إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
لقد درج المسلمون، في زماننا هذا، على صلاة التراويح بعد العشاء، في أيام شهر رمضان المبارك .. وهم بذلك، يظنون انهم يصلون صلاة القيام، ويحرصون عليها، وكأنها فريضة تابعة للصيام، أو كأنها من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكل هذا خطأ، وقد آن له أن يصحح، حتى ينفتح أمام الناس، باب السنة المطهرة الواسع، فيلجوا منه الى حقائق الدين.
لقد درج الفقهاء، على تكرار تعريف السنة بأنها (قول النبي وفعله واقراره) .. وهذا التعريف الذي نتداوله كثيراً، ونعلمه النشء في المدارس، والمعاهد الدينية، يحتاج الى تصحيح .. فقول النبي صلى الله عليه وسلم، وفعله، واقراره، لم يكونوا جميعاً في مستوى واحد، حتى نطلق عليهم أسماً واحداً .. فالسنة هي عمل النبي صلى الله عليه وسلم، أما قوله فهو في سائره شريعة، وليس سنة .. لأنه قد يأمر الناس على قدر طاقتهم، ولا يعمل عملهم، فيختلف قوله عن عمله، ومن ذلك، مثلاً، قوله صلى الله عليه وسلم (كنت قد نهيتكم عن زيارة المقابر ألا فزوروها). فحين كانوا حديثي عهد بالإسلام، وزيارة المقابر تذكرهم مصارع قومهم، وتثير بينهم حمية الثأر، نهاهم عن زيارتها، ولكنه كان في ذلك الوقت، يزور المقابر، لأنها لا تؤثر عليه سلبياً، كما تؤثر عليهم.. وحين دخل الإيمان في قلوبهم، واصبحت رؤية المقابر تذكرهم بالموت، وتعينهم، من ثم، على العمل الصالح، أمرهم بزيارتها .. فقوله صلى الله عليه وسلم شريعة، وليس سنة، إلا ما كان يعبر فيه عن حالته من المعرفة، فهو يلحق بالسنة، ومن ذلك مثلاً، قوله (ليلة عرج بي إنتسخ بصري في بصيرتي فرأيت الله) .. أما إقراره فهو على إطلاقه شريعة، وليس سنة. وذلك لان ما رأي اصحابه يفعلونه، ولم ينههم عنه، إنما هو مستواهم هم، ولا علاقة له بسنته هو عليه الصلاة والسلام، ومن أمثلة الإقرار ما ورد في الحديث الذي روته السيدة عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسترها، وهي تنظر الى الحبشة، وهم يلعبون بالحراب في ساحة المسجد.
أما البدعة، فهي ما جد من قول، أو عمل، على ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، أو أمر به وهي نوعان: بدعة حسنة، وبدعة سيئة .. فالبدعة الحسنة، هي ما جد من امر من أمور الدين، وهو لا يخالف أصله، ولا يهزم غرضه .. والبدعة السيئة، هي ما جد في أمر من أمور الدين، وهو يخالف جوهر الدين أو يهزم غرضه .. ومن أمثلة البدع الحسنة، إتخاذ السبح لذكر الله، وتلاوة الأوراد التي يعطيها مشائخ الطرق الصوفية، لأتباعهم ومريدهم .. ولقد عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم البدع السيئة، حين قال (كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)!! يدل على ذلك، قوله في حديث آخر (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فإنه رد عليه)، أي من احدث فيه ما ليس من روحه وجوهره .
