إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

محمود محمد طه كما عرفته

هنري كودريه


مجلة جون أفريك Jeune Afrique
٢٢ مايو ١٩٨٥ م
ترجمة عن الفرنسية

محمود محمد طه كما عرفته


بقلم هنري كودريه


مجلة جون أفريك Jeune Afrique
بتأريخ 22 مايو 1985 م
(ترجمة عن الفرنسية: بشير بكار)


شهادة


أتاحت اِقامة شهور عديدة فى الخرطوم للكاتب أن يعيش فى شبه صداقة حميمة مع محمود محمد طه ، رئيس الأخوان الجمهوريين العبقرى ، الذى أعدم شنقا فى 18 يناير ،عن 77 عاما ، بأمر من الدكتاتور المخلوع جعفر نميرى ( أنظر ج . أ العدد 1256)

محمود محمد طه كما عرفته


اِن أول ما يسترعى الاِنتباه فى شخصه ذلك الجمع بين ألطف صور التواضع ، وبين قوة لا تلين .. يرتدى ببساطة شديدة لباسا قطنيا أبيض مألوفا ، ويلبس فوق سرواله الخفيف المتدلى على الساقين قميصا يصل الى ركبتيه ، ويترك الساعدين مكشوفين . حليق الرأس ، وتغطيه الطاقية الاِسلامية المعروفة .. حينما يغادر مكتبه يلتف بثوب قطنى خفيف ، ينحدر من الكتف الأيسر الى الفخذ الأيمن ، تاركا الصفحة اليمنى مكشوفة ، ومارا على الكتف الأيسر ثانية ، ثم الرقبة ، ليتدلى على الصدر بذيل غليظ ..
ثيابه الخفيفة تكشف عن جسم قوى ذى أطراف عاضلة ، قصير القامة ، متين البنية ، يعطى اِنطباعا نادرا من الحيوية بقبضة يده القوية لدى المصافحة ، ونظرته الثابتة التى يخفف من نفاذها ابتسامة بشوشة تنير الوجه كل حين. هيئته التى تتسم بالهدوء والاِطمئنان تخفى اِستعدادا دائما للحركة والنشاط . كان الأستاذ يجود بنفسه فى منتهى البساطة . أثناء الوجبات يحرص على ألا ينقص شئ أمام أحد ، يوزع الأطباق ويسكب الماء بنفسه لغسل أيدى ضيوفه.. وأثناء الاجتماعا ت يتخذ مكانا فى مدخل القاعة على مقعد لا يتميز عن المقاعد الأخرى ، ويهتم بأن ينقل كرسّيا أو وسادة ليقدمها الى المتأخرين فى الوصول لحضور الاِجتماع..
كان أبعد من أن يلعب دور راهب بوذى فيستأثر بالكلام . لا يتدخل فى الاِجتماعات العامة لا ليوجه المناقشات فى الخط الصحيح للنقاش ، ويشجع على الحوار والتباحث . هو مرشد وليس عقائديا ، رجل عمل وليس منظّرا . تلاميذه وأصدقاؤه يدعونه " الأستاذ " وهو لقب ترجمته الحرفية ، التى تعنى " المعلم "، لا تحمل المفاهيم المركبة من الاحترام الودي ومقتضيات العلمانية.

