إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
بين الأستاذ محمود ودكتور الترابي (1-3)
تعقيب على الأستاذ المحبوب عبد السلام
د. عمر القراى
لم أعثر على الجزء الأول من الحوار، الذي أداره الصحافي النابه، الأستاذ علاء محمود، مع الأستاذ المحبوب عبد السلام، العضو البارز في حزب المؤتمر الشعبي، واسماه «حول المشروع الذي كان»، في إشارة ذكية لفشل تجربة جماعة الإسلام السياسي، وفشل مشروعها الحضاري الذي ساق الى انشقاقها لوطني وشعبي. ولعل الجزء الأول، قد ركز على الخلاف بين الوطني والشعبي. وهو خلاف لا أحب ان اقف عنده، ولكن ما اود التعليق عليه، هو محاولة الاستاذ المحبوب عبد السلام، للمقارنة الجائرة بين الأستاذ محمود محمد طه ود. حسن عبد الله الترابي. فقد حاول ان يظهر الترابي كمفكر، ويبرر جرائمة كحاكم سابق، على اساس انها مجرد قراءات خاطئة للواقع السياسي، أو اجتهادات فكرية له أجر واحد ان أخطأ فيها، وله أجران ان اصاب!! ثم انه يصور الترابي، وكأنه رجل ديمقراطي، يدعو أتباعه للتفكير الحر، ويقبل أن يختلفوا معه في الرأي. وهو بذلك يبرئه تماماً من كل ما حدث في عهد الإنقاذ، منذ قيامها وحتى المفاصلة. ويحمل المؤتمر الوطني وحده، ما جرى من انشقاق في الحركة الإسلامية. ثم أنه بلغ حدّاً من التضليل، والتزوير لوقائع التاريخ، جعله يقرر ان الترابي لا علاقة له باغتيال الاستاذ محمود، وهو لم يشارك فيه، وانه لم يكن منزعجاً من فكر الاستاذ محمود بل يعتبره كالحشرة!!
ومن ناحية أخرى، حاول المحبوب ان يصور للقراء، انهم في الحركة الإسلامية، وتحت قيادة الترابي، لم يتعرضوا للفكرة الجمهورية، لأنهم يتفقون مع الترابي في تقييمه للأستاذ محمود، على أساس أنه رجل غريب الأطوار. وأن الاستاذ محمود يدعي مقاماً دينياً كبيراً، ويعتقد أنه شخص استثنائي، وانه الانسان الكامل، الذي ورد ذكره في الفكر السلفي... إلخ. وهذه كلها محاولات لصرف أذهان الناس، عن الإطلاع على فكر الاستاذ محمود، وهي لا تختلف عنما درج عليه الوعاظ والأئمة، حين يرون أن هنالك مجموعة معجبة بأفكار الأستاذ محمود. فبدلاً من توجيههم للإطلاع على كتبه، حتى يتأكدوا بأنفسهم من مبلغ مفارقتها، إن كان بها أي مفارقة، فإنهم يدعونهم لمقاطعتها، باعتبار انها كفر، أو رجس من عمل الشيطان... وهذا الموقف في صرف الناس عن فكر الأستاذ كان دائماً موقف الترابي نفسه. فقبل عام تحلقت مجموعة من الطلاب حول د. الترابي خارج قاعة الشارقة في شارع الجامعة، وسأله أحدهم قائلاً «يا دكتور كان عندك كتاب عن المرأة في الإسلام ذكرت فيه عبارة هي: المرأة في نفسها كإنسان وفي المجتمع كمواطنة مساوية تماماً للرجل في نفسه كإنسان وفي المجتمع كمواطن». فسر الترابي سروراً عظيماً وذكر لهذا الشاب انه فهم كتابه تماماً. ولكن الشاب قال له: ولكن هذه العبارة بالنص منقولة من كتاب الأستاذ محمود محمد طه!! فما كان من الترابي إلا أن انزعج وخرج من طوره، وأخذ يصيح بصوت عالٍ «انتم لا تعرفون محمود فقد ادعى انه إله وادعى النبوة!!». والشاب الذي حدثت معه هذه القصة موجود، وزملاؤه الشاهدون عليها موجودون.
