إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

عندما ينحرف علماء السلطة وقضاتها عن أصل الدين

د. عمر القراي


حكم الردّة.. وردّة الحكم!!

عندما ينحرف علماء السلطة وقضاتها عن أصل الدين
حكم الردّة.. وردّة الحكم!!


د. عمر القراي


(أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟! فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب، وما الله بغافل عما تعملون * أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة!! فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون). صدق الله العظيم
قبل أن تغادر السيدة سيما سمر، مقررة حقوق الإنسان -الخاصة بالسودان- لدى الأمم المتحدة البلاد، وترفع تقريرها عن أوضاع حقوق الإنسان في دارفور، والجنوب، وابيي، للجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، وقع انتهاك فظيع لحقوق الإنسان في الخرطوم.. فبعد أن تمت إجازة قانون الانتخابات، ليتم عقدها في ميعادها، تمهيداً للتحول الديمقراطي، الذي نصت عليه اتفاقية السلام الشامل، التي أكدت الحكومة أكثر من مرة حرصها عليها، ووعدها بالتنفيذ الكامل لبنودها كافة، احتكاماً لما جاء في الدستور المؤقت لعام 2005م، الذي ألحقت به المواثيق الدولية لحقوق الإنسان كمراجع أساسية له، تنص على حرية الإعتقاد والتعبير، احتراماً للتنوع الثقافي، والإثني، والديني بالسودان، فاجأنا النبأ الآتي (أدانت محكمة جنايات مايو أمس المتهم «ي.ع.أ» بالردّة وأمهلته ثلاثة أيام للتوبة والتراجع عن أقواله وأفعاله والإقرار بالإيمان بالكتاب والسنة النبوية. وقرر القاضي بشير رحمة الزين توقيع حكم الردّة عليه إذا أصر على موقفه ورفض التوبة. وجاء في حيثيات الإدانة ان المحكمة أطمأنت على أن المتهم مرتد يستوجب الاستتابة حسب أقوال شهود الاتهام وشهود النفي الذين استجلبهم الدفاع لصالح المتهم، وقررت امهال المدان ثلاثة أيام بالحراسة للتأكد من رجوعه ونطقه الشهادتين، واذا لم يفعل او رفض الرجوع عن افكاره ستوقع عليه عقوبة الإعدام. واجمع ثلاثة من العلماء مثلوا امام المحكمة بناء على طلب الدفاع بوقت سابق بأن من يقرأ القرآن يجب أن يعترف بالسنة. وأشار مستشار رئيس الجمهورية أحمد علي الإمام الى ان المعطِّل للسنة لا يحق له أن يكون مسلماً قبل أن يوجّه النصح في الجلة الأخيرة للمتهم بالتوبة لوجه الله تعالى...) (الصحافة 8/7/2008م).
أول ما تجدر الإشارة إليه، ان الحكم بقتل المرتد، إنما هو ظل لآية السيف، وهي الآية التي أمرت بقتال المشركين.. قال تعالى: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم). وجاء في تفسير هذه الآية قوله («واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد» اي لا تكتفوا بمجرد وجدانكم لهم. بل اقصدوهم بالحصار في معاقلهم وحصونهم والرصد في طرقهم ومسالكهم حتى تضيقوا عليهم الواسع وتضطروهم الى القتل أو الاسلام... ولهذا اعتمد الصديق رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة). (تفسير ابن كثير-الجزء الثاني ص321).. فإن الذي يرتد من الإسلام، إنما كانت عقوبته القتل، لأنه لحق بالكفار، واصبح مثلهم. فإذا كان الكفار، الوثنيون، أنفسهم، لا يقتلون اليوم، في دولة السودان، فكيف يجوز شرعاً، أن تقتل من لحق بهم مؤخراً؟! بعبارة أخرى، إذا أنت عطَّلت أمر الله (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)، فلماذا تحرص على تطبيق أمر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله (من بدّل دينه فاقتلوه)؟!
وإذا كنا، في السودان، قد قررنا إن نحتكم لصوت العقل، ونعتبر مقاصد الدين العظمى، في السلام والأمن. فأوقفنا الحرب، ووقعنا اتفاقية السلام، مع إخواننا الجنوبيين، وقبلنا أن نشاركهم السلطة، ويكون بعضهم، بمقتضى هذه الشراكة، قادة لنا، في مواقع مختلفة، وفيهم الوثنيون والمسيحيون، وهم لا يرفضون الأحاديث النبوية فحسب، بل يرفضون القرآن، وكلما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف نقبل، أو نسمح، بقتل رجل لأنه لم يقبل السنة؟!
ثم إن حكم الشريعة في قتال المشركين، وقتال أهل الكتاب، وقتال المرتدين، ليس هو جوهر الدين.. وإنما جوهر الدين، حرية الإعتقاد، ولذلك قال تعالى (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)!! وقال (لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي). وقال (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟!).. وعلى المسلمين أن يدعوا غير المسلمين للدين، ويجادلوهم به، قال تعالى (ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين). وبدلاً عن قتال أهل الكتاب، قال تعالى (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل الينا وأنزل إليكم والهنا والهكم واحد ونحن له مسلمون).. ولقد ترك أمر المرتدين إلى الله ليحاسبهم يوم القيامة، ولم يوقع عليهم أي شيء، وإن كرروا فعلتهم! قال تعالى (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا).. ولكن هذا المستوى الإنساني الرفيع، لم يقع عليه التطبيق في الماضي، فما أحرانا بتطبيقه اليوم، خاصة وانه ينسجم مع مواثيق حقوق الانسان التي تعطي كل فرد حق الاعتقاد فيما يشاء، وتمنع الدول من اجبار أي مواطن، على البقاء في اي معتقد لا يريده.. ولقد وقعت حكومتنا في اتفاقية السلام، على ان تكون تلك المواثيق الدولية، من مرجعيات دستورنا التي لا ينبغي ان تخالفها قوانيننا.
