إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (٦)
خالد الحاج عبد المحمود
الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته
الحرية بين القيد والاطلاق:
الاسلام يرى ان الاصل فى الحرية الاطلاق، واننا حين نتحدث عن الحرية، من حيث هى، وفى أى مستوى من المستويات، انما نتحدث عن الاطلاق، من حيث لا ندرى، ذلك بان الحرية المقيدة انما هى نفحة من نفحات الاطلاق، تضوعت على اهل الارض بقدر طاقتهم على احتمالها .. فكأن القيد ليس اصلا، وانما الاصل الاطلاق .. وهذا يمكن ان يفهم من مجرد التعريف الأولى للحرية بأنها عدم القيد .. فما القيد الا لازمة مرحلية تصاحب تطور الفرد من المحدود الى المطلق .. فالله تعالى وحده هو الحر حرية مطلقة، وحريتنا نحن من حريته، والمطلوب منا ان نسير من محدودية حريتنا الى اطلاق حريته، وهذا ما يعنيه التخلق باخلاق الله الوارد في قول المعصوم (تخلقوا باخلاق الله انربى على سراط مستقيم) وقوله تعالى (كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب، وبما كنتم تدرسون) .. فالاطلاق، بالنسبة لحريتنا نحن، اطلاق صيرورة، وليس اطلاق تحقيق.. فالحرية الفردية المطلقة بالنسبة للانسان، تعنى ان كل قيد هو قيد مرحلى ينبغى ان نتجاوزه، وغايتنا فى ذلك الاطلاق، والاطلاق لا يمكن الاحاطة به، والا اصبح محدودا، ولذلك السير فى مجال الحرية سير سرمدى ، ليست له نهاية .. بهذا المعنى الحرية فى الاسلام مطلقة، وهى حق لكل فرد بشرى ، من حيث انه بشرى، بصرف النظر عن ملته او عنصره، وهو حق يقابله واجب ، فلا يؤخذ الا به، وهذا الواجب هو حسن التصرف فى الحرