراهيم يوسف، وأحمد عبد الرحمن العجب، ومحمد خير محيسي، وعبدالرحيم سفيان، والريح أبو إدريس. ومنذ بداية عقد الستينات جاء الطريفي يونس، وعصام عبدالرحمن البوشي، ومجذوب محمد مجذوب، وعارف عبدالرحمن البوشي، وعبدالرحيم الريح، والأستاذ خالد الحاج، وبدر الدين السيمت، وعماد البوشي، ومحمد أمين صديق، وعبدالله النعيم. وبدأ هؤلاء حركة الأخوان الجمهوريون في جامعة الخرطوم. وقبل بداية الحركة بالجامعة كان الطريفي يونس وبتول مختار محمد طه قد أصدرا صحيفة باسم "عطارد"، وكانت أول صحيفة حائطية ناطقة باسم الفكرة الجمهورية. ومع نهاية الستينات جاء عبدالرحيم محمد أحمد (الأبيض)، وأحمد مصطفى دالي، وعبدالرحيم هلاوي (كسلا). ومع بداية السبعينات جاءت رشيدة محمد فضل، وسلمى مجذوب محمد، وفاطمة عباس. وجاء أحمد صديق البشير، وخلف الله عبود، والنور حمد. وفي منتصف السبعينات ونهايتها أخذ التلاميذ يتدفقون على الأستاذ محمود، جاء عمر أحمد القراي، ومتوكل مصطفى الحسين، وحيدر بدوي صادق وعدد كبير من طلاب المعاهد والجامعات. هذه فقط بعض نماذج من أسماء التلاميذ ولكن لاحقاً سأتوسع في هذا الأمر، حينما أعد هذه الحلقات بعد اكتمالها في كتاب.
قام تلاميذ الأستاذ محمود، بجانب مناصرته، ومؤازرته، بدور كبير وعظيم. قادوا مع أستاذهم المواجهة، ومهمة التعريف بمشروعه، تحدثوا مع الناس في الطرقات، واقاموا لاحقاً أركان النقاش في الجامعات والمعاهد، وفي الشوارع والحدائق العامة. واطلعوا بمهام حملات بيع الكتب الجمهورية في أقاليم السودان المختلفة. أيضاً، كان الأستاذ محمود حريصاً على توصيل دعوته إلى المثقفين والفنانيين والساسة والأكاديميين، والشعراء والكتاب. فقاد تلاميذه اللقاءات بهم أفراداً وجماعات، حدثوهم عن مشروع الأستاذ محمود، وقادوا معهم الحوار والمناظرة لاحقاً. استمعت إلى تسجيل للجلسة الختامية لمؤتمر عيد الفطر للأخوان الجمهوريين، الذي نُظم يوم 9 نوفمبر عام 1972م، بمدينة أمبدة، بأم درمان، وفيه قدم بعض تلاميذ الأستاذ محمود تقارير حول نتائج لقاءاتهم بالمثقفين. الأمر الذي يعكس مدى اهتمام الأستاذ محمود بتوصيل دعوته إلى المثقفين.
كان دور تلاميذ الأستاذ محمود في مناصرته، وفي التعريف بمشروعه، دوراً عظيماً، وكبيراً. وسيأتي تفصيل ذلك الدور من خلال الحلقات القادمة. كان دروهم كله يقوم على المواجهة، والدفاع عن ما لحق بالأستاذ محمود ومشروعه من تضليل وتحريف لأطروحاته. ومر دروهم بمراحل مختلفه: في البدء كانوا تلاميذاً، وليسوا دعاة، ثم سمح لهم الأستاذ محمود فيما بعد بأن يدعوا ويبشروا بالمشروع، ولاحقاً، سمح لهم بكتابة الكتب تحت إشرافه المباشر. صدر أول كتاب باسم الأخوان الجمهوريين عام 1973م، وكان عنوانه: أضواء على شريعة الأحوال الشخصية. وصدر أول كتاب مشتركٍ بين الأخوات والأخوان الجمهوريين عام 1974م، وكان عنوانه: الميزان: بين محمود محمد طه والأمانة العامة للشئون الدينية، وكتبه كل من: بتول مختار وإبراهيم مكي، وأسماء محمود محمد طه وعصام البوشي وعوض الكريم موسى. وأصدر الأستاذ سعيد شايب كتاباً، كان عنوانه: قضايا كوستى، تناول فيه اعتداء بعض الناس على محاضرة أقامها الأخوان الجمهوريون في دار رابطة الفنانين بكوستي. ثم توالى صدور الكتب، بعضها في مناسات بعينها، وبعضها على أثر أحداث ومواقف. ومن الكتب التي صدرت بمناسبة وقصة كتاب: "تعلموا كيف تجهزون موتاكم" الذي صدر باسم الأخوان الجمهوريين عام 1978م. تعود قصة الكتاب إلى أن الأخوات الجمهوريات كن قد شاركن في تشييع جثمان المهندس عبدالرحمن البوشي في أبريل عام 1978م، بمدينة ود مدني، وكان ذلك بناءً على اقتراح تقدمت به بنتاه علوية وعطيات إلى الأستاذ محمود. أحدثت مشاركة الأخوات الجمهوريات في التشييع ضجة كبيرة، وجدلاً واسعاً، تُوج بإصدار كتاب، ودخلت به الأخت الجمهورية عهداً جديداً من المواجهة.
كانت حياة وأوقات تلاميذ الأستاذ محمود، كلها مواجهات، وصراعات مع العقل الثقافي ونسق القيم السائدين. إننا بمراجعات أمينة للتطور الفكري والسياسي في السودان بعد تحرير عقولنا وقلوبنا من العداء للأستاذ محمود ولمشروعه وتلاميذه، نجد أن هناك طاقات عقلية ضخمة، وقدرات فكرية جبارة قد ضاعت، وبددت بسبب الصراع العقيم، وتبع ذلك تهميشها، وعزلها عن الحراك السياسي والفكري في السودان. كتب الأستاذ فتحي الضو في صحيفة الأحداث، يوم 18/1/2009م، مقالاً بعنوان: "ويلٌ لأُمة لا تعرف قدر مُفكِّريها!" قال فيه: (ولولا إننا قوم جُبلنا على الجحود ونكران الجميل لأعطينا الجمهوريون حقهم في صدقة جارية، فقد ساهموا في ارساء دعامة كبرى نحتاجها في حياتنا وهي دعامة الحوار، وكلنا يعلم أن غيابها تسبب في الكوارث السياسية والفكرية والاجتماعية التي ابتلينا بها، واستطيع أن أقول إن شوارع العاصمة المثلثة إفتقدت حوارات الجمهوريين عنواناً للتسامح الديني والفكري والسياسي، وأستطيع أن أقول أيضاً وبنفس الروح أن شوارع العاصمة المثلثة تلك، تمدد فيها العنف وسالت فيها الدماء وفتحت جهنم أبوابها منذ أن غاب عنها الجمهوريون أنفسهم!).
استمر اسم الحزب الجمهوري حتى ثورة مايو 1969م، وتوقف بعد ذلك بسبب حل مايو للأحزاب. إلا أن الملاحظة التي لا تخطئها عين الدارس والمتفحص أن الأستاذ محمود منذ طرح مشروعه عام 1951م، ظل يتحمل وبشكل مباشر المسئولية عن كل عمل أو نشاط. كان في السابق وتحت مظلة الحزب الجمهوري يكتب حينما ينشر كتاباً أو بياناً، الحزب الجمهوري يقدم، ولكن منذ طرحه لمشروعه الكبير الخطير، درج على كتابة محمود محمد طه يقدم. تجد ذلك في كل عناوين كتبه، وفي صدر البيانات، والمناشير التي تم توزيعها. كان أيضاً يتقدم تلاميذه حال حدوث أيّ اتهام لهم من قبل الشرطة أو المحاكم، كان يأتي ويطلب تسجيل اسمه باعتباره المتهم الأول، والمسؤول المباشر عن كل أعمال تلاميذه ونشاطاتهم. حدث ذلك في محكمة بورتسودان عام 1975م، وحدث مثله في كل المواقف والأحداث التي واجهها تلاميذه، وهي كثيرة.
نلتقي يوم الخمس القادم في حلقة جديدة، أتناول فيها ثلاثة محاول: الأول: جبهات المواجهة: 3. القومية العربية. سبق وأن تناولت جبهتي الطائفية والاستعمار. والثاني: بداية العداء المُنظم ضد الأستاذ محمود ومشروعه. والثالث: محكمة الردة 1968م: دور القوى الخارجية في التصميم، وما قام به حلفاؤها المحليون في التنفيذ.

استدراك: فاتني في الحلقة السابقة أن أشير إلى أن الصورة التي كانت تضم الأستاذ محمود والشاعر المجذوب، وعصام عبدالرحمن البوشي (البروفسير الآن)، والنور حمد (الأستاذ الجامعي الآن).. ومن معهم، أنها كانت بمناسبة زيارة الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي للأستاذ محمود عام 1972م "تقريباً". وقد التقطت الدكتورة سلمى الصورة، وكانت وقتئذ، أستاذة بكلية الآداب بجامعة الخرطوم. وقد نبهني لذلك كل من: البروفسير عصام البوشي، والدكتور النور حمد، فلهم شكري وتقديري، مع اعتذاري للدكتورة سلمى الجيوسي وللقراء الكرام.

(نقلاً عن صحيفة الأحداث، الخميس 30 سبتمبر 2010م)