وإذا سلمنا جدلاً بأن حكم الردّة حكم شرعي، فهل يجوز ان نطبقه وحده، دون سائر قوانين الشريعة وأحكامها؟! والقاضي الذي حكم على هذا الشيخ، يعلم أننا في السودان اليوم، لا نرجم الزاني المحصن، ولا نقطع السارق، ولا بد أنه سمع، او قرأ، ما قاله السيد وزير المالية من أن كل قروض حكومة السودان بالربا، فلماذا يريد أن يطبق الشريعة على هذا الشيخ المسكين وحده؟! وإذا كان هو كقاضٍ قد رضي بأن يحكم بغير ما أنزل الله، فما حكم الشريعة عليه هو نفسه، لو طبقت حقاً وصدقاً؟!
وأشياخ التكفير ووعاظ السلاطين، الذين يهرعون إلى ما يهدر الأنفس، بدلاً من السعي في حقن الدماء، لم يترددوا في تكفير الشيخ، وأخذه للمحكمة، وأمره ليتنازل عن آرائه.. فلماذا لم يفعلوا نفس الشيء، مع د. حسن الترابي، حين أذاع اجتهاداته التي اعتبروها انكاراً لما علم من الدين بالضرورة؟! ألأن الترابي كان مرشد الجماعة الإسلامية، ولا يزال خازن أسرارها، وله اتباع يمكن أن يمارسوا العنف، إذا اصابه مكروه؟! أيخاف حكامنا، وأشياخنا، من الناس ولا يخافون من الله، ويظنون، بعد كل ذلك، انهم يطبقون شرع الله لماذا يا علماء الشريعة، وقعتم فيما أهلك من كان قبلكم، فأصبحتم إذا ارتد فيكم الشريف تركتوه، وإذا ارتد فيكم الضعيف أقمتم عليه الحد؟! وهل يجوز في دولة حكم القانون، إن يطبق القانون على مواطن ويعفى منه آخر، أم لا بد للمواطنين أن يكونوا سواءً في نظر القانون؟!
وتهمة الشيخ التي يريدون أن يقتلوه بها، أنه ينكر السنة، رغم أنه يقرأ القرآن ويعلمه؟! فهل هذا رأي مسلم عادي، يقصد فقط أن ينكر ما علم من الدين بالضرورة، أم أنه أقرب إلى رأي شخص مجذوب، مذهب العقل، غابت عنه حكمة السنة، وموقعها في الدين، فكان يجب أن يلتمس له العلاج، ويعتبر وضعه هذا شبهة تدرأ عنه الحد؟!
وحتى لو كان سليم العقل، فقد تجعله نصوص القرآن، نفسه، يفهم بأنه لا يحتاج إلى شيء خارجه.. قال تعالى عن كون القرآن واضحا في ذاته (ولقد أنزلنا إليك آيات بيّنات وما يكفر بها إلا الفاسقون)، وعن كونه يوضح ما أشكل على الانسان (تلك آيات الكتاب المبين) وقال (إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) وقال (ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين).. وعن كون القرآن لم يترك شيئاً حتى يكمله غيره، قال تعالى (ما فرطنا في الكتاب من شيء).. ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة الحديث، وقال (لا تكتبوا عني غير كلام الله)!! ولم تدون السنة إلا في أواخر عهد بني أمية. ولقد اتفق علماء السلف، على أن هنالك أحاديث، وضعت على النبي صلى الله عليه وسلم، واختلفوا اختلافاً كبيراً في تحديدها.. فإذا جاء رجل مسلم، يقرأ القرآن، وفهم من كل ما ذكرنا، أنه لا يحتاج إلى السنة، وانه يمكن ان يكتفي بالقرآن، فإنه بلا شك مخطئ، ولكن ألا يكفي ما ذكرنا، ليقوم كشبهة تدرأ عنه الحد؟!
إن اتجاه التكفير، والتهديد بالقتل، بسبب المعتقدات، إنما هو وسيلة من وسائل الإرهاب، التي يلجأ إليها المتطرفون، حين توظفهم الحكومات ليخلصوها من معارضيها.. فليس المقصود من إبقاء حكم الردّة، في صلب قانون العقوبات -بعد التنازل عن كافة أحكام الشريعة- هذا الشيخ المنكوب، وإنما المقصود أن توظف مادة الردّة، للتخلّص من المعارضين السياسيين.. لهذا لا أستغرب إذا رفعت هذه المادة غداً، في وجه الأستاذ ياسر عرمان، بدعوى أنه يؤمن بفصل الدين عن الدولة، وأن هذه مفارقة لما علم من الدين بالضرورة!!
إن المؤتمر الوطني، يعد الآن، لخوض الانتخابات، فهل يعتمد في ذلك على أكبر انجازاته وهي اتفاقية السلام، فيصر على تطبيقها، ويواصل في دعم مسيرة التنمية، والاتجاه للحوار لحل قضية دارفور، أم ينزلق فيقتل الأبرياء بسبب اعتقاداتهم، وتحاكم الشرفاء بسبب آرائهم، فترجع بالبلاد إلى دائرة الحروب الإقليمية، وتكسب سخط المجتمع الدولي، فهل يستحق تنفيذ مادة الردّة، كل هذه التضحية وهي لا تمثل روح الإسلام، ولا تتفق مع الدستور، ولا مع حقوق الإنسان ثم إن الشريعة كلها غائبة؟!

[url]http://www.alsahafa.sd/Raay_view.aspx?id=51513[/url]