إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
مهلاً يا (علماء) السودان .. هل القانون الجنائي هو الشريعة الإسلامية؟!
د. عمر القراي
مهلاً يا (علماء) السودان .. هل القانون الجنائي هو الشريعة الإسلامية؟!
د. عمر القراي: أجراس الحرية
لماذا ثار اعضاء المؤتمر الوطني، أمثال د. غازي صلاح الدين العتباني، وارغوا، وازبدوا، حين اقترح الاستاذ ياسر عرمان، رئيس الكتلة البرلمانية للحركة الشعبية، إجراء تعديلات على القانون الجنائي المعدل لعام 2009م ؟! وماذا لو عدّلت عقوبة الجلد، أو الغيت عقوبة الرجم، أو القطع، أو غيرها من العقوبات في ذلك القانون ؟ ولماذا انبرى (علماء ) السودان، يهاجمون الاستاذ ياسر عرمان، ويتوعدونه، ويصفونه بأسوأ الأوصاف، ويتهمونه بالتأثر بالغرب ، لانه دعا الى تعديلات في ذلك القانون ؟! فهل يريد د. غازي العتباني، واخوانه من دهاقنة السياسة في المؤتمر الوطني، بعد ان تخلوا عن كل شعارات الإسلام، ونزعوا اسمه من تنظيمهم، بشقيه الوطني والشعبي، ان يوهموا الشعب انهم ما زالوا يهتمون بالشريعة الإسلامية، ويغارون عليها، وان ما قاله الاستاذ ياسر عرمان ، يعد طعناً في شرع الله يستوجب التهديد والوعيد، من حماة الإسلام ودعاته ؟!
و (علماء) السودان الذين باركوا اتفاقية نيفاشا، وشارك وفد ممثل لهم في حضور الاحتفال بتوقيعها، وقبلوا ان يكون النائب الاول لرئيس الجمهورية رجل مسيحي، واعترفوا بالتعددية الدينية، التي تعطي الحق في المواطنة للمسلم، والمسيحي، والوثني، في اطار السودان الموحد، هل يريدون الآن ان يوهموا الشعب انه محكوم بالشريعة ، وان القانون الجنائي المعروض للمداولة في البرلمان هو شرع الله، وان من يعترض على احدى مواده، يعتبر كافر وخارج عن الملة ؟!
أول ما تجدر الإشارة اليه، هو ان القانون الجنائي ليس هو الشريعة الإسلامية .. ولو كان هو شرع الله، لما جاز ابتداء، طرحه للبرلمان لتعديله، أو الاضافة اليه، أو التصويت عليه .. لأن شرع الله لا يخضع لإهواء البشر ، فهم لا يضعونه ، ولا يعدلونه ، ولا يقرونه ، وانما عليهم فقط تنفيذه . فان صح هذا، وهو صحيح دون ادنى ريب، فلماذا قامت الدنيا ولم تقعد، حين اقترح الاستاذ ياسر تعديل بعض مواد القانون الجنائي ؟!
ثم ان الشريعة لا تتجزأ، فإما ان تطبقها كلها، أو لا تدعي انك قد طبقتها لو فرطت في جزء منها .. وذلك لأنك لا تدري، فقد تكون مرضاة الله في الجزء الذي لم تطبقه !! ولهذا قال تعالى (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ؟! فما جزاء من يفعل ذلك منكم الا خزي في الحياة الدنيا ، ويوم القيامة يردون الى اشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون * اولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون) فهل يصح ان نعتبر القانون الجنائي هو الشريعة اذا كانت قوانين الدولة الأخرى مفارقة لها ؟! ألم يسمع د. غازي واخوانه، و(علماء) السودان، تصريح احد كبار المسئولين، في الدولة ، بان مشاريع الدولة قد تم تمويلها بالربا ؟!
فإذا كان الشعب مغلوب على أمره، ولا يملك ان يمتنع عن أموال الربا التي فرضتها عليه الدولة، فوضعه وضع المضطر، فما بال قادة المؤتمر الوطني، يقبلون هذه المفارقة الظاهرة للشريعة وهم يدعون الدفاع عنها ؟! وإذا كانوا بحكم سياسة ( التمكين)، قد حازوا ، دون عامة الشعب، الأموال الطائلة، والعمارات الشاهقة، والعربات الفارهة، فإن (الذين يأكلون الربا لا يقومون الا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) فهل يرجى لمثل هؤلاء ان يطبقوا شرع الله، او يدافعوا عنه بصدق ؟! ومن أسوأ ما في القانون الجنائي، مادة الردّة، التي ادخلها د. الترابي ليستغلها ضد خصومه .
ولقد نسى الشيخ انه كان يصرّح بان الردّة الفكرية لا عقوبة عليها !! وكان يستدل على ذلك بقوله تعالى ( إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً ) وكان يقول لو ان المرتد يقتل، لما أعطي هؤلاء فرصة ليكفروا اكثر من مرة . ولكن الشيخ غير رأيه، كما هي عادته، وتبنى موضوع الردّة، وأدخلها في القانون الجنائي لعام 1991م، في بداية عهد الانقاذ، ليكيد بها خصوم النظام، ويصور معارضتهم لحكومته الإسلامية ارتداد عن الدين، فيصفيهم دون ان يعترض أحد.