ولقد كانت البدع الحسنة، وهي كثيرة، مقبولة، ومبررة، حين كانت طاقة المجتمع البشري، وحاجته، دون مستوى السنة المطهرة .. أما بشرية اليوم، فإنها مواجهة بتحد كبير، لا ينهض له، ويوفي بمواجهته، إلا مستوى التشريع، الذي يقوم على السنة .. أما في منهاج التربية الفردية، والسلوك التعبدي، فإن قامة العصر، لا تستوعبها قامة، أقل من النبي صلى الله عليه وسلم .. ولهذا اصبح حكم الوقت الحاضر، يستلزم إتباع السنة، بغير زيادة ولا نقصان .. فالسنة مطلوبة من المسلمين اليوم، ولن يقبل منهم غيرها قال تعالى في ذلك (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) ومن هنا فإن البدع، التي كانت حسنة في الماضي، ومقبولة، تصبح اليوم، من المفارقات لنهج النبي صلى الله عليه وسلم .. وذلك لأن الفهم الدقيق يقول إن من زاد على ما فعله النبي، فكأنما إتهمه بالتقصير، وأن هنالك عمل يؤدي الى الله لم يفعله، ومن نقص عن عمله، متعمداً، فكأنما إتهمه بالزيادة في غير موجب، وكلا الأمرين معوق لسلوك السالك الى الله باتباع المعصوم.
وصلاة القيام هي قيام الليل، وهي قد كانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم، التي داوم عليها في سفره وحضره، في مرضه وصحته، إمتثالاً لأمره تعالى (يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً، نصفه أو انقص منه قليلاً، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا، إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلا، إن ناشئة الليل هي أشد وطأ واقوم قيلا) .. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، يصليها وحده، في بيته، لا يزيد فيها بالوتر على ثلاثة عشر ركعة، ولا ينقص عن ثلاث، لا في رمضان ولا في غيره .. ولقد سميت صلاة القيام، لأنه إنما يقام لها من النوم .. هذه هي السنة، وهي اليوم واجبة على المسلمين، لأن بالسنة يبعث الإسلام، فقد جاء في الحديث (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء قالوا من الغرباء يارسول الله ؟ قال: الذين يحيون سنتي بعد إندثارها). وقد جاء عن صلاة الليل (وصلاة الليل هي أهم الصلوات بعد المكتوبة ، لأن في ظلمة الليل تكون النفس قريبة من عنصرها الذي منه صدرت- ظلمة الطين- ولأنه في ظلام الليل تتقيد الحركة ، فلا يصل الى الأذن ما يوزعها .. ولأن فيه يتقيد النظر فلا يصل الى العين ما يوزعها ، ولأن في قيد هاتين الحاستين شيئاً من الرهبة والخوف الخفيف الذي يجعل الداخل متيقظاً ، وكل هذا يعين الإنسان على ان ينسحب من الدوامة الخارجية التي تفرضها علينا (الجلبة) وتيقظ الحواس ، ليعيش في الداخل، سائحاً في ومكتشفاً لاغوار النفس، وهذا ما عناه سبحانه وتعالى حين قال (إن ناشئة الليل هي أشد وطأ واقوم قيلاً).. فلا تفرط في صلاة الليل، فإنها كانت دائماً ذخيرة العباد، والحاجة اليها في وقتنا الحاضر أوكد منها في أي وقت مضى)(محمود محمد طه: تعلموا كيف تصلون ص 82).
أما صلاة التراويح، فقد جاء عن كيفية بدأها (عن السيدة عائشة انها قالت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد وصلى رجال بصلاته فاصبح الناس فتحدثوا ، فاجتمع اكثر منهم فصلوا معه ، فأصبح فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة فخرج رسول الله فصلى فصلوا بصلاته فلما كانت الليلة الرابة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح ، فلما قضى الفجر اقبل على الناس فتشهد ثم قال: أما بعد فانه لم يخف علي مكانكم ، ولكني خشيت ان تفرض عليكم فتعجزوا عنها ... فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك) (صحيح البخاري –الجزء الأول صفحة 241). ومن هذا الحديث، يتضح ان النبي صلى الله عليه وسلم، خرج لصلاته في جوف الليل، وليس بعد العشاء، كما يفعل الناس الآن في التراويح .. وهو لم يدع لها الاصحاب، لأنه يعلم ان صلاة القيام فردية، وحين وقفوا خلفه، وصلوا بصلاته، غاب عنهم، وصلى في داخل حجرته، حتى لا تكتب عليهم .. وهو حين لم يحضر اليهم في بقية رمضان، كان يقوم الليل في داخل بيته، كما هي سنته.. وكان يتأسى به من شاء من الاصحاب، فيقوم كل منهم في بيته.. واستمر هذا الامر طوال خلافة ابي بكر رضي الله عنه، ولما جاءت خلافة عمر رضي الله عنه، قام بإنشاء الصلاة الجماعية، هذه، في رمضان، جاء عن ذلك (عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري انه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان الى المسجد ، فإذا الناس اوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر إني ارى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب .. ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم قال عمر: نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون .. يريد آخر الليل وكان الناس يقومون اوله)(المصدر السابق ص 242) وجاء في شرح هذا الأمر بصورة أوضح ("ثم خرجت معه ليلة اخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم " .. أي أمامهم المذكور وهذا صريح في ان عمر كان لا يصلي معهم لأنه كان يرى ان الصلاة في بيته ولا سيما آخر الليل افضل ..)(الامام مالك: الموطأ –الجزء الأول صفحة 134). من كل هذا نعلم ان الصلاة التي يداوم عليها المسلمون اليوم، في رمضان، لم يصليها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يصليها أبوبكر الصديق رضي الله عنه، ولم يصليها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإنما هي بدعة، ابتدعها عمر، حين وجد الناس عاجزين عن القيام المطلوب في السنة، فرأى ان صلاتهم هذه المبتدعة، خير من ان يصلوا فرادى، ويشوشوا على قراءة بعضهم بعضاً، ولم يشاركهم عمر صلاتهم تلك، وكان يصلي الليل في بيته، تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
واتجاه السنة، عموماً، أن يصلي الإنسان في بيته، ما لم تكن صلاته الصلاة المكتوبة، فإنها أفضل في الجماعة وفي المسجد .. فقد جاء في الحديث (عليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته الا الصلاة المكتوبة)(رواه الشيخان والترمزي) وجاء أيضاً (صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة) (رواه ابوداؤود).. والصلاة المكتوبة يعني الصلوات الخمس، والتراويح ليس منها، فلماذا يصلونها في المساجد ؟! وعلى بعد صلاة التراويح عن السنة، ومع أنها حسب رأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بدعة، فإن الناس اليوم يؤدونها وهم راضون عن انفسهم، متفاخرون بها، يخرجون اليها في جماعات، ويتفقدون من يغيب عنها، مما يعرضها للرياء، والسمعة، ويجعلها اقرب الى المباهاة والتفاخر.. اكثر من ذلك!! يقرأون فيها القرآن بالمايكرفونات العاليةـ فلا يستطيع الكبير والمريض، والمرهق، أن يستريح في بيته، من الإزعاج، بل لا يسمع الناس في بيوتهم اصوات بعضهم، إلا ان يوقفوا حياتهم، حتى ينتهي الناس في المسجد من هذه البدعة، التي اصبح ضررها أكثر من نفعها .. ومهما يكن من أمر التراويح، فإنها على كل حال، تؤدى في أول الليل، والناس لم يناموا بعد، ولكن هنالك بدعة جديدة، أسوأ من بدعة التراويح، وهي ما يحدث في العشر الخواتيم في رمضان، إذ اصبحت بعض المساجد، تصلي في وقت متأخر، ما سمي بصلاة التهجد.. تتلوا فيها بالمايكرفونات العالية، ما يحرم الناس من النوم الهادئ في بيوتهم، في وقت ليس بوقت صلاة .. فبعد صيام النهار وتعبه، يأوي الطالب، والعامل، والمرأة المرضع، والحامل، والمريض الى فراش النوم، حوالي الساعة الواحدة صباحاً، فإذا المايكرفونات تصيح حوالي الساعة الثانية صباحاً، وتستمر حتى الفجر زاعمة بأن هذه صلاة التهجد!! إن من يقوم الليل على نهج السنة في بيته، لا يستطيع أن يصلي في هدوء أو يسمع قراءته، من شدة ارتفاع قراءة صلاة التهجد المزعومة هذه!! وهكذا ينفر جهلة الأئمة الناس من الدين، ويؤذونهم باسمه، وهم يظنون انهم يتبعون النبي صلى الله عليه وسلم، حين كان يشمر تهجداً في العشر الخواتيم من رمضان، أقرءوا إن شئتم قوله تعالى (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً ؟ الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً).