إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
بين الأستاذ محمود ودكتور الترابي (2-3)
تعقيب على الأستاذ المحبوب عبد السلام
د. عمر القراى
سأل الصحافي، الأستاذ المحبوب قائلاً: «قلت إن قضية الحرية ظلت مطروحة وانها طرحت في الاجتهاد المعاصر وان د. الترابي في مسألة الردّة حاول ان يؤسس لفكرة (لا إكراه في الدين) ولكن الترابي نفسه وراء إعدام المفكر الشهيد محمود محمد طه بتهمة الردّة وبشهادة عديد من الإسلاميين أمثال الشهيد محمد طه محمد أحمد ود. حسن مكي الذي رأى ان الحكم في قضية محمود قد كان سياسياً وان الترابي كان (يغير) من محمود وكان لا بد من قتله؟». وكانت إجابة المحبوب «والله ليس صحيحاً...» (الصحافة 31/8/2008م). والحق أن ما أقسم المحبوب بعدم صحته، هو الصحيح.. فقد جاء عن شهادة د. حسن مكي (د. حسن مكي يقول: حينما أعدم محمود كنت مسرحاً لأفكار شتى.. السياسي فينا كان يتكلّم بأن الحمد لله ربنا خلصنا من خصم قوي وكان حيعمل لينا مشاكل وكان حيكون اكبر تحدي لفكر الحركة الإسلامية السياسي. والفكري فينا يتحدث بأن هذا الشخص عنده قدرات فكرية وروحية.. ولكن السياسي دائماً ينتصر هنا. س: هل كان إعدام محمود سياسياً؟ ج: نعم، كان إعداماً سياسياً. س: وانت في ذلك الوقت انتصر فيك السياسي على الفكري؟ ج: نعم. س: ولكن أمين حسن عمر قال الترابي انتصر عنده الفكري على السياسي وكان ضد اعدام محمود؟ ج: انا لا أريد أن ادخل بين الترابي وأمين ولكن أعتقد ان الصف الإسلامي في ذلك الوقت كان جميعه مع اعدام محمود. س: نحن نسأل عن موقف د. الترابي؟ ج: أنا أعتقد أنه كان خائفاً أن يتراجع النميري عن إعدام محمود.. ويدعو الله ان لا يحدث ذلك) (صحيفة الوفاق 5/12/1998م). هذا هو رأي حسن مكي، في موقف الترابي، وجماعته من إعدام الاستاذ محمود محمد طه. وهو كاف لدحض إدعاء المحبوب، بأن الترابي وتنظيمه كانوا يؤمنون بالحرية. ومع ذلك، فإن الترابي نفسه، قد سجّل رأيه في عدة مناسبات، وهو لا يمكن أن يمحى، فقد جاء (الأهالي: لماذا وافقتم على إعدام زعيم الحزب الجمهوري الشيخ محمود محمد طه؟ الترابي: لأن الشيخ محمود محمد طه مرتد واصبح قاعدة للغرب.. لأنه يريد ان يجرّد المسلمين من فكرة الجهاد ليصبحوا عرضة للتسلط الغربي.. كما انه يريد ان يدخل الماركسية الليبرالية الغربية في بطن الإسلام كما جعل نفسه إلهاً ينسخ اركان الشريعة كما ظل يدعو للصلح مع اسرائيل منذ الخمسينيات وايد نظام نميري في قتل الانصار في أبا وقتل الشيوعيين ثم عارض مبدأ تطبيق الشريعة الإسلامية واحسب انه لقي جزاءه) (الأهالي المصرية 1/5/1985م) هذه شهادة الترابي، التي قد كتبت، وسوف يسأل عنها، مصداقاً لقوله تبارك وتعالى «سنكتب شهادتهم ويسألون!!» ومما يسجل من لغو الترابي، أيضاً، قوله «محمود ذهب غير مأسوف عليه» (الوطن 30/4/1988م). فإذا أنكر المحبوب كل هذا، فإنما اقر به، يكفي دليلاً على فقر هذه الجماعة البائسة، من أبسط قيم الإنسانية.. فقد قال «ومهدي ابراهيم تحدث الينا داخل مباني الجريدة في رسالة تنظيمية واضحة ان الحركة ليست مع هذا الحكم وعلى الناس ان تتعامل معه كحكم قضائي فقط. وسألناه عن كيف نعلق على ذلك؟ فقال: ليس بالضرورة التعليق على أي حكم تصدره المحاكم بمعنى ان علينا ان نلتزم الصمت حيال ذلك لأن الأجواء كانت محتدمة...» (الصحافة 31/8/2008م). فإذا كانت حركة إسلامية، تزن الأمور بميزان الدين، رأت ان هذا الحكم باطل، وسيترتب عليه إزهاق روح شخص بغير حق، فهل يمكن ان يكون الصمت، هو واجبها الديني، في مثل ذلك المقام؟! ما ظن المحبوب بقوله تعالى «إنه من قتل نفساً بغير نفس او فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً»؟! فإذا صمتت الحركة الإسلامية، عن قتل الناس جميعاً، فعن ماذا ستتكلم وعلى من ستثور؟! والمحبوب يشعر بخطأ الحركة الإسلامية، في صمتها عن جريمة العصر، ولكنه يحسبه هيناً -وهو عند الله عظيم- ولذلك يقول «ولكن يمكن أن تحاسبنا وتلومنا على اننا لم نعبر عن رأينا في ذلك الوقت بالرفض» (المصدر السابق). وليس اللوم على صمتهم المريب، عن الجهر بكلمة الحق فحسب، بل على تضليل نميري في نفسه، ومحاولة جعله خليفة للمسلمين يحكمهم مدى الحياة، وله ان يخلف من شاء بعده!! والترابي هو الذي كان يعد في تغييرات دستورية، لتستوعب مثل هذه البيعة الغريبة، التي عقدوها للنميري إماماً للمسلمين.. وحزب الترابي هو الذي نظم المسيرة المليونية، لتأييد قوانين سبتمبر الغبراء، التي واجهها الأستاذ محمود، وأزالها بالفداء العظيم، قربى عند الله.. وحين أسقط الشعب نظام نميري الفاسد، وقوانينه الجائرة، كان الترابي من ضمن من أدانها!! ففي باب التأييد جاء (الترابي: مرحلة التطبيق الأسلامي في السودان وصلت إلى درجة أقرب إلى تحقيق العدل الإسلامي الناجز بعد ان انتهت حركة العدالة التقليدية إلى شلل) (الرأي العام 25/9/1984م).. وبعد سقوط نظام نميري بأيام، قال «أراد نميري ان يستغل الاسلام واراد ان يحرر دستوراً يجعل له الولاية حتى بعد الحياة، ولكن وقفنا في وجه تلك المسودة السوداء، واراد ان يتجرد من الشورى، فطلب البيعة..» (محاضرة بجامعة الخرطوم 15/4/1985م). والمحبوب يبرئ الترابي، من تأييد الحكم على الاستاذ، بادعاء سماحة فكرية له، تجعله يرفض حد الردّة، فيقول «والغريب طبعاً ان موضوع المرتد ردّة فكرية بحتة جاءت في اجابة عن سؤال تقدمت به الاستاذة اسماء محمود محمد طه وقالت للترابي إن القرن العشرين هو الذي ضغطك وجعلك تخرج عن الشريعة باسم تحكيم الشريعة وقال لها الترابي إن المرتد ردّة فكرية بحتة لا يقتل وفي اليوم التالي أصدر الجمهوريون كتاباً قالوا فيه إن الترابي يخرج على الشريعة باسم تحكيم الشريعة» (الصحافة 31/8/2008م). ولا أود أن أقف عند هذه الصورة الدرامية، التي تحكي عن كتاب، يخرج في اليوم التالي عن حوار تم اليوم!! خاصة وان المحبوب لم يذكر لنا أين ومتى تم هذه الحوار.. ولكن المهم فيه، انه