ولما كان الله من ورائهم محيط، وكان كيده هو المتين، فقد رد على الشيخ بضاعته !! فقام تلاميذه بابعاده، وتكفيره، وتهديده بنفس مادة الردّة !! ولو سئل زعيم المؤتمر الشعبي اليوم، لعاد الى رأيه القديم، ولأنكر موضوع الردّة .. فهل ما يجري فيه كل هذا التلاعب، والأهواء، قانون وضعي يجوز نقده، أم انه شرع الله الواضح المبين ؟!
إن عقوبات الحدود عقوبات قاسية، وحاسمة ، وهي واجبة التنفيذ، اذا قامت اركانها .. ولهذا جعل المشرع الحكيم، وسيلة اثباتها غاية في الصعوبة، فهي لم تطبق الا بالإعتراف . وحتى يعترف المسلم، من تلقاء نفسه، بارتكاب جريمة عقوبتها الإعدام، يحتاج الى درجة رفيعة من الإيمان، تهون في نفسه الدنيا وتعظم الآخرة، وتجعله يسعى للتطهير، بواسطة تطبيق الحد عليه .. وهذا ما حدث للمرأة الغامدية، التي رجمت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عنها ( لقد تابت توبة لو وزنت بذنوب أهل الأرض لرجحت بها ) .. فاذا لم يحقق المجتمع مثل هذا المستوى من الإيمان، أو قريب منه ، فان تطبيق الحدود سيؤدي الى التحايل عليها ، والتهرب منها ، مما يزيد المفاسد بدلاً من ان يقلللها.
فالذين يريدون تطبيق الحدود، عليهم ان يتجهوا الى التوعية والتربية، التي تحقق الايمان أولاً . فإذا كانوا حكاماً، وقادة، فليبدأوا تطبيق قيم الدين في انفسهم حتى يقتدي بهم الشعب، إذ لا يصح ان يمارسوا كل الظلم والفساد، ثم يطبقوا على الشعب شرع الله !!
والحدود لا تطبق بحق، الا على قاعدة من العدالة الإقتصادية والاجتماعية، توفر القوت الضروري والكرامة لكل المواطنين .. فلا يجوز ان تقطع يد السارق إذا كان بعض المواطنين يموتون من الجوع، وبعضهم متخمون من الشبع !! ولقد حدث في تجربة قوانين سبتمبر الشوهاء، ان قطعت الأيدي، والسودان يعلن المجاعة، ويستقبل العون الغذائي من الدول الاجنبية.
ولقد أيد د. غازي وقبيله قوانين سبتمبر، وزعموا انها الشريعة الاسلامية، ودافعوا عنها كما يدافعون اليوم عن القانون الجنائي، واخرجوا المسيرة المليونية لدعمها، وسعى زعيم الجماعة د. الترابي ان يجعل النميري اماماً للمسلمين مدى الحياة !! وحين ثار الشعب على نميري وقوانينه سيئة السمعة، واسقط نظامه بانتفاضة ابريل، هرع الترابي وتلاميذه يدينون قوانين سبتمبر، ويسعون الى وضع بدائل عنها !!
فالى متى ستظل هذه الجماعة تغير جلدها وتبدل مواقفها وتضلل الشعب باسم الدين ؟!
أما ( علماء) السودان، فلو كان لديهم أي قدر من الحياء، لتركوا الفتوى، ولزموا بيوتهم، بعد فتواهم البائسة، بعدم جواز سفر السيد رئيس الجمهورية لمؤتمر القمة العربية بالدوحة . فقد زعموا ان سفر سيادته لا يجوز لأنه تعريض للنفس للتهلكة !! فلم يصدق السيد رئيس الجمهورية زعمهم، ولم يحفل بفتواهم، وسافر وعاد ولم يحدث شئ، مما بنوا عليه فتواهم الجاهلة !!
ومعلوم انه في الدولة الإسلامية التي تطبق الشريعة، يكون الخليفة ملزم بفتوى العلماء، إذ لو لم يلتزم بها، لما الزمت فرداً من الرعية .. ولكن رفض الخليفة لفتوى العلماء معناه شكه في علمهم، او صدقهم، ولهذا يجب ابعادهم عن الفتوى، واحضار غيرهم، ممن يؤتمنون على دين الأمة .
أما ان يفتي (علماء) السودان، ويخالف السيد رئيس الجمهورية فتواهم لبطلانها وخطئها، ثم يظلوا في مواقعهم يدبجون المزيد من الفتاوى الخاطئة، ويهددون زعيم الكتلة البرلمانية للحركة الشعبية، الشريك الأكبر في حكومة الوحدة الوطنية، ويزعمون زوراً انه هاجم الشريعة، وهو انما اقترح تعديل مواد في قانون ليس هو الشريعة، فأمر بالغ الخطأ، ويحتاج الى تصحيح، لأنه تجني على الدين، وعلى الممارسة الديمقراطية، وتهديد غير مبرر للوحدة الوطنية .