إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
تعقيب على د. الطيب زين العابدين
سطحية التعصب!! (٢-٣)
د. عمر القراي
تعقيب على د. الطيب زين العابدين
سطحية التعصب!! (2-3)
ومع أن د. الطيب زين العابدين قد أشتهر بالإتزان، والنظر، في سائر كتاباته، وهو الى ذلك كاتب، وباحث مدقق، يتجه الى الموضوعية، ويعتمد على مصادر الآراء التي يتناولها، إلا أنه حين تعلق الامر بالفكرة الجمهورية، رمى كل هذا وراء ظهره، ونظر اليها، بعين الخصم التقليدي، الإسلامي، السلفي، المتعصب، فلم يرجع الى مراجعها، ولم يظهر أي جهد بحثي، يتناسب مع تعليقة على ورقة، بذل فيها صاحبها مجهوداً كبيراً.. وإنما اكتفى بالآراء المسبقة للإسلاميين، فكررها، حتى بدا وكأنه رجل بسيط، من جمهور المساجد، المضلل، المعبأ، ضد الجمهوريين لا يفقه شيئاً عما يتحدث عنه، إلا ما سمعه من شائعات من الفقهاء، والأئمة، تقول بأن الأستاذ محمود، قال ان الصلاة قد سقطت عنه!! يقول د. الطيب زين العابدين عن الأستاذ محمود محمد طه (ولأنه أعطى نفسه مكانة خاصة لا تلتزم بالشعائر التعبدية المعروفة) (أجراس الحرية 14/8/2010م). وليس لما أورد د. الطيب سنداً من الفكرة، فالاستاذ محمود لم يقل إن له مكانة خاصة، تعفيه من الإلتزام بشعائر الإسلام.. وإنما قال أن هذه الشعائر في الاصل، فردية، وما جعلت الشرائع الجماعية، التي يمارسها كل الناس معاً، إلا وسيلة ليحققوا شرائعهم الفردية.. ذلك أن الفردية هي مراد الدين بالأصالة، وهي سبيل الناس لملاقاة ربهم، قال تعالى ( لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة)، وقال (ونرثه ما يقول ويأتينا فرداً)، والمجئ الى الله ليس سير في المكان والزمان، لأنه تعالى عن الزمان والمكان، وإنما المجئ اليه، بنزول منازل القرب منه، عن طريق معرفته، سير بالعلم، والتخلق.. وهذا السير في البداية يتم بالشريعة الجماعية، ولكن ريثما يحقق السائرون شرائعهم الفردية.. قال تعالى (لكل منكم جعلنا شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة)، فكما جعل الله للأمم شرائع مختلفة، في سيرها الى الله، فإنه أيضاً إدخر شرائع للأفراد، حين يبلغون من التحقيق، ما يجعل الواحد منهم، وكأنه أمّة!! إقرأ قوله تعالى (إن إبراهيم كان أمّة قانتاً لله حنيفاً ولم يكن من المشركين).. ومن هنا، من مفهوم الشرائع الفردية، تحدث الاستاذ محمود، وكتب كثيراً عن صلاة الاصالة، التي تقوم على الشريعة الفردية.. وهذه المفاهيم غريبة، وجديدة، ولا نتوقع من الناس قبولها بمجرد سماعها، بل نتوقع الإعتراض عليها، ورفضها، ولكن كل ما نطلبه، أن تناقش في مستواها، وأن تورد كما جاءت في مصادرها، ثم يمكن بعد ذلك لدكتور الطيب، أن يقول أنه لا يتفق مع مفهوم الفردية، أو فكرة الأصالة، ويورد ما يشاء من النصوص والشروح، التي تؤكد خطأ هذه الأفكار.. أما ان يكتفي بالقول بأن الأستاذ محمود ترك الشعائر التعبدية، فهذا تطفيف، وسطحية موبقة، إن قبلت من السذج والبسطاء، من أتباع أشياخ المساجد، فلا تقبل من المثقفين، والعلماء، و المفكرين.. ويمضي د. الطيب ليقول عن الاستاذ (ويقول أنه "صاحب رسالة ثانية" تقوم على تعاليم الدين التي نزلت في مكة وتنسخ ما جاء بعدها من تعاليم في المدينة المنورة، وإن من حقه تطوير الشريعة الإسلامية وإلغاء أحكامها، ولو كانت قطعية، التي في تقديره لا تناسب العصر)( المصدر السابق). والأستاذ محمود لم يقل إنه رسول الرسالة الثانية، إذا كان هذا ما يقصده د. الطيب، وإنما جاء عن ذلك (إن محمداً رسول الرسالة الأولى، وهو رسول الرسالة الثانية.. وهو قد فصل الرسالة الأولى تفصيلاً، واجمل الرسالة الثانية إجمالاً، ولا يقتضي تفصيلها إلا فهماً جديداً للقرآن)(محمود محمد طه: الرسالة الثانية من الإسلام. الطبعة الخامسة 1973م. ص 17).. كما أنه لم يقل أن من حقه إلغاء أحكام الشريعة، وإنما قال أن هنالك أحكام ناسخة لاخرى، وهذا مقرر في القرآن قال تعالى (ما ننسخ من آية أو ننسئها نأت بخير منها أو مثلها)، وأن الأحكام المنسوخة، أرفع، واقرب لروح الدين من الناسخة، فلا يمكن أن ينسخ أرفع ما في ديننا، بما هو دونه، ثم يظل هذا النسخ باقياً أبدا.. ولهذا إعتبر الأستاذ النسخ المشار إليه، إرجاء ( يتحين الحين ويتوقت الوقت)، كما يردد كثيراً في كتاباته.. فالأحكام الرفيعة، نزلت في مكة، وفي أول العهد في المدينة، وقدمت للناس أرفع قيم الإسلام، وحين عجزوا عن إلتزامها، نسخت، وجاءت الأحكام الأخيرة، خير لهم لأنها مناسبة لقصورهم، وأرجئت الآيات المنسوخة، حتى تتهيأ لها البشرية بالتطور، ولم يحدث هذا التهيؤ، قبل القرن العشرين – الوقت الذي تعارف فيه المجتمع البشري على حقوق الإنسان- فأصبح من واجب المسلمين، الدعوة لبعث الآيات المنسوخة، لأنها مطلوب الدين بالاصالة، ثم انها أكثر ملاءمة لحاجة وطاقة المجتمع البشري المعاصر.. ولقد كان الاستاذ محمود يسأل الفقهاء في محاضراته: إذا كانت الآيات التي نزلت في أول العهد، وعجز الناس عن تطبيقها، في الماضي، ونسخت سيظل نسخها سرمدياً، فما هي الحكمة من إنزالها؟! ولم تكن هنالك إجابة. وكان يقول لهم إذن النسخ إرجاء وليس إلغاء، وإلا أصبح تغيير رأي وعن ذلك تعالى الله علواً كبيراً. وحتى يتضح هذا الأمر دعنا نضرب مثالاً. نزل في مكة قوله تعالى (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) فكان قمة سامقة في الحرية، إذا أعطى مشركي قريش حرية الكفر، وبالفعل كان النبي صلى الله عليه وسلم، يدعوهم بالحسنى، فإن رفضوا الإسلام فهم أحرار، لا يجبرهم أحد على إعتناقه، بل إن النبي لم يكن يدافع عن نفسه، أو اصحابه، وكان يمر بآل ياسر، وهم يعذبون فيقول: صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنّة .. ولقد استمر هذا المستوى الرفيع، ثلاثة عشر عاماً حتى قامت الحجة على القرشيين، أنهم لا يستحقونه، وهو لا يصلح لهم، نسخ في حقهم، وأحكمت أيات الوصاية بدلاً عن آيات الحرية والمسئولية.. ولقد تدرج هذا الخطاب بالناس، حتى جاء قوله تعالى من سورة براءة (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم وأحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا واقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم) جاء في تفسير هذه الآية الكريمة ("فإذا انسلخ الأشهر الحرم" أي إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرمنا عليكم فيها قتالهم وأجلناهم فيها فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم... قوله "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" أي من الأرض وهذا عام والمشهور تخصيصه بتحريم القتال في الحرم.. قوله "وخذوهم" أي وأسروهم إن شئتم قتلاً وان شئتم أسراً قوله "واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد" أي لا تكتفوا بمجرد وجدانكم لهم. بل اقصدوهم بالحصار في معاقلهم وحصونهم والرصد في طرقهم ومسالكهم حتى تضيقوا عليهم الواسع وتضطروهم إلى القتل أو الإسلام ولهذا قال "فان تابوا وأقاموا الصلاة واتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ان الله غفور رحيم" ولهذا اعتمد الصديق رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة وأمثالها حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الأفعال وهي الدخول في الإسلام والقيام بأداء واجباته... وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا اله الا الله وان محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة" الحديث... وهذه الآية الكريمة هي آية السيف التي قال فيها الضحاك بن مزاحم إنها نسخت كل عهد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أحد من المشركين وكل عقد وكل مدة وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية لم يبق لأحد المشركين عهد ولا ذمة منذ نزلت براءة وانسلاخ الأشهر الحرم...) (تفسير ابن كثير – الجزء الثاني 317 -318 طبعة دار الحديث القاهرة )
ولم يقتصر الأمر على المشركين الوثنيين، وإنما انطبق على أهل الكتاب أيضاً، جاء في التفسير ( قوله تعالى "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين آتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" ... وهذه الآية الكريمة أول الأمر بقتال أهل الكتاب بعد ما تمهدت أمور المشركين ودخل الناس في دين الله أفواجا واستقامت جزيرة العرب أمر الله رسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى وكان ذلك في سنة تسع... قوله "حتى يعطوا الجزية" أي إن لم يسلموا "عن يد" أي عن قهر وغلبة "وهم صاغرون" أي ذليلون حقيرون مهانون فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين بل هم أذلاء صغرة أشقياء... كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام واذا لقيتم احدهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه...) (المصدر السابق ص 332 ). فإذا كان التشريع الإسلامي قد منح الناس حق الكفر في مكة، ثم جاء وصادر ذلك بالسيف في المدينة، فإن هذين مستويين من الحكم لا يقومان في نفس الوقت، فأنت في إطار الدولة الإسلامية، لايمكن أن تشرع لقتال المشركين وأهل الكتاب، وعدم قتالهم في نفس الوقت.. فإذا إلتزمت بعدم قتال الوثنيين، وأهل الكتاب، ودعوتهم بالتي هي أحسن، فقد طبقت القرآن المكي المنسوخ، شعرت بذلك أو لم تشعر.. أما إذا دعوت اليوم الى إحكام الجهاد، وقاتلت غير المسلمين، من وثنيين وأهل الكتاب، فإنك تكون قد طبقت القرآن المدني الناسخ، وهذا ما تقوم به "القاعدة"، وطالبان، وكافة الجماعات الإسلامية المتطرفة، التي تقتل أي شخص غير مسلم، على أساس أنه كافر.. وهو ما قامت به حكومة الجبهة القومية الإسلامية، التي أسمت نفسها الإنقاذ، في بداية عهدها، حيث أعلنت الجهاد على جبال النوبة وجنوب السودان، فقتلت عشرات الآلاف، وشردت مئات الآلاف، مما لا زالت مراراته، السبب الرئيس، في رفض الاخوة الجنوبيين للوحدة الآن.. ود. الطيب ينشط اليوم في الدعوة الى الوحدة، وهو من أبرز الوجوه في اللجنة القومية، التي تكونت بغرض الدعوة الى جعل خيار الوحدة الخيار الغالب، وما درى ان افكاره هي التي تهزم الوحدة!! وذلك لأنه يؤمن بالشريعة، وبتطبيقها في واقع الحياة.. والشريعة هي التعاليم، التي إعتمدت على القرآن المدني - القرآن الناسخ - والذي أسماه الأستاذ محمود قرآن الفروع، وحوت قتال المشركين، وأهل الكتاب (حتى يعطوا الجزّية عن يد وهم صاغرون). وعن الوضع في دولة الشريعة قال تعالى (إن العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين)، وهذا يعني ان غير المسلمين في هذه الدولة لهم الذلة.. وغير المسلم في دولة الشريعة، مواطن منقوص الحقوق، ومعلوم ان غير المسلم، لا يصح له ان يكون رئيساً للدولة المسلمة، ولا ان يتولى قيادة الجيش لأن الجيش جيش جهاد!! وليس له الحق في تولي القضاء الذي يقوم على قوانين الشريعة الاسلامية!! ومن الناحية الاجتماعية لا يجوز له ان يتزوج المرأة المسلمة، ولما كان دفعه للجزية الغرض منه اشعاره بالصغار، والمهانة، فانه لنفس الغرض، لا يتولى المناصب الرفيعة، ولا يؤتمن على اسرار المسلمين.. فقد روي ان ابو موسى الاشعري اتخذ كاتباً نصرانياً، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الا اتخذت حنيفياً؟ قال: يا امير المؤمنين لي كتابته وله دينه!! قال عمر: لا اعزهم اذ اذلهم الله ولا ادنيهم اذ ابعدهم الله!! ثم قرأ قوله تعالى "يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فانه منهم ان الله لا يهدي القوم الظالمين"!!( المصدر السابق132). فالمواطن غير المسلم في دولة الشريعة مواطن من الدرجة الثالثة، لأن المواطن من الدرجة الأولى الرجل المسلم، والمواطن من الدرجة الثانية المرأة المسلمة. وليس لدكتور الطيب، واخوانه في لجنته الموقرة، من سبيل للتوفيق بين وضعهم كدعاة لتطبيق الإسلام في واقع الحياة، وبين تحقيق وحدة الوطن، إلا إذا طرحوا الإسلام في مستوى اصوله، التي تقوم على المساواة بين المواطنين المسلمين وغير المسلمين، في الوطن الواحد.. وهذه لا توجد في الشريعة – في الآيات الناسخة -آيات الفروع، وإنما توجد في الآيات المنسوخة – آيات الاصول .. وبعث الآيات المنسوخة وتحكيمها، هو ما دعا اليه الأستاذ محمود محمد طه.. وحين قاوم شريعة نميري المشوهة، قال أنه عارضها لأنها تهدد وحدة البلاد.. وذلك لأنه يعلم إنها أخذت دون إعتبار لحكم الوقت من مستوى الفروع، الذي لا يساوي بين المواطنين، وان الجنوبيين سيقاومونها.. فإذا رفض د. الطيب اليوم، هذا المستوى، وأصر على الفهم المألوف المعروف من الشريعة، أصبحت دعوته للوحدة خدعة وتضليل، إن جوّزه على نفسه، فإنه لن يجوّزه على الإخوة الجنوبيين.