قرر ان الترابي لا يوافق على قتل المرتد ردّة فكرية، فإن كان ذلك كذلك، فلماذا أعاد موضوع الردّة في قانون العقوبات الحاضر، والذي وضع باشرافه، في بداية عهد الإنقاذ؟! يقول المحبوب «وكنا ندخل في مجادلة يومية مع الفكر الجمهوري تبدأ من التاسعة صباحاً حتى الثانية ظهراً وقوفاً على ارجلنا» (المصدر السابق) وهو إنما كان يفعل ذلك، لأنه كان يرى في الفكر الجمهوري، خطراً ماحقاً، يهدد حركتهم، بالنقد المتواصل لها، فقد قال «وانا شخصياً كنت كثيراً جداً ما أجادل الشيخ الترابي حول خطر الفكر الجمهوري» (المصدر السابق). وكان الترابي على حد زعم المحبوب، لا يرى في الفكر الجمهوري أي خطر «وكان يقول لي إن الفكر الجمهوري مثل الحشرة التي تتواجد دائماً لكنها تعيش ثلاثة أيام لتموت» (المصدر السابق). والسبب في أن الترابي لم ير خطورة الفكر الجمهوري، كما رآه تلاميذه الذي درجوا على حوارهم، هو قلة تجربة الترابي في الحوار العام، واعتماده على تقديم ندوات، يعطي فيها السائل دقائق، مما أعطى تلاميذه، ممن حاوروا الجمهوريين، من أمثال المرحوم محمد طه محمد أحمد، تميزاً واضحاً عليه.. على ان المحبوب رغم ما ذكر من حواره للجمهوريين، وضح ان فهمه للفكرة فهم سطحي، يتسم بالغرض، وينأى عن الحياد والموضوعية.. وهو لعدم تصوره للفكرة، على حقيقتها، يظن أنه يمكن ان يؤثر عليها، لو أوهم القارئ، ان الطيب صالح، يتفق مع فهمه لها!! فيقول: «يعود محمود محمد طه من ثقافته الماركسية وثقافته في الفكر الفرويدي وثقافته في الفكر الرأسمالي يعود ليصبح شخصاً يتبنى بالكامل الفكر الغنوصي الصوفي الذي تحدث عنه ابن عربي وابن سينا. نظرية الإنسان الكامل. وانا كتبت الى الطيب صالح وكان يقول لي إن محمود محمد طه بإمكانه ان يركز على الاجتهاد الفكري ولا يذهب الى مسألة ترك الصلاة. وقلت له إن محمود محمد طه لا يدعو الى ترك الصلاة ولكن له رأي في الصلاة ذات الحركات. فقال لي هذا هو الموضوع». (المصدر السابق). أما سطحية المحبوب، فتظهر في تصوره أن ما ورد في الفكرة الجمهورية عن الاشتراكية، أو نقدها للتحليل النفسي الغربي، أو نقدها للرأسمالية والشيوعية، هو نتاج ثقافة الأستاذ محمود واطلاعه على هذه الأفكار، وتأثره بها.. وهو يرى أن يتحدّث شخص، عن هذه العلوم الحديثة، ثم يتفق مع الفكر الصوفي في مفاهيم روحية، وكأنه تناقض، مع أن التوحيد في الفكرة الجمهورية يجمع بين كل المفاهيم بلا تفاريق.. والأستاذ محمود إنما وزن هذه الأفكار، بميزان التوحيد، الذي أخذه من فهمه للقرآن. أما الغرض في حديث المحبوب، فيظهر في إيراده موضوع الإنسان الكامل، وكأنه موضوع غامض، أتى به ابن عربي، من أفكار غنوصية غامضة، ونقله عنه الأستاذ محمود. مع أنه موضوع بسيط، وهو من جوهر الدين، قال تعالى عنه «ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم» وهذه تعني أرفع صور الخلق.. والاستاذ محمود لم يأخذه من ابن عربي، وإنما أخذه من القرآن، وأورد من