إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

ويلٌ لأُمة لا تعرف قدر مُفكِّريها!

فتحي الضـو


كان من المفترض أن يكون كتابي الأول عن سيد شهداء الفكر الحر الاستاذ محمود محمد طه، ولكني لم أستطع أن أحقق تلك الرغبة الصادقة لسبب سأكشف عنه بعد نحو ما يناهز العقدين من الزمن، ولا أدري إن كان يهم القارىء الكريم في كبير شىء أم لا، لكن على أية حال يمكن القول أن هذا المشروع إن تحقق يومذاك فلا شك عندي أنه كان سيسعد حلفاء الكلمة المكتوبة على الأقل، أولئك الذين بينهم وبين (نون والقلم) أواصر محبة وعروة وثقى...تقول القصة إنني توجهت من الكويت حيث أعمل في صحيفة (الوطن) إلى (الوطن) السودان آواخر العام 1988 وكانت الزيارة بغرض جمع مادة توثيقيه عن حياة الاستاذ الراحل، فقصدت أولاً السيدة أسماء محمود محمد طه وطرحت عليها فكرتي، ورغم أن المعنِي بها هو والدها قبل أن يكون رائد ومؤسس الفكر الجمهوري، إلا أنها بتواضع جم وجهتني لآخرين قالت لي أنهم سيعطونني ما أريد، وبالفعل بدأت رحلتي بالسفر إلى مدينة ود مدني حيث نزلت ضيفاً على الاستاذ الراحل سعيد الشايب وكان منزله كخلية نحل لا يخلو من الغادين والرائحين ولو للحظة قصيرة، فالرجل عليه رحمة الله لا تراه إلا مُحدِّثٍ أو مُودِّعٍ أو مُستقبل لضيوفه...قضيت معه بضعة أيام زودني فيها بما كنت أصبو إليه، وقال لي إن أردت زيادة من مستزيد فيمكنني التوقف في مدينة رفاعة حيث يوجد الاستاذ خالد الحاج عبد المحمود، والذي طلبت منه أولاً أن يدلني على المنزل الذي وُلد ونشأ وترعرع فيه الاستاذ محمود محمد طه.

هناك على عكس ما توقعت تملَّكني حزن وأسىً عميق حينما شاهدت أطلالاً كسَّحها الزمن، وتذكرت كيف أن الشعوب الوفية تبذل كل جهد للمحافظة على آثار مفكريها وعظمائها وكل مشاهيرها لتتعرف عليهم الأجيال اللاحقة وتستلهم سيرهم العطرة، وبعد عودتي للخرطوم إلتقيت أيضاً الاستاذ عبد اللطيف عمر وآخرين، ثم مررت على دار الوثائق وجامعة الخرطوم ومعهد الدراسات الاضافية وكل مكان توسمت فيه خيراً، وبعد تلك الرحلة الطويلة عُدت أدراجى إلى الكويت أحمل غنيمة لا تقدر بثمن، وشرعت في العمل في الكتاب فور وصولي بمهلة وتؤدة واستمتاع...وكنت قد تعودت على ذلك في نهاية كل يوم بعد ان افرغ من عملي الصحفي الروتيني، وحتى أُسهِّل تلك المهمة على نفسي كنت قد وضعت مسودة الكتاب في احدى خزائن مكتبي. وفجأة داهمنا هادم اللذات من حيث لم نحتسب، إذ غزت جيوش صدام دولة الكويت على حين غرَّة، وكانت دُور الصحف في طليعة أولويات واهتمامات (الغزاة) الذين عمدوا إلى إحتلالها وبعد ذلك حصنوها بدبابات وقفت شاهرة مدافعها أمام كل صحيفة، ثم زادوا عليها بعشرات من الجُند المُجندة كأنهم يخشون فرار مطابعها، وعلى مدى ثلاثة شهور قضيتها مُجبراً تحت سنباك خيول (الاحتلال) باءت كل محاولاتي اليومية بالفشل الذريع، ولم أفلح في اقناع (النشامى) المدججين بالأيدولوجيا ووصايا الحجاج بن يوسف بالدخول لمكتبي لأخذ (ورق) كما كنت أقول لهم دوماً، وأتذكر كيف أنني كنت أتعمد خفض صوتي حينما أقول تلك الكلمة المُحرَّمة كأنني أنطق كفراً، إلى أن حضرت ذات يوم كالعادة لممارسة طقوس الإستجداء فوجدت محتويات الصحيفة كلها وقد أفرغت في جوف شاحنات ضخمة تمهيداً لنقلها للعراق (كغنائم) في حرب لم تندلع أصلاً! أذكر يومذاك وقفت كما كان يقف شعراء الجاهلية على الأطلال، كسير النفس والخاطر...خائر القوى...لا ألوى على شىء. ثم مثل فارس فقد سلاحه في معركة غير متكافئة طفرت من عيني دمعة حراء ما زلت - رغم تقادم السنين - أشعر بلسعاتها سياطاً تلهب خدي وعلقماً يهرىء جوفي... ومنذاك اليوم عزَّ على أن أكتب شيئاً عن قامة...تقاصرت دونها قامات!