ماركس وإنجلز كالغزالي


لم يكن محمود محمد طه قد خرج من طبقة " رجال الدين" ..هو مهندس فى الرى ، كان على اِثر اِعتقاله لمدة عامين بسبب معارضته للاِنجليز، قد بدأ عملا فى الاصلاح الدينى والاجتماعى منذ بداية الخمسينات . مدرسته الدينية والقانونية الوحيدة كانت تلك الفترة الطويلة من الاعتكاف ، التى عرف كيف يستغلها ، لينقطع الى التفكير والتأمل الصوفى. أساتذته لم يلتق بهم فى أى مؤسسة رسمية وانما التحق بمدرستهم كرجل عصامى ، وفى بحث فردى حثيث عن أسلوب جديد ..
على الصعيد الصوفى تأمل طويلا فى القرآن ، وعكف على الممارسة الصوفية (" صلاة الثلث الأخير من الليل" وهى عزيزة عند كبار الصوفية المسلمين ، وقد غدت واحدة من الممارسات المفضلة لتلاميذه ) .
وعلى الصعيد الفكرى وجه أبحاثه فى اِتجاهين : دراسة كبار المفكرين فى الاِسلام ، الأكثر منهم تقليدية كالغزالى ، أو الأكثر تجديدا مثل اِبن عربى ، مرورا بأكثرهم سموقا كالحلاج ، ذى الأثر المحسوس فى فكرة الصلاة والصيام والحج عند محمود محمد طه .. أيضا دراسة التيارات الفلسفية المعاصرة دراسة كافية ، للرجوع حتى لأعمال كبار الفلاسفة ( رأيت فى أحد الأيام على طاولة عمله ترجمة انجليزية لكتاب " بؤس الفلسفة " لكارل ماركس ، وكذلك كتاب "ديالكتيك الطبيعة " لفريدريك انجلز " ) .
على الصعيد الاجتماعى تفرغ محمود محمد طه لاعداد أتباعه ، جاعلا منهم مجتمعا مهيئا ليكون مكانا لانبثاق نظام اِجتماعى جديد . كما أنّه لم يترفع عن النزول الى حلبة السياسة ، فأسّس حزبا يدعى " الحزب الجمهوري " ، هذا الاسم الذى ظل مرتبطا بأتباعه حتى بعد حل الحزب.
كان جم النشاط . ألّف حوالى 38 كتابا وكتيبا صغيرا ، وهذه ليست قائمة كاملة ، لأنها تتوقف عند شهر سبتمبر 1979 ، تاريخ مرورى الأخير بالخرطوم . منها كتب كبيرة ، مطبوعة، تتجاوز المائتي صفحة .. ومنها منشورات مستنسخة تتراوح بين ثلاثين وأربعين صفحة ، وهذه بمثابة عروض متتابعة لفكرة ، أو منشورات تتناول الأحداث المتجددة .
وهذا ، بصورة موجزة ، نظام محمود محمد طه الذى نجده معروضا فى كتاب " الرسالة الثانية من الأسلام " وهو كتاب من 166 صفحة ، صدر فى عام 1967 ، وطبع عدة مرات منذ ذلك الحين .

