إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
الاحتفال بمئوية الأستاذ محمود في جامعة أوهايو (١ - ٢)
د . أسامة عثمان
الاحتفال بمئوية الأستاذ : محمود في جامعة أوهايو (1ــ2)
د . أسامة عثمان
ussama1999@yahoo.com
احتفلت جامعة أوهايو بالذكرى المئوية لميلاد الأستاذ محمود محمد طه (1909-2009) والذكرى الرابعة والعشرين لاستشهاده من أجل الفكرة التي كرّس لها حياته في 18 يناير1985. ولم يكن اختيار جامعة أوهايو للاحتفال بهذه الذكرى حدثاً معزولاً جاء مصادفة لأن بعض تلاميذ الأستاذ محمود يعملون بتلك الجامعة أو أنهم قد درسوا فيها. فجامعة أوهايو التي أنشئت عام 1805 واحدة من عشر جامعات أميركية عريقة تلقت منحة من مجلس البحث في العلوم الاجتماعية خصصت لمركز الدراسات الأفريقية ومركز دراسات جنوب شرقي آسيا لتسليط الضوء على البرامج والمبادرات الإصلاحية والتقدّمية في العالم الإسلامي المعاصر. ولقد انعقد لواء الاحتفالات في إطار مؤتمر «الإسلام التقدمي» في الفترة 17-18 يناير 2009 ليتصادف مع الذكرى الرابعة والعشرين لاستشهاد الأستاذ محمود وكان محوره حياة وأفكار الأستاذ كنموذج معاصر لتفسير وفهم متقدّم للإسلام يختلف عن الصورة السائدة المرسومة في أذهان الناس عن الإسلام المرتبط بالإرهاب والعنف والتخلف ومعاداة المرأة. ولقد ركّز المؤتمر على الإسهام الفكري للأستاذ محمود وأنشطة الإخوان الجمهوريين في مختلف الحقب.
اشتمل البرنامج أيضاً على معرض ملصقات تصور بعض أبعاد حياة الأستاذ محمود ونشاطات الإخوان والأخوات الجمهوريات في مختلف الحقب ذكرنا بالمعارض المتحرّكة التي كان يقيمها الأخوان الجمهوريون في السبعينيات في المدن السودانية كوسيلة من وسائل الدعوى لفكرهم لم تكن مألوفة للناس كثيراً في ذلك الوقت وكانت أحياناً تتعرَّض للاعتداء من بعض المهووسين. كما أصدر فيلم تسجيلي قصير يمثل لمحات من حياة الأستاذ في مختلف مراحلها من إعداد البروفيسور أستيف هاوارد مدير مركز الدراسات الأفريقية مع تعليق بصوته. وكان من أكثر اللحظات إدهاشاً للجمهور في اللمحات المصورة هي آخر كلمات قالها الأستاذ بلسان عربي مبين وردت ترجمة لها في الفيلم الوثائقي عندما أملى على كتاب محكمة المهلاوي والصحافيين مسببات رفضه في التعامل مع المحكمة في شموخ وإباء عكس الأدوار حتى تساءل الجمهور من يحاكم من؟ قال في عبارات قوية رددها ببطء حتى يكتب من يكتب دون الوقوع في الخطأ كلمات صارت محفورة في ذاكرة تاريخ الإنسانية تحدث فيها عن القوانين التي أصدرها نميري في عام 1983 والتي رفض أن يسميها قوانين الشريعة الإسلامية ولكنه نسبها للشهر الذي صدرت فيه فسارت عليها التسمية قال «أنا أعلنت رأيي مراراً، في قوانين سبتمبر 1983م، من أنها مخالفة للشريعة وللإسلام.. أكثر من ذلك، فإنها شوهت الشريعة، وشوهت الإسلام، ونفرت عنه.. يضاف إلى ذلك أنها وضعت، واستغلت، لإرهاب الشعب، وسوقه إلى الاستكانة، عن طريق إذلاله.. ثم إنها هددت وحدة البلاد.. هذا من حيث التنظير.. وأما من حيث التطبيق، فإن القضاة الذين يتولون المحاكمة تحتها، غير مؤهلين فنياً، وضعفين أخلاقيا، عن أن يمتنعوا عن أن يضعوا أنفسهم تحت سيطرة السلطة التنفيذية، تستعملهم لإضاعة الحقوق وإذلال الشعب، وتشويه الإسلام، وإهانة الفكر والمفكرين، وإذلال المعارضين السياسيين.. ومن أجل ذلك، فإني غير مستعد للتعاون، مع أي محكمة تنكّرت لحرمة القضاء المستقل، ورضيت أن تكون أداة من أدوات إذلال الشعب وإهانة الفكر الحر، والتنكيل بالمعارضين السياسيين».
ومضى فداء لشعبه كما كان قد قال لتلاميذه في يناير من ذلك العام عن ضرورة أن يفدي الجمهوريون الشعب السوداني ويذكر الناس هدوءه وثباته وابتسامته الأسطورية وهو يعلو منصة الإعدام في ذلك اليوم من صبيحة يوم الجمعة 18 يناير 1985.
اشتمل برنامج الاحتفال أيضاً على «عشاء ثقافي» حيث تناول المشاركون عشاءً شهياً اشتمل على أطباق من مختلف أنحاء العالم أعدها متطوعون من اتحاد الطلاب الأفارقة وطلاب جنوب شرقي آسيا وقاموا على الخدمة بمساعدة مجموعة من الشباب السودانيين والسودانيات ممن ولدوا في أميركا.