لكن السؤال الذي يثور ويحق للقارىء أن يطرحه...لماذا كانت فكرة الكتاب في الأصل؟ أو لماذا الاستاذ محمود تحديداً؟ الواقع أنني قدرت أن اخوض غمار التجربة إنطلاقاً من عدة زوايا منها:

أولاً: في تقديري يعد الاستاذ محمود محمد طه المفكر السوداني الوحيد الذي ينطبق عليه اللفظ بمعناه الموسوعي المعرفي، صحيح قد يكون لدينا في السودان جيش من السياسيين فيهم النزيه والتعيس و(خايب الرجا) وصحيح أيضاً أن الله خصَّنا بالعديد من العباقرة في الطب والهندسة والأدب والعلوم الانسانية، ولدينا أيضاً كثير من الموهوبين في الرياضة والفنون بشتى أنواعها، بل على هذا المنوال يمكننا أن نحصى الآلاف...منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، ولكننا لن نجد بين الأحياء أو الأموات من يمكن أن يُطلق عليه صفة مفكر سوى الاستاذ محمود، هذا بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع اجتهاداته واطروحاته الدعوية الفكرية.

ثانياً: عندما فرضت عليه الأقدار أن يواجه جلاديه في (المحكمة المهزلة) كما اسماها، تمسك بمبادئه ورفض المساومة حولها ولم يتنازل قيد أنملة عن شىء آمن به، بالرغم من أنه كان يعلم أنه يواجه خصوماً طالما تربصوا به للنيل منه، إذ لم تكن تلك هي المرة الأولى ومع ذلك إزداد إصراراً، ولكنه بذكائه المعهود حاكم قضاته عوضاً عن أن يحاكموه، ونال من قوانينهم تبخيساً وتشريحاً وإزدراءً قبل أن تنال منه جوراً وظلماً، وحوَّل المحاكمة برمتها من محاكمة جلادين لشخصه إلى محاكمة جلادين لشعبه!

ثالثاً: مثل أساطير آلهة الإغريق مضى في طريق الايمان بقضيته إلى حد تقديم حياته قرباناً لها، فكان السوداني الوحيد الذي نذر روحه لفكره، واعتلى موقعه وسط قلَّة من المفكرين الذين حفل بهم تاريخ الانسانية وتعرضوا لذات المصير الذي تعرض له هو على يد جلاوزة الفكر الظلامي.

