إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
الاحتفال بمئوية الأستاذ محمود في جامعة أوهايو (٢ - ٢)
د. اسامة عثمان
الاحتفال بمئوية الأستاذ : محمود في جامعة أوهايو (2ــ2)
د . أسامة عثمان
ussama1999@yahoo.com
بدأ اليوم الثاني للملتقى بقاعة الاحتفالات الكبرى بمركز بيكر وهي أكبر قاعات الجامعة على الإطلاق وقد امتلأت جميع مقاعدها منذ فترة مبكرة لأن المتحدث الرئيسي لذلك اليوم كان متحدثاً مشهوراً. وهذا تقليد في الملتقيات الأميركية، أيا كانت سياسية أو ثقافية أو غيرها لا بد من وجود اسم لامع يكون متحدثاً رئيسياً. ولم يكن الاختيار عشوائياً وإنما اختيار مدروس. كان المتحدث الرئيسي في اليوم الثاني هو المفكر والفيلسوف والمناضل كورنيل ويست، وهو بروفيسور كرسي الدراسات الأميركية والأديان المقارنة في جامعة بريستون في ولاية نيو جرسي، وكان قد تخرّج في جامعة هارفارد وعمل فيها أستاذاً وعمل في جامعة يال العريقة وفي جامعات أخرى. والبروفيسور ويست معروف بأعماله الأكاديمية في فلسفة الأديان والأخلاق وبنشاطه السياسي كداعية لقضايا الحقوق المدنية والحريات وقد بدأ حياته النضالية وهو طالب في المدرسة عندما كانت حركة القس مارتن لوثر كينغ من أجل الحقوق المدنية في أشدها ثم واصل نضاله في محاربة نظام الأبارتايد في جنوب أفريقيا. وتنحصر معظم أعماله في مناقشة قضايا العرق والنوع والديمقراطية في المجتمع الأميركي. ذكر البروفيسور استيف هوارد أن الإسهام الكبير للأستاذ محمود بوصفه واحداً من أكبر المفكرين في أفريقيا في القرن في قضايا الحرية وحقوق المرأة وحقوق الإنسان والعلاقات بين البشر ليس معروفاً في دوائر الجمهور الكبير والدوائر السياسية ويأمل أن تسهم مشاركة المفكر كورنيل ويست في التعريف بقيمة الأستاذ محمود في هذه المجالات. ولقد نجح استيف هوارد في توقعه غاية النجاح حيث أن مدينة أثينا بكاملها تكاد تكون قد جاءت لمشاهدة البروفيسور كورينل ويست يتحدّث. وكان ويست قد ذكر الاستاذ محمود في كتابه الصادر في عام 2004 بعنوان (أهمية الديمقراطية) قائلاً: «إن كتابة محمود محمد طه عن الديمقراطية ثورية وعميقة». وعبّر عن اعجابه بطرح الأستاذ للإسلام بوصفه «نظاماً شاملاً يدعو للسلام ولحرية الإنسان وللتحرر من الخوف من أجل حياة تسودها المحبة والرشاد». ينبغي أن نذكّر بأن كورنيل ويست خطيب مصقع من شاكلة مارتن لوثر كينغ وغيره من الإنجيليين من خطباء كنائيس السود، ولقد انتبه الناس لقدرات السود في الخطابة بعد حملة أوباما وقدرته المدهشة في الخطابة التي أسهمت بشكل كبير في فوزه. ولقد كانت كلمة البروفيسور ويست آثرة ربط فيها بطريقته التركيبية الشاملة للأحداث بين الأستاذ محمود وتعاليم غاندي ومارتن لوثر كينغ ومانديلا. كما اعتبر تجربته الشخصية في حياته وتعليمه لتلاميذه وموته الدرامي امتداداً لمدرسة سقراط في التضحية من أجل المبدأ.
ولقد توزّع الحضور من بعد كلمة ويست على جلسات علمية وقعت بالتزامن في قاعات مختلفة قدمها أساتذة وباحثون من جامعات أميركية وأخرى أجنبية تناولت إحداها نماذج لمفكرين إسلاميين إصلاحيين من مختلف أرجاء العالم الإسلامي. وتناولت حلقة أخرى نماذج لتجارب متميزة في العمل الإسلامي الإصلاحي قدمت فيها الأستاذة أسماء عبد الحليم عرضاً لتجربة الأخوات الجمهوريات في العمل الدعوي للفكرة ومدى تأثرهن وتأثيرهن في مجتمع محافظ في سبعينيات القرن الماضي في السودان. وتحدّث دكتور عبد الله أيرنست عن تجربة انتقاله لدين جديد والحوار الذي دار من بعد مع أسرته وأصدقائه كمنوذج لإدارة التعدد الثقافي وتكامل التجربة الإنسانية. كما قدّم باحث شاب من جامعة بروكسيل الحرة مداخلة بعنوان (محمود محمد طه بين التصوف والعلم)، أثار الكثير من الجدل وقد تعرض فيها إلى محاولة الأستاذ إعطاء تفسير يزاوج بين العلم والدين في نظرية التطور وخلق الإنسان كنموذج لمنهجين لا يلتقيان وفقاً للفهم المعرفي الديكارتي الذي تبناه الباحث. وتناولت حلقة أخرى نماذج لحركات إصلاحية وحركات لتحرير المرأة من منظور ديني في تركيا واندونيسيا ونيجيريا.
إلى جانب حلقة أخرى عن التنظيم والعمل الاجتماعي لنماذج لحركات من أريتريا تحت الاحتلال وحركة المريدين في السنغال والتشريعات المحلية المستمدة من الشريعة في تجربة إندونيسيا.
واختتم البروفيسور المؤتمر بكلمة شكر للجميع وعبّر عن سعادته لأن عدد مَن صاروا يعرفون شيئاً عن الأستاذ محمود واسهاماته في الفكر الإنساني قد إزداد، وفي ذلك مفخرة لجامعة أوهايو، ولقد كان الملتقى مناسبة اجتماعية أيضاً التقى فيها الإخوان الجمهوريين بعضهم كما التقوا بغيرهم من السودانيين وشاهدنا وجوهاً كانت مألوفة لدى من كانوا في جامعة الخرطوم في السبعينيات من أمثال الأخ أحمد المصطفى دالي الذي خطه بعض الشيب!
سنعرض في مقال لاحق بإذن الله لبعض مآلات الفكر الجمهوري وللعمل القاصد الذي يقوم به الدكتور عبد الله النعيم في تنزيل الأفكار التي أوردها الأستاذ اجمالاً في كتبه الأساسية إلى تطبيقات عملية في مجالات الديمقراطية وحقوق الإنسان والعلاقات الدولية.
لقد انتظر أهل السودان أكثر من قرن ليعرفوا أن الزبير باشا لم يكن نخاساً فحسب كما صوَّرته كتب تاريخ الغزاة وإنما كان أشهر شخصية في أفريقيا في القرن التاسع عشر وأكبرها أثراً وجاءت كتابات لإنصافه بعد أن كتب عنه باحثون من اليابان وغير اليابان. وأخشى في إطار التجاهل المتعمَّد وغير المتعمَّد لتجربة الأستاذ محمود الذي يقع حالياً في السودان أن ينتظر السودانيون قرناً حتى يأتيهم من يحدّثهم من أوهايو وغير أوهايو بأن بلادهم قد انتجت رجلاً فذَّاً ربط الفعل بالعمل، وقدَّم للبشرية محاولة غير مسبوقة في البعث الإسلامي يمكن أن يباهوا بها الأمم.