افتتح الاحتفال البروفيسور أستيف هاوارد أمام حشد عالمي كبير فقد جاء الناس من كل حدب وصوب من مختلف الأعمار والسحنات ضاقت بهم القاعة الكبرى في جامعة أوهايو في مدينة أثينا وهي مدينة جامعية معظم سكانها من الطلاب والأساتذة وأسرهم، قدّم الأستاذ هوارد مناسبة الحدث وموقع الأستاذ محمود في الفكر الإنساني واسهامه كرجل من أفريقيا والعالم الإنساني في القضايا الكبرى للبشرية وضرورة أن يعرفه الناس والشرف العظيم لجامعة أوهايو بالمساهمة في ذلك. ثم عرض الفيلم التسجيلي الذي أعده باسم «لمحات من حياة الأستاذ محمود محمد طه». كان اليوم الأول للمؤتمر أشبه بالشهادات ممن كانوا لصيقين بالأستاذ حيث كانت المتحدثة الرئيسية في الحفل هي الأستاذة أسماء محمود ابنة الأستاذ محمود الكبرى، والتي قدمت من الدوحة، مكان إقامتها الحالي، لهذا الحدث وكانت شهادتها مؤثرة جاءت فيها أشياء لا تسمعها من أي شخص آخر حيث تحدثت عن كيفية تعامل الأستاذ معهن في البيت كأطفال وكنساء والانسجام التام بين ما كان يقول به وما يفعله في أمر النساء وذكرت ما سمعته نقلاً عن عماتها من الكبار عن طفولة الأستاذ وحرصه على الحق والصدق منذ أن نشأ بشكل ميزه على إخوانه وأترابه. ولم يفت الأستاذة أسماء أن تحيي الرئيس المنتخب أوباما عشية تنصيبه رئيساً وأن تحيي ذكرى داعية الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ التي تصادف الاحتفال بها هذا العام الاحتفال مع ذكرى استشهاد الأستاذ، ولقد كان هذا الربط بين رسالة مارتن لوثر ورسالة الأستاذ محمود في بعدهما الإنساني ثابتاً في معظم الكلمات كما سنرى. ثم جاءت شهادة الدكتور عبد الله أحمد النعيم الأستاذ بجامعة أموري في أطلانطا ولاية جورجيا عن دور الأستاذ في تطوير منهج التحول الذاتي للأفراد، مستشهداً بتجربته الشخصية عن ما كان عليه وما صارت إليه حياته بعد أن التقى الأستاذ وهو طالب في السنة الأولى في جامعة الخرطوم، واستمع لمحاضراته وأثر حديث الأستاذ الذي يجعلك تتأمّل في نفسك وفي الأحياء والأشياء بشكل واع ودون غفلة.
تحدّث بعد الدكتور النعيم السيد فلاتشر زوويا وهو رئيس اتحاد الطلاب الأفارقة وذكر عن فخره باسمه الطلاب والباحثين الأفارقة بالمشاركة في الاحتفال بذكرى رجل من أفريقيا ترك بصمات على الفكر الإنساني وأسهم في تقديم دين من أكبر أديان القارة في شكل معاصر. وذكر بأن الأستاذ محمود كان موضع الاحتفاء في عام 2002 حيث انتخب «بطلاً من أفريقيا» لذلك العام.
ثم جاءت شهادة تلميذ آخر للأستاذ محمود هو الدكتور إرينست جونسون، المعروف بعبد الله إيرنست والذي كان يدرس اللغة الإنكليزية لطلاب العلوم في جامعة الخرطوم والذي يدرّس «التنوع الثقافي» في إحدى كليات مدينة سياتل في ولاية واشنطن في الساحل الغربي. وعبد الله أيرنست أميركي-أفريقي يشبه السودانيين في سحنته ويتحدث العربية السودانية بطلاقة. ذكر لنا في شهادته أنه قد قدم للسودان في عام 1977، وهو ابن الرابعة والعشرين ليبقى ثلاثة أشهر يشاهد فيها بعض الطرق الصوفية وأثرها على الشخصية السودانية لأنه كان قد لاحظ شيئاً مميزاً في شخصية بعض الأصدقاء السودانيين الذين التقاهم في هاواوي وكان وقتها يبحث عن التجارب الروحية في الديانات الأخرى. وأسرَّ لأحد السودانيين بذلك بعد قدومه الخرطوم بثلاثة أسابيع فاقترح عليه أن يأخذه إلى شخص هو خير من يحدثه عن الإسلام والتصوف وعن السودان أيضاً وكل ذلك بلسان إنكليزي مبين فكان لقاءه الأول في منزل الأستاذ وامتدت رحلته إلى السودان من ثلاثة أشهر إلى تسع سنوات وذكر عن تحوله لداعية وتغيّرت حياته تغيراً كاملاً بفضل التلمذة والتلقي من الأستاذ كفاحاً. ولقد وجدته أكثر ما يشغله الآن هو كيفية إيصال الإسهام الأصيل لفكر الأستاذ محمود إلى الجمهور العريض من الأميركيين بوصفه فهماً للإسلام غير الذي يعرفه معظم الناس. واختتم الأمسية الأولى الدكتور إسماعيل المهدي، المدير المشارك لقسم الدراسات الأفريقية في جامعة أوهايو والذي كان هو وزميله البروفيسور هوارد في قلب تنظيم الحدث على مستوى الجامعة وتولى هو شخصياً أمر تنظيم وصول السودانيين واسكانهم والسهر على راحتهم بهمة لا تفتر ذكرتنا بتجرد الإخوان والأخوات الجمهوريات عندما كانوا ينهضون لتنظيم نشاط أو أداء عمل يبذلون فيه غاية جهدهم. تخلل الحفل وأعقبه جلسات من الإنشاد العرفاني بقيادة «عميد المنشدين» عوض الكريم موسى المعروف بكرومة والذي لم تؤثر السنين في صوته العذب فتسجيلاته في السبعينيات لا تختلف عن صوته اليوم.