إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
في خضم الحوارات والتوترات والصدامات التي تسود عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر يعود "ميشيل هوبنكز" إلى منتصف عقد الثمانينيات لتأمل سريع الأفكار والوقائع التي قادت هذا الشيخ السبعيني إلى حبل المشنقة التي واجهها ثابتا مبتسما أمام عشرات الآلاف من المتفرجين.
وافق يوم الثامن عشر من يناير الماضي الذكرى العشرين لإعدام الإصلاحي السوداني الصوفي الطاعن في السن "محمود محمد طه" في أحد سجون العاصمة السودانية الخرطوم؛ لاتهامه بالردة.
وقد منحت تداعيات أحداث الحادي عشر من سبتمبر بعض أفكار "طه" طابعا نبوئيا؛ فقد استطاع محمود طه أن يتنبأ بالسقوط الوشيك للشيوعية في ستينيات القرن العشرين، وفي أوج الحرب الباردة.
فالشيوعية والرأسمالية كانتا بالنسبة له تمثلان وجهين لعملة واحدة، وهي الثقافة المادية الغربية، والصراع بينهما أمر عابر. فالمواجهة الحقيقية في العالم ليست بين الرأسمالية والشيوعية، بل بين الدين المتخلف والحداثة المادية الفارغة روحيا.
نشأ "طه" في الريف جنوبي الخرطوم، ثم درس الهندسة في كلية "غوردن" الشهيرة، التي ترجع إلى الحقبة الاستعمارية. يشكل التناقض بين عالم طفولته الديني الساحر، وبين العالم العلماني لدراسته الغربية علامة مميزة لبداية تجربته الشخصية.
ومع ظهور الإسلام السياسي، شهد "طه" خلال حياته كيف هيمن الصراع بين الدين التقليدي، وبين الحداثة العلمانية الغربية تدريجيا على الحياة السياسية في الشرق الأوسط. وقد تنبأ "طه" بأن هذا الصراع سوف يأخذ بُعدا دوليا.
مثل معظم الإصلاحيين الحداثيين رأى "طه" أن الإسلام المعاصر تحول عن مقاصده الأصلية، وتحجر ليصبح نظاما جامدا من التعاليم الشكلية، وفشل في أن يمنح المؤمنين أي هدى أو رؤى لمواجهة مشاكل العالم الحديث. فظهرت الحاجة إلى تأويل جديد للقرآن على ضوء المعرفة العلمية والنظام السياسي الديمقراطي الحديث. ومع هذا تجاوز "طه" الاتجاه الحداثي السائد بمناقشة النصوص القرآنية ذاتها. فحتى اليوم اقتصرت جهود الحداثيين على إصلاح وتحديث النصوص الفقهية التقليدية، لكنهم تجنبوا مناقشة الآيات القرآنية التي قد لا تنسجم مع مبادئ الديمقراطية الحديثة، وبخاصة تلك المتعلقة بوضع المرأة وغير المسلمين. وقد تناول "طه" هذه الآيات بالنقاش ـ بعكس معظم هؤلاء الحداثيين ـ وجعلها في قلب مشروعة الإصلاحي.
لم يكتف "طه" ـ مثله مثل العديد من الحداثيين الآخرين ـ بانتقاد الإسلام التقليدي، بل انتقد الحداثة الغربية أيضا. فبالرغم من إعجابه بالتقدم العلمي، إلا أنه رأى أن الإفراط في الثقة بالعلم الحديث قد أدى إلى إنكار وجود أية قوة غيبية خفية. وهكذا حرم الإنسان الغربي نفسه من النفاذ إلي جوهره الروحي، ولم يعد ينظر لنفسه إلا كمحصلة لمجموع حاجاته الجسدية.
وبالرغم من إدراكه للسمو الأخلاقي للمُثل الغربية الخاصة بحقوق الإنسان والديمقراطية، إلا أن "طه" آمن أن تلك الرؤية المادية لا يمكن أن تحافظ مثل هذه المُثل الأخلاقية على المدى الطويل، فالأمر يتطلب دينا، وإن كان بسمت جديد. يرى "طه" أن المخرج من هذا التناقض بين الأديان التقليدية والحداثة واضح جدا، وهو دين معاصر.
فيرى "طه" أن الإسلام يحتوي على رسالة ثانية، تمثل الحقيقة الأكثر عمقا وأبدية للدين، وهي تتفق مع المعرفة العلمية الحديثة وقيم الديمقراطية الحديثة وحقوق الإنسان. كما يرى أن هذه الرسالة الثانية ظلت محتجبة داخل الآيات القرآنية إلى أن وصلت الإنسانية إلى درجة من الرقي تجعل من تطبيق الرسالة أمرا ممكنا، ويرى "طه" أن هذه اللحظة قد حانت.
أصبح "طه" ـ في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين ـ معروفا في السودان بزعامته لجماعة دينية اجتماعية صغيرة الحجم كبيرة التأثير، هي "الإخوان الجمهوريون". وقد تشكلت هذه الحركة كجماعة تطبق آراء "طه" على أرض الواقع، وتنشرها بين عامة الناس. وقد عاش "طه" نفسه ـ الذي كان طاعنا في السن وقتها ـ حياة متقشفة تُشبه حياة الزعيم الهندي "غاندي"، حيث ارتدى الجلابية السودانية التقليدية مثل فقراء الريف السودانيين، ولم يمتلك سيارة، واعتاد السير لمسافات طويلة على قدميه. وأصبح أتباع "طه" مشهورين بصورة خاصة؛ بسبب دفاعهم عن حقوق المرأة. فقد تم تطبيق المساواة بين الجنسين ـ من بين أشياء أخرى ـ داخل الجماعة، عن طريق عقد زواج إسلامي خاص يُعطي للطرفين حقوقا متساوية. كما شجع "طه" أتباعه من النساء على نشر آرائهن في شوارع الخرطوم. ولا تزال صورة "الأخوات الجمهوريات "وهن يرتدين الثياب الناصعة البياض ويوقفن المارة لمناقشتهم وبيع الكتيبات محفورة في ذاكرة سكان الخرطوم، ولم يكن هذا النوع من مشاركة المرأة معروفا في المجتمع السوداني التقليدي.
وقد جاءت أكبر معارضة لطه وأتباعه من جانب رجال الدين التقليديين ـ العلماء ـ وقد استغل "طه" كل فرصة سانحة؛ ليتهم "العلماء" في السودان أو العالم الإسلامي بالجهل، ويُحمّلهم مسئولية التخلف والركود الثقافي للمسلمين. ويرى أن انهماكهم في تفاصيل الأحكام الفقهية المُغرقة في التقليدية والقدم لم يكن عقلانيا، وقد صرفهم في القدم عن رؤية المقاصد الحقيقية للدين من جهة ومشاكل المسلمين في القرن العشرين من جهة أخرى.
حاول العلماء الذين أحرجتهم هذه الهجمة إيقاف "طه" عن طريق جره للمحاكم ومقاضاته بتهم إشانة السمعة، ولكن "طه" استغل
هذه القضايا واستخدام المحاكم منبرا ينشر منه أفكاره. وقد استطاع ذات مرة أن يقنع القاضي بأن يسمح له بمواجهة أحد فقهاء الشريعة الذي اتهم "طه" بتشويه سمعته أثناء مقابلة صحفية تتناول السياسة في العالم. ولكي يثبت "طه" صحة جهل الرجل سأله إن كان قد سمع من قبل عن الناتو، فصرخ الفقيه قائلا: اقسم بالله أني قرأت عنه ذات مرة، ولكني لا أتذكر."
وقد لعب العلماء في النهاية دورا هاما في المؤامرة السياسية التي أدت إلى إعدام "طه" عام 1985 .عندما قام الرئيس السوداني آنذاك "جعفر النميري" بتطبيق الشريعة الإسلامية في السودان، وهو الأمر الذي أعلن "طه" عن معارضته. وقد استغل معارضو "طه" من التقليديين موقفه هذا.
وقد تعرض الرئيس "نميري" لضغوط من جانب منظمة العالم الإسلامي ذات النفوذ لمحاكمة "طه" وإعدامه لاتهامه بالردة. وكان أحد أسباب استجابة "النميري" لهذه الضغوط حاجته لكسب الثقة في الأوساط الإسلامية، بعد مساعدته لإسرائيل في ترحيل يهود الفلاشا من إثيوبيا إلى إسرائيل.
وفي صبيحة يوم 18 يناير 1985 أُعدم "طه" في سجن "الكوبر" في الخرطوم أمام عدد كبير من معارضيه المبتهجين.
وتتجلى عبقرية "طه" ـ سواء في كتاباته أو نهجه في الحياة ـ في جمعه بين التدين الخالص والحداثة العلمانية، وهو ما يطالب به العديد من المصلحين الحداثيين المسلمين، ومع هذا فقد انقسم أتباعه على نفس الأسس إلى قسمين؛ ديني وعلماني.
اعتقد بعض من أتباعه الأكثر تدينا أن طه يمثل تجسيدا للعودة الثانية للمسيح المذكورة في القرآن والإنجيل. وبالفعل فإن الأحداث التي أحاطت بمقتل "طه" تتشابه مع الآلام الأخيرة للمسيح ـ حسب الرواية الإنجيلية.
أما اتباعه العلمانيون فقد اعتبروه أحد أبطال حقوق الإنسان في المقام الأول. وفي عام 1986 اختارت منظمات حقوق الإنسان العربية يوم الثامن عشر من يناير ـ يوم إعدام طه ـ ليكون اليوم العربي لحقوق الإنسان.