إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
في التعقيب على مقال د. محمد المهدي بشرى (المثقف والسلطة: مصائر فاجعة)
الجمهوريون ومايو (4-4)
د. عمر القراي
نحن والسادات وعبد الناصر
يقول د. محمد المهدي بشرى (إن المعيار يختلف لدى الجمهوريين في النظر لعبد الناصر، وكما هو معروف، فقد وصل نميري للسلطة عن طريق انقلاب عسكري ونفس الشئ بالنسبة لعبد الناصر لكن الجمهوريين يقفون موقفاً عدائياً ضد عبد الناصر .... بل ان عبد الناصر في زعم الفكر الجمهوري هو المسئول عن الهزيمة التي لحقت بالعرب في حرب حزيران ... وعلى النقيض من هذا الموقف المتطرف ضد عبد الناصر نجد موقف الفكر الجمهوري تجاه السادات الذي كتب الجمهوريون عنه كتاباً بعد موته جاء في مقدمته " هذا كتاب السادات حياته واستشهاده وحياته بعد الاستشهاد، فقد أعطى السادات حياته لقضية السلام واستشهد وهو يدافع عن السلام " وهكذا يبدو واضحاً الكيل بمعيارين تجاه نميري والسادات من جانب وتجاه عبد الناصر من جانب آخر) ( السوداني 11/1/2008م).
وليس أدل على القراءة المبتسرة، والغرض المبيت من عبارة د. بشرى السابقة .. وإلا كان يفترض ان يورد طرفاً من الحجة التي بنى عليها الاستاذ محمود نقده لعبد الناصر، ثم بدلاً من كلمات وردت في مقدمة كتاب " السادات "، ما ضره لو قرأ في داخل الكتاب، واورد ما ساقه الجمهوريون، من أسباب لتأييدهم السادات، ثم علق على كل هذه الحجج، بما يفيد خطأها أو عدم موضوعيتها ؟!.
لقد كان عبد الناصر، رحمه الله، يستمد زعامته على العرب، من انه سيرمي اسرائيل في البحر، وكانت إذاعة صوت العرب، تذيع هذا التهديد والوعيد لإسرائيل، كل يوم، وتظهر بان العرب، وعلى رأسهم جمال، لا يبالون من حلفاء إسرائيل، بما فيهم الولايات المتحدة الأمريكية !! ولكن عبد الناصر، كان في الحقيقة، يخاف من أمريكا، أشد الخوف، ويبرر عدم مباغتته لاسرائيل بالضربة الأولى، بأنه لو فعل ذلك لضربته أمريكا !! ( قال السيد جمال في معرض الرد على تساؤلات من تساءل، لماذا انصاع لنصيحة الرئيس الامريكي فلم يبادر باطلاق النار؟ قال " المسألة الثالثة اننا بتحركنا واخذنا المبادأة لدفع الخطر عن سوريا كنا ندرك اننا، خصوصاً من وجهة النظر الدولية، ان نبدأ بالضربة الأولى في معركتنا المسلحة . ولو كنا فعلنا ذلك لكنا عرضنا أنفسنا لعواقب وخيمة تزيد عما كان في مقدورنا احتماله. ولقد كان اول ما سوف نواجه به هو عمل عسكري أمريكي مباشر ضدنا يجد الحجة والعذر من اننا اطلقنا الرصاصة الأولى في المعركة . واريد في هذا الصدد ان الفت نظركم الى نقاط هامة . أول نقطة التحذيرات الأمريكية ويمكن قرأتم عن هذه التحذيرات الامريكية في الصحف ولكن مستشار الرئيس الامريكي جونسون طلب سفيرنا في وقت متأخر من الليل في واشنطن وقال له انه فيه معلومات عند اسرائيل انكم حتهاجموا . وقال ان ده يعرضنا لوضع خطير وناشدنا ضبط النفس " وفي موضع آخر من هذا الخطاب نفسه يقول السيد جمال " في هذا الاجتماع ماحدش ابداً اتكلم عن الهجوم على اسرائيل مكنش في ابداً أي فكرة انو احنا حنقوم بعمل هجومي على اسرائيل . وزي ما وضحت من الأول اللي كان باين من كل تحليلاتنا ان أي عمل هجومي على اسرائيل حيعرضنا لمخاطر كبيرة أول هذه المخاطر هجوم أمريكا علينا نظراً للتصريحات اللي اعلنتها امريكا وقالت فيها انها تضمن حدود الدول في هذه المنطقة وكان باين لينا ان امريكا لما تقول انها تضمن حدود الدول في هذه المنطقة ولا تسمح بأي تغييرات في هذه المنطقة مكنش امريكا تقصد بهذا ابداً الدول العربية ولكن امريكا كانت تقصد بهذا اسرائيل كانت تقصد انو اذا حصل عدوان على اسرائيل ان امريكا حتنفذ التصريح اللي قاله الرئيس كنيدي قبل كده ان امريكا تضمن للجميع الحدود في هذه المنطقة على هذا الاساس مكنش في ابدا أي بحث عن موضوع البدء بالهجوم على اسرائيل ولكن عمليتنا كلها في القيادة المشتركة كانت عملية دفاعية وكان حشدنا في تقديرنا في هذا الوقت هي عملية ردع حتى لا تقوم اسرائيل بالعدوان على سورية " . هذه وتلك ما قاله السيد جمال عبد الناصر في ذلك الخطاب الذي القاه بعد الهزيمة بمناسبة العيد الخامس عشر لثورة الجيش المصري، ونحن نرجو ان يتعمق القراء هذه الاقوال وبخاصة قوله " كنا ندرك اننا، خصوصاُ من وجهة النظر الدولية، ان نبدأ بالضربة الأولى في معركتنا المسلحة . ولو كنا فعلنا ذلك لكنا قد عرضنا أنفسنا لعواقب وخيمة تزيد عما كان في مقدورنا احتماله . ولقد كان اول ما سوف نواجهه هو عمل عسكري أمريكي مباشر ضدنا يجد الحجة والعذر من اننا اطلقنا الرصاصة الأولى في المعركة " لماذا؟ يحدثنا السيد جمال فيقول "نظراً للتصريحات اللي اعلنتها امريكا وقالت فيها انها تضمن حدود الدول في هذه المنطقة .... كانت تقصد انه اذا حصل عدوان على اسرائيل ان امريكا حتنفذ التصريح " .
والسؤال الآن هو أليس غرض العرب المعلن على العالم دائماً، والقائم خلف عدم الاعتراف باسرائيل، وعدم الصلح معها، وعدم التفاوض معها، هو ان يمحو العرب دولة اسرائيل من الوجود في أرض فلسطين ؟ فاذا كنا نحترم ضمان امريكا لحدود إسرائيل، أو كنا نخاف امريكا الى حد نشعر معه اننا اذا خالفناها نكون " قد عرضنا انفسنا لعواقب وخيمة تزيد عما كان في مقدورنا احتماله "، فهل ننتظر يوماً تتخلى فيه امريكا عن هذا الضمان لحدود اسرائيل ؟ أم هل ننتظر يوماً يكون لنا فيه القوة العسكرية والسياسية والدبلوماسية بما يمكننا من مناهضة أمريكا ومن تحدي ضماناتها لحدود اسرائيل ؟ أم ان ضمان امريكا لحدود اسرائيل لا يكون ملزماً لامريكا الا اذا كنا نحن البادئين بالهجوم على اسرائيل، فنحن إذاً ننتظر ان تبدأنا اسرائيل بالهجوم،لنقوم بمباشرة محوها من الوجود في فلسطين، ونحن في عذر مديد أمام أمريكا ؟ فاذا كان التصريح الذي أشار اليه السيد جمال عبد الناصر، والذي ظهر انه يخشاه كل هذه الخشية، لم يكن جديداً من جانب امريكا، وانما يرجع الى عام 1950م، أفليس من الحق ان نتساءل هل كان السيد جمال عبد الناصر فعلاً يعني التهديد الذي يذيعه على العرب كل عام مرة أو مرتين ضد دولة اسرائيل ؟ أم هل كان يريد به الى بسط زعامته على العرب، وذلك باشاعة جو الخوف حولهم، واستغلال روح القطيع فيهم ؟) (محمود محمد طه : مشكلة الشرق الأوسط . امدرمان السودان 1967م ) . هذا موقف من عدة مواقف رصدها الاستاذ محمود لجمال عبد الناصر، في كتاب مشكلة الشرق الاوسط، وهي تبين بجلاء، كيف كان عبد الناصر يخدع العرب، ويضللهم، ويجعلهم يحتملون من عداوة الغرب، ما يجعلهم يقعون لقمة سائغة في فم الشيوعية الدولية، وكيف أن الاتحاد السوفيتي كان يغري العرب بعداوة اسرائيل في العلن، ويساندها ضدهم في السر. لقد لوح عبد الناصر بالحرب، وحين حان حينها، لم يحقق أي قدر من النصر .. ثم انه حتى بعد الهزيمة، عجز عن تحقيق السلام، وعن استرداد سيناء، التي أخذت من مصر بسبب الحرب، التي حدثت بسبب تراكم سياساته الخاطئة، منذ خطوة تأميم قناة السويس، ثم عدم الاعتراف بإسرائيل، وعدم قبول مبدأ التفاوض معها . لقد دعا الاستاذ محمود محمد طه العرب في ذلك الكتاب، إلى الاعتراف بدولة إسرائيل، والصلح مع اسرائيل، وضمان أمنها، والتعامل معها .. وفي مقابل ذلك تنسحب اسرائيل من الاراضي المحتلة، وتقام دولة فلسطين وفق قرار الأمم المتحدة بالتقسيم 1948م، ويتم إرجاع اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، وضمان الأمم المتحدة للوضع الجديد، مع إيقاف الهجرة اليهودية الى اسرائيل . ولكن العرب بزعامة عبد الناصر، عقدوا مؤتمرهم في الخرطوم تحت شعار " لاصلح ولا تفاوض ولا سلام مع اسرائيل"، فأين العرب اليوم مما دعاهم إليه الأستاذ محمود عام 1967م ؟!
إن تأييد الجمهوريين للسادات، ينطلق من انه كان صادقاً مع نفسه، وشجاعاً أمام أعدائه .. فقد بادر بالهجوم على اسرائيل في حرب 1973م، ولم يتردد خوف تدخل امريكا، وحين تدخلت بالفعل، وهو يعلم انه لن يقدر على مواجهتها، ذكر ذلك، ولم يصر على حرب تسوق إلى الخسران .. ثم اتجه إلى السلام، وحرر بذلك الأرض، التي عجز عبد الناصر عن تحريرها، فكان كما وُصف بطلاً للحرب وللسلام . فاذا كان الاستاذ محمود قد طرح السلام مع إسرائيل، وكان عبد الناصر يرفضه، وجاء السادات وحققه، فهل يعتبر تأييد السادات ونقد عبد الناصر كيلاً بمكيالين ؟! أقرءوا مرة أخرى، قولة د. محمد المهدي بشرى: (وهكذا يبدو واضحاً الكيل بمعيارين تجاه نميري والسادات من جانب وتجاه عبد الناصر من جانب آخر) (السوداني 11/1/2008م). فهل حقاً قرأ هذا الكاتب المراجع بدقة، وحللها بذكاء، فوصل إلى هذه النتيجة الممعنة في السطحية ؟! أم أن هذا حكم مسبق، لا علاقة له بما كتب الجمهوريون، مبعثه خلافه معهم، من منطلق يساري، يناصر عبد الناصر ويعارض نميري والسادات ؟.