وحتى يظن القراء أن المحبوب على علم بالفكرة الجمهورية، يقول إنه كان من المجادلين للجمهوريين، في أركان النقاش في الجامعة لساعات طويلة، ويوهمهم ضمنياً، بأنه كان يطرح مثل آرائه هذه عن الأستاذ محمود، وعن الفكرة في نقاشه مع الجمهوريين، ولا يجد عليها إجابات منهم. وفي هذا السياق، يذكر المرحوم محمد طه محمد أحمد، ليظن القراء، انه قد كان متابعاً للحوار مع الجمهوريين مثل محمد طه!! ولو كان المحبوب عبد السلام، قد تابع نشاط الجمهوريين، وشارك في نقاشاتهم مثل محمد ط ، لانتهى الى احترام الفكرة، والإشادة بزعيمها، وتفضيله على جميع الزعماء السياسيين، كما فعل محمد طه في أخريات أيامه، حين وظّف صحيفة الوفاق، لنشر مآثر الاستاذ، وافكاره، والدفاع عنها.
إن وضع المحبوب داخل الحركة الإسلامية، في الاساس، قد كان وضع تهميش، وهو ما دفعه حين وقع الخلاف، لأن ينحاز إلى المؤتمر الشعبي. فقد نشأ المحبوب كأخ مسلم في جامعة القاهرة فرع الخرطوم، في السبعينيات. وقد كان وضع جامعة القاهرة الفرع في ذلك الوقت أقل من وضع جامعة الخرطوم. إذ لا يدخلها إلا الذين عجزوا من أن يدخلوا جامعة الخرطوم. ولقد كانت الحركة السياسية الطلابية، تنطلق دائماً من جامعة الخرطوم، التي توجه كلا من جامعة القاهرة الفرع والجامعة الإسلامية. لهذه الأسباب كان الإتجاه الإسلامي، في سطحية ظاهرة، يفضل كوادره التي تعمل في جامعة الخرطوم، ويهتم بها أكثر، حتى ان الترابي كان يجئ كثيراً لجامعة الخرطوم، ويقدم محاضرات، ولا يزور الفرع الا نادراً. لهذا عندما جاءت الإنقاذ، أعطت المناصب العليا، والوزارات، ومناصب الأمن، لزملاء المحبوب، من الذين كانوا في السبعينيات طلاباً بجامعة الخرطوم، ولم تعط المحبوب شيئاً!! وحين وقعت المفاصلة، لم يكن للمحبوب رؤية فكرية واضحة، ولعله نظر للفريقين فرأى أنه لو انحاز للمؤتمر الوطني، كما فعل معظم زملائه من خريجي جامعة الخرطوم، فإنه سيقع ضحية التمييز بين الخريجين، وعندها لن يعطى أي منصب ذا بال، بل لن يشعر به أحد.. ولما كان متطلعاً للزعامة، ممنياً نفسه بأن يصبح مفكراً مثل الترابي، فقد فضل الانحياز للترابي، وظن أنه بموقفه المخالف للكثيرين، ربما نال حظوة من الترابي، يذكرها له لو آلت إليه الأمور مرة أخرى.. وكما أخطأ المحبوب حين دخل تنظيم الأخوان المسلمين، وظن أنهم يمكن أن يطبقوا الشريعة الإسلامية، وأخطأ حين كان يعتبر سيد قطب المفكر الإسلامي الأوحد، ثم اكتشف أنه كما قال في مقابلته هذه «وفعلاً سيد قطب قال هذا الكلام واذا أردت ان تؤسس لفكر تكفيري من «في ظلال القرآن» هذا ممكن ممكن جداً ان تجد نصوصه واضحة جداً لسيد قطب تؤسس لذلك». (الصحافة 31/8/2008م) فإنه يخطئ الآن خطأً بالغاً، إذ يظن أن الترابي سيعتبره، لو قدر له أن يصل للسلطة. فإذا كان الترابي لم يرع علاقته، مع من هم أقدم صلات به من تلاميذه، ووصفهم بكل المساوئ، لمجرّد اختلاف المصالح، فهل يرعى للمحبوب إلّاً أو ذمة؟!