تفاصيله، ما لم يورد ابن عربي، ولا غيره. ومن حق الكاتب الكبير الطيب صالح علينا، ألا نقبل ما نقله لنا عنه المحبوب، من سوء فهم، إدعى انه صححه!! فالاستاذ محمود لم يدع الى ترك الصلاة، كما انه ليس له رأي في الصلاة ذات الحركات، كما قرر المحبوب، وهو يظن انه يصحح الطيب صالح. كل ما هناك ان الاستاذ محمود يعتبر الصلاة الظاهرية، معبراً الى الصلاة الحقيقية، ووسيلة اليها. والصلاة الحقيقية عنده، هي التي يكون صاحبها حاضر القلب مع الله.. وهذا الفهم مأخوذ من القرآن، قال تعالى: «ويل للمصلين* الذين هم عن صلاتهم ساهون».. فسماهم مصلين لأنهم يؤدون الصلاة في مظهرها ولكنهم اثناء تأديتها، قلوبهم ساهية غافلة عن الله.. ولما كان حضور القلب مع الله هو الصلاة الحقيقية، فكأنهم في صلاتهم الظاهرية، عن صلاتهم الحقيقية غافلون.. ولقد فصل الاستاذ محمود كيفية تحقيق هذا الحضور، في كتابه «تعلموا كيف تصلون» فليراجع. وفي محاولة لتضليل البسطاء، واستعدائهم على الفكر الجمهوري، يقول المحبوب «فمحمود محمد طه يعتقد أنه شخص أعطاه الله الفهم عن القرآن وأذن له في الكلام، وانه شخص ينبغي ان يلقَّب بأرفع ألقاب العصر وهو لقب الأستاذ وهو شخص استثنائي بهذا المعنى وإذا كان هنالك شخص أعطى نص وشخص آخر أعطى فهم النص في اطار بيئة متقدّمة بما لا يقاس عن البيئة التي جاء فيها النص الاول فهو متقدّم على الرسول صلى الله عليه وسلم» (المصدر السابق). الحقيقة أن الفرق كله في مدى تحقيق التوحيد.. لأن الفهم الذي يناقش به المحبوب، قد أعطاه له الله، وإن لم يشعر هو بذلك لقلة توحيده!! قال تعالى: «ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء» وقال «واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم».. فإذا فهم الاستاذ محمود فهماً من القرآن، فإلى من يريده المحبوب ان ينسبه؟! وما هو الإذن الإلهي، سوى اليقين بأن الفهم حق، وأن الناس محتاجون له؟! وهل حقاً ان لقب أستاذ يحتاج الى شخصية استثنائية، أم أنه لقب عادي، يقال لكل شخص، في مجال العمل العام؟! ألم أذكره هنا، في حق المحبوب نفسه، رغم اختلافي مع افكاره؟! ومع ذلك، فإن أحدهم سأل الاستاذ محمود: هل نقول لك شيخ أو استاذ؟! فقال الاستاذ: قول لي محمود وبس!! أنا الألقاب ما احب ان اسمعها من تلاميذي أو من غيرهم!! فما ظن المحبوب بهذا؟! والمقارنة التي حاول المحبوب ان يعقدها، بين النبي (صلى الله عليه وسلم)، وبين الاستاذ محمود لا تستقيم من عدة وجوه. منها ان النبي عليه السلام اوتي النص والفهم، ولكنه فصل ما هو في مستوى الأمة، في ذلك الوقت، واجمل بتبليغ القرآن، وبحاله، ما ينفعنا نحن اليوم. ومنها ان الاستاذ محمود، ما علم ما علم، إلا بالسير على نهج سنة النبي الكريم، ومعلوم ان أجر النبي يزيد بأجر المهتدين من أمته.. ولهذا لن يلحق أحد بالنبي (صلى الله عليه وسلم)، دع عنك أن يتقدم عليه كما ذكر المحبوب دون ورع، وهو يحاول هدم الفكرة الجمهورية بكل سبيل.