رسائل الاسلام


اِن الدين ، أساسا ، واحد وهذه الوحدة اِنبثقت عن الأصل الاِلهى للكون والاِنسان ، ولكّن الانسان بسبب الاِستعمال السيئ لحريته قد وقع فى جهل منعه عن مشاهدة الأصل الاِلهى لوجوده وللكون. ومنذ ذلك الوقت ، كانت الأديان المختلفة التي تعاقبت على وجه الأرض مراحل لاسترداد هذه المعرفة ، وهذه الحرية الأساسية ، من الجهل ، ومن الخوف ، و العنف . فالاسلام هو المرحلة الأخيرة من هذا الاِسترداد ، ولكن ليس بالشكل الذي ظل معاشا حتى ايامنا هذه ، والذي لم يكن غير " الرسالة الأولى من الاسلام " .
ان الاسلام الحقيقى والأخير ، هو " الرسالة الثانية " التي دعا إليها محمد في مكة ، والتي كانت قد نسخت مؤقتا بتعاليم المدينة . ففي الواقع ، عندما بدأ محمد فى نشر رسالته ، دعا إلى الدين الكامل ، الذي يرتكز على مسؤولية وعقل أعضائه ويدعو إلى حريتهم. ولكنه أضطر بعد الهجرة من مكة إلى المدينة ، ولأسباب تعليمية، أن ينزل إلى مستوى تخلف النمو الثقافي والديني في ذلك العهد . فدعا، من ثمّ ، إلى دين يدعو إلى الإيمان ، أكثر منه إلى العلم، وإلى قانون يقوم على الإكراه ، أكثر من الادراك المسؤول .
لقد ظل المسلمون يعيشون في مستوى هذه الرسالة الأولى حتى الآن. ولكن منذ اليوم ، ونظرا للتقدم الذي حققته الاِنسانية ، حان الوقت للاِنتقال الى الرسالة الثانية . وينبغي الآن الانتقال من القانون الأول ( الشريعة ) التى قامت في المدينة على فروع الدين ، من أجل اِقرار القانون الثاني الذي يتوافق مع الاِسلام الكامل ، ويستلهم "أصول" الدين ، تلك التي غرسها محمد في مكّة. من هنا تأتي محاولة بعض المفكرين المسلمين ، ومن بينهم محمود محمد طه ، ايجاد اِسلام أكثر " نقاءً " ، وأكثر "تديناً " من الإسلام الذي كان أكثر سياسة فى المدينة .
وبالتالي، ليس في التشريع الجديد جهاد ، ولا رق ، ولا رأسمالية ، ولا عدم مساواة بين الرجل والمرأة ، ولا تعدد فى الزوجات ، ولا طلاق ، ولا لبس حجاب ، ولا فصل بين الجنسين ( هذه هى تقريباعناوين الفصل المتعلق بالتشريع في الرسالة الثانية من الاِسلام ). اِذن ، بينما كان الإسلام ، فى بداياته ، أقرب إلى اليهودية في تشدّدها (( العين بالعين ، والسن بالسن )) ، فإنه في هذا الوقت يكون أقرب إلى الروحانية المسيحية (( من صفعك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر )) ، بيد أنّه يضيف إلى المسيحية عقلانية كبرى ، حيث يهتم ، على العكس منها ، بالأوضاع الواقعية ، الأخلاقية والاِجتماعية ، والتي هي بمثابة سلّم يساعده ، هو وحده ، على الوصول إلى قمّة الحرية والحب الكاملين .
هذه العقلانية في الإسلام ، في رسالته الثانية ، تبدو أخيرا في التنظيم الاِجتماعي الذي تقيمه . فالمجتمع الإسلامي الصحيح يوحّد في آن معا بين الاشتراكية والرأسمالية . الاشتراكية لأنه يكفل الحاجات المادية للجميع ، فى مساواة . والرأسمالية ، لأنه يتيح الحرية لكل فرد أن يسلك كما يريد وفقا لما تمليه عليه مسؤوليته .

مهدويون مع محمود!


ومحمود محمد طه، بسبب موقفه الرافض للشريعة ودعوته إلى تشريع جديد ، حكمت عليه محكمة دينية بأنه مرتد . ولكن هذا الحكم لم يخرجه من المجتمع . وقد تسنى لي مشاهدة البرهان على ذلك أكثر من مرة ، لا سيما أثناء عقد زواج بين اثنين من تلاميذه ، حسب مراسيم وضعها هو . فمع أنّ أغلبية المدعوّين إلى حفل الزفاف كانوا من المسلمين التقليديين ، فاِنى لم ألحظ علامة معارضة من جانب هؤلاء ، كما أنّ الاحتفال قد تميز بخطبة تناولت العلاقات بين الرجل والمرأة في الرسالة الثانية من الإسلام.
وحتى وإن كانت غالبية المسلمين السودانيين تنظر إليه كمبتدع ، فإن هناك أكثر من واحد ، وليس من الدون ، لا يخشى إعلان قبوله لأفكار محمود محمد طه ، مثل حفيدة المهدي التي ( شهدتها ) تعبر علانية عن انتمائها لأفكار الأستاذ محمود ، فى حضور أسرتها المجتمعة ، وهي من القطاع التقليدى في حزب الأنصار ، دون أن تجد الأسرة ما تقوله في هذا الصدد – إسم الأنصار في السودان يطلق على الذين ساندوا المهدي في نهاية القرن التاسع عشر ، وعلى الذين انحدروا منهم ، وبعبارة أخرى هؤلاء هم المهدويون .