رابعاً: أن ينذر رجل حياته لفكرة ظلّ يدعو لها لنحو نصف قرن وينجح في استقطاب الآلاف نحوها من السودانيين، وثم تجذب الفكرة آخرين من خلف الحدود ومن جنسيات شتى، ورغم تمددها نوعياً وعددياً يظل هو على ذات الحال، ذلك الرجل الذي يأكل طعام غمار الناس ويشاطرهم العيش البسيط ويجلس بينهم لدرجة لو أنك لم تكن تعرفه لحسبته راعياً كان يرعى غنم خالاته من بني مخزوم كما سيدنا عمر بن الخطاب...لم يغتر والغرور (بفتح الغين) شاخصاً بصره نحوه، ولم يترفع أو يتكبر والغرور (بضم الغين) يضعه البعض تاج عزّ على جباهم!

خامساً: تفرد الاستاذ محمود بين السودانيين بأنه تعدى رحاب المحلية، فهو إلى جانب أفكاره الدينية كانت له العديد من الآراء في قضايا مصيرية خارج حدود السودان، ومنها قضايا جدليه أثبتت الوقائع صحتها مثل القضية الفلسطينية، وفي تقديري لو أن الناس ركنوا لما قال يومذاك لكانوا قد وفروا دمائهم وأرواحهم، ومن المفارقات التي لا تخفى على أحد أن يتزامن التصعيد المأساوي الحادث الان في غزَّة مع الذكرى المئوية لميلاده والذكرى الرابعة والعشرين لإعدامه!

كانت هذه هي مجتمعة هي الأسباب التي حدت بِنا للتفكير في مشروع الكتاب، والذي كان سيكون محصوراً في النقاط الخمسة، أي النقاط المعنية بحياته الحافلة والعامرة بالعطاء الانساني لنحو نصف قرن، وأشعر بالفخر حينما أقول انني شخصياً إستلهمت من الاستاذ محمود القيم التي تقوى من عضدي في المضى قدماً في طريق الكتابة الشاق، وخاصة قيم الحرية والعدل والحق والمساواة. وحريٌ بنا القول أن في الكتاب المذكور لم أكن أنوي تناول الفكر الجمهوري من قريب أو بعيد، ليس لسبب سوى أعترف بأنني لم أكن مُلماً الإلمام الفلسفي والديني الكامل الذي يجعلني أقف موقفاً معارضاً أو منافحاً للفكرة، بل واعترف أنني قبل الاقدام على الفكرة لم اكن أعرف شيئاً كثيراً عن الاستاذ محمود محمد طه إلا القدر الذي كان يلفت أنظار الناس آنذاك والمتمثل في نفر من الرجال والنساء يتوشحون البياض ويتوزعون في أماكن التجمعات وفي شوارع الخرطوم التي يكثر فيها السابلة، وتراهم يحملون في ايديهم أسفاراً وهو يتجادلون بالحسنى مع كل من يستوقف نفسه من الناس، والذين هم إما منجذب نحو حب الاستطلاع أو عاشق للمعرفة أو راغب في حوار بناء، أما بالنسبة للجمهوريين فسيان عندهم...إن كان المُجادل نزِقاً متطرفاً أو عقلانياً متفهماً، فتراهم يواجهون الموقفين معاً بثغر لا تفتر إبتسامته وبوجه لا تعبس سيمائه وبنفس لا تضيق ذرعاً بالآخر. كان الكثيرون يستغربون ليس في ما يطرحونه ولكن في قدرتهم على الصبر والمثابرة وقوة الاحتمال، لدرجة أنه عرفوا بين الخلق أنه مهما أوتي البعض من مقدرات في المكر والدهاء كما العصبة ذوي البأس فإنهم لن يستطعوا أن يزلزلوا (جمهوري) من ثباته السرمدي في موقفه أو يجره نحو منابع الغضب والاستفزاز، ولولا إننا قوم جُبلنا على الجحود ونكران الجميل لأعطينا الجمهوريون حقهم في صدقة جارية، فقد ساهموا في ارساء دعامة كبرى نحتاجها في حياتنا وهي دعامة الحوار، وكلنا يعلم أن غيابها تسبب في الكوارث السياسية والفكرية والاجتماعية التي ابتلينا بها، واستطيع أن أقول إن شوارع العاصمة المثلثة إفتقدت حوارات الجمهوريين عنواناً للتسامح الديني والفكري والسياسي، وأستطيع أن أقول أيضاً وبنفس الروح أن شوارع العاصمة المثلثة تلك، تمدد فيها العنف وسالت فيها الدماء وفتحت جهنم أبوابها منذ أن غاب عنها الجمهوريون أنفسهم!