يقول المحبوب عبد السلام «وكنا نقارن أنفسنا في الجامعة بالفكر الجمهوري الفكر الجمهوري كان يقوم على الأستاذ محمود محمد طه ولا يمكن لجمهوري أن ينطق كلمة ما لم يراجع كتب الأستاذ أو يسأله مباشرة لكن الترابي حتى في أصول الفقه التي له فيها اسهام مهم جداً أشار إلى أن الفكر الإسلامي في أصله يتفاعل مع النص والواقع وعقل الإنسان وتجربته الشخصية ونسبيته، وكان يقول أنتم تريدون أن اكتب كتباً كما يكتب محمود محمد طه وان تستندوا إليّ. وكنا فعلاً نطلب ذلك في أول الجامعة وكان يقول أنتم إذا سألكم سائل في حلقة نقاش يمكنكم ان تجتهدوا وتفكروا فهو لا يحتكر الإجتهاد للعلماء ولا يعترف بطبقة اسمها العلماء» (الصحافة 28/8/2008م).
والحق أن الفكرة الجمهورية دعوة لبعث الإسلام من جديد، وهي تعتمد في ذلك، على الفهم الذي قدّمه الأستاذ محمود محمد طه، دون سائر الدعاة الإسلاميين.. وهي ليست مشروعاً سياسياً هدفه الوصول للسلطة، حتى يختلف فيه اتباعه، الى حد الغياب التام لأي مرجعية، ولأي مسؤولية. وليس حقاً أن الجمهوريين لا ينطقون بكلمة، إلا أذا رجعوا لكتب الاستاذ محمود. بل ان الكتب نفسها، كانت تطرح مواضيعها في جلسات مكثفة من الحوار، حتى يفهم الجمهوريون محتواها، ويقتنعوا به، قبل ان يدعوا الناس إليه. ولما كان الجمهوريون يفهمون فكرتهم حقاً، فقد حملوا الكتب يبيعونها في الطرقات، ويناقشون الناس في محتواها. فهل يستطيع المحبوب، أو أي شخص آخر من أعضاء تنظيمه، ان يحمل فتاوى الترابي في الشارع، ويحاور حولها الناس؟! وحين سأل الترابي تلاميذه هل تريدون أن أكتب لكم كتباً كما يكتب محمود محمد طه هل كان حقاً يعني ما يقول؟؟ ما هي الفكرة التي يعتمد عليها الترابي، ليكتب مثلما كتب الاستاذ محمود؟! ولو كان حقاً يقدر على ذلك، فهل يمنعه خوفه من أن يقلده تلاميذه؟! أما كان من الممكن ان يكتب، ثم يمنعهم من تقليده، ويدعوهم لمناقشة ما كتب. أنظر كيف يعلم الترابي تلاميذه المفارقة الدينية والأخلاقية (إذا سألكم سائل في حلقة نقاش يمكنكم ان تجتهدوا)!! لكن الاستاذ محمود، يقول لتلاميذه، إن الشرط لأن يدعوا أحدكم للفكرة الجمهورية، هو الإلتزام بأدب الآية الكريمة «قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون» فإذا سئل الجمهوري في حلقة نقاش، وهو لا يعرف الإجابة، فعليه ان يقول لا أعرف، بدلاً من أن يجتهد ويقول على الله ما لا يعلم حقه من باطله. هذا نموذج واحد، وسنسوق نماذج عدة، لنوضح أن هذين الرجلين، لا يمكن لعاقل ان يقارن بينهما. «هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون»؟!