خاتمة:
لقد تعرضت الفكرة الجمهورية، إلى كثير من التشوية، والتكفير، والتحريض، من أناس لم يقرءوها وإنما حكموا عليها بأقاويل معارضيها .. ولم تظفر الفكرة، حتى اليوم، بنقد موضوعي، يعتمد على نصوصها، ويناقش حججها، فيقبلها أو يفندها، ويبين خطأها . وكان يمكن لدكتور محمد المهدي بشرى، باعتباره كاتباً، وعضو اتحاد الكتاب، أن ينال ذلك الشرف – شرف نقد الفكرة الجمهورية بموضوعية، لولا أن الغرض المبيت، في النيل منها، أعجله، ودفعه إلى مثل هذا التعليق ..
لم يخرج نقد د. بشرى عن إبداء حيرته، واستغرابه، من كون مفكر في قامة الأستاذ محمود محمد طه من الاستنارة، عرف بدعوته للحرية والديمقراطية، يؤيد نظاماً عسكرياً دكتاتورياً مستبداً . ولكنه كغيره لم يقف عند الحجج، التي ساقها الأستاذ محمود والجمهوريون، لينظر في حقها من باطلها .. ولو كان د. بشرى محايداً، أو مفكراً عميقاً،يستشعر المسئولية في كل ما يكتب، لأورد مثلاً قول الجمهوريين، أن مايو جاءت بمثابة إنقاذ لهذا الشعب، لأنها أوقفت مؤامرة الدستور الإسلامي المزيف، التي كان يقودها تحالف متخلف يجمع بين الطائفية وجبهة الميثاق الإسلامي، كان سيحكم بدكتاتورية دينية، تتعذر معارضتها، ثم أن مايو سارت في طريق التنمية، وأوقفت نزيف الدم في الجنوب، وحلت الإدارة الأهلية، ووضعت أسس الحكم الإقليمي، ولهذا فان نظام مايو أفضل من هذا البديل الذي كان يتربص به .. ثم رد على هذا الزعم، كأن يقول مثلاً انه لم تكن هنالك مؤامرة لفرض الدستور الإسلامي المزيف، أو أن ذلك الدستور كان إسلاميا، ولم يكن تزييفاً للإسلام، أو أن تحالف الطائفية وجبهة الميثاق، أفضل من نظام مايو رغم كل شئ ..الخ
وكان يمكن أن يورد حديث الجمهوريين، عن أن السودان كان مستهدفاً من الشيوعية الدولية، وان الحزب الشيوعي السوداني كان مخلب قط لهذا التآمر الدولي، وانه حين سيطر على نظام مايو، وضح رغم قصر الفترة، انه لا يختلف من جبهة الميثاق في الاعتداء على الحريات، مما يدل على انه لو استمر فستكون دكتاتورية خطيرة، لأنها ستفتح الباب من اجل حمايتها، لتدخل الاتحاد السوفيتي .. وكان يمكن أن يرد على هذه الحجج مثلاً بان يقول أن هذه مبالغة، فليس هناك خطر شيوعي دولي يهدد السودان، وان الحزب الشيوعي لو قدر له الحكم فسيحترم الحريات العامة، وانه لذلك أفضل من مايو ...الخ فإذا ما فند كل الحجج التي برر بها الجمهوريون تأييدهم لمايو،يمكن أن يخلص من ذلك إلى أن تأييد الجمهوريين لمايو لا مبرر له، وبناء على ذلك يمكن له أن يبدي ما شاء من الدهشة والاستغراب !!.
لقد ذكرت في بداية هذه المقالات، أنني لم اطلع على أوراق مؤتمر اتحاد الكتاب السودانيين، وأني لأرجو أن اعثر عليها، وان اقرأ أيضا تعليق ناقد لورقة د. بشرى، حتى لا يعتبر اتحاد الكتاب راضياً عن مستواها في الصياغة، وفي المحتوى، فتتحقق بذلك خيبة أملي في اتحاد الكتاب السودانيين، الذي كنت دائماً أرجو له التقدم، واحترم فيه أعزاء لي، جديرين بالاحترام والتقدير.