يا إلهي...عِوضاً عن أن نقابل الحسنة بحسنة مثلها...من نكد الدنيا علينا أن نرى بيننا بعضاً تمادى في غيهم وسفاهتهم، فرجل بهذه السمو ما زال بعض شذاذ الآفاق يتوهمون بأنهم يمكن أن ينالوا منه حتى بعد موته، ومن بين هؤلاء معتمر القلنسوة أو (كراديتش) الصحافة السودانية الذي ينفث سُمه الزعاف يومياً على صفحات صحيفة زميلة، ولا يتورع في توزيع صكوك الكفر والايمان بحماقة وتهور...لا يقدم عليه إلا من أنتمى للعصبة ذوي البأس، وكنت قد سألت نفسي سؤالا مستحيلاً وقلت لها لو أن جمهورياً تطرف في لحظة غضب واحتل موقع كراديتش الصحافة السودانية وطفق يكتب عن خفافيش الظلام الذي اغتالوا الاستاذ محمود غيلة وغدراً وتوعدهم بالويل والثبور وعظائم الأمور كما يفعل كراديتش نفسه، فماذا سيكون رد فعله يا ترى؟ لا اظن أن الاجابة ستكون عصية – يا سادتي - على من خبر طرق ودروب ومنهج العصبة ذوي البأس!

في الذكري المئوية العظيمة وتلك العشرينية الأليمة...نوجه الرسالة الثالثة للشعب السوداني عامة ولتلاميذ ومريدي الاستاذ محمود محمد طه خاصة...ونقول لهم ارفعوا رؤوسكم بشموخ كأبطال الاساطير القديمة، فقد ترك لنا الاستاذ محمود ما لن نضل بعده أبداً...ترك لنا الشجاعة التي إسترخصت الحياة وأدبرتها وأقبلت نحو الموت بإباء وشمم، ترك لنا الايمان بالمبادىء والثبات عليها والتمسك بحرية الرأي وقال أن الحرية لنا ولسوانا، ترك لنا المجادلة بالتي هي أحسن واحترام الآخر مهما كان تطرفه وتهوره، ترك لنا ضرورة الصبر على المكارة، ترك لنا حتمية العفو عند المقدرة، ترك لنا فريضة قول الحق في وجه سلطان جائر، ترك لنا البساطة في المأكل والمشرب والملبس، ترك لنا سفر الخلود في العيش بكرامة أو الموت بموقف يعزز الكرامة، ترك لنا نعمة التأمل في الكون وخالقه ومخلوقيه، ترك لنا قاعدة إختلاف الرأي التي لا تفسد للود قضية...وأخيراً لخص فلسفته وفكره بتلك الابتسامة الساحرة التي هزمت ثيوقراطية خفافيش الظلام يوم اعدامه... وقال لنا: اليوم أكملت لكم رسالتي ورضيت لكم السودان وطناً والفكر الحُر موطناً!

أقيموا للاستاذ محمود تمثالاً في قلب الخرطوم لنقول للأجيال القادمة أننا قوم نحترم الفكر الحر ونضع مكانة خاصة لمفكرينا حتى وإن خالفناهم الرأي، اقيموا له تمثالاً ليُذكِّر المرجفين بفعلتهم الشنعاء، أقيموا له تمثالاً حتى لا يفكر اللاهوتيون الجدد في قتل محمود آخر! فالويل كل الويل لأمة لا تعرف قدر مفكريها!

لمثل هذا يا سادتي تصبح الكتابة فرض عين على كل من إمتلك ناصية القلم... فقل لي بربك ما جدواها بدون الحرية التي مهر لها الاستاذ محمود محمد طه حياته!!

عن (الأحداث) 18/1/2009