فى بيت الأخوان


ولكن ، وبصورة أكثر مودة من دائرة هؤلاء المتعاطفين ، قلّ تعاطفهم أو كثر ، هناك دائرة التلاميذ ، التي لا يمكن خارجها التقدير الحقيقي لخصوبة منهجه وعمله الإصلاحي . هؤلاء التلاميذ يمثلون الذرية الروحية لهذا الرجل ، الذي كان قبل كل شئ ملهما ومرشدا . هؤلاء " الأخوان والأخوات " كما يسمون أنفسهم هم بصفة عامة قد جاءوا من أوساط على درجة كافية من الثقافة ، وينتشرون بوجه خاص بين الجامعيين والموظفين . وانتماؤهم الى الحركة يتطلب جهدا مزدوجاً من التحول الفردي ، وحياة النضال في المجتمع .
بعض هولاء الرجال وهؤلاء النساء يعيشون قبل زواجهم فترة خلوة ( عاما أو عامين وأحيانا أكثر ) في منزل من " منازل الأخوان ". في سنة 1973 كان يوجد ثلاثة من هذه المنازل في الخرطوم ، وكذلك في ثلاث مدن أخرى في السودان ، حيث يعيش الرجال والنساء وقتا من " التبتل " ، وذلك يعنى الانقطاع عن العالم ، والتفرغ لله ، ويتضمن بصورة خاصة العفة الجنسية ، حيث يسكنون فى منازل منفصلة ولكنها على مقربة من بعضها لبعض ، لتيسير اللقاءات .

مخلص حتى النهاية


في وسط هذه المجموعات يتدرب الأفراد على معيشة قيم " الرسالة الثانية من الإسلام " ، بأداء الصلاة الفردية والجماعية ، وخاصة في " الثلث الأخير من الليل "، كعادة الصوفية وأصحاب الطرق ، و باقتسام ما يملكون ، بدفع جزء من مرتباتهم لسد احتياجات الجماعة . ويتدرب الأفراد كذلك على معيشة تلك القيم بالعمل الاجتماعى ، في مجال التوعية ، مثل تنظيم اجتماعات للفكر ، والمناقشات ، وتوزيع مؤلفات الأستاذ محمود في الطرقات . ولقد شرح لي ذات مرة وظيفة هذه المنازل فقال : "إنها عن طريق التبتل تمكّن من ترقية المجتمع بشكل لولبي متصاعد ، ويأخذ في الاتساع ، حيث يمارس الفرد العبادة خلال الليل ، ويمارس العمل الاجتماعي خلال النهار . وهذا هو المكان المثالي لإعداد مجتمع جديد ".
هكذا ، كان محمود محمد طه ، صادقا مع نفسه ، فكان أن ملك من الكرامة والشجاعة ليبقى مخلصا لاِلتزاماته حتى النهاية . في لحظة تقديمه للاعدام صليت من أجله . محمود ، أخو المصلوب ، أخي !


هنرى كودريه الذي يعمل الآن في أبيدجان ( ساحل العاج ) والذي كان قبلها مدرّسا للغة العربية في تشاد ، كان يتردد كثيرا على محمود محمد طه في الفترة ما بين يونيو 1973 ويناير 1974 ، عندما كان يقيم في الخرطوم متفرغا لبحث حول التيارات الدينية في الإسلام السوداني . وبهذه الصفة كان محمود محمد طه يستقبله في مرات عديدة ، حيث يجد دائما بابه مفتوحا في المنزل " المتواضع جدا " الذي كان يسكن فيه " غاندي السوداني " في حي الثورة بأم درمان . احتفظ هنري كودريه بذكرى مثيرة لتلك اللحظات . والسطور المنشورة هنا مقتطفات من نص كُتب لنشرة " اللقاء الإسلامي المسيحي " ( التي تصدر في أبيدجان) ، عدد أبريل – مايو 1985

أنجمينا فى الرابع عشر من أكتوبر 1985
بشير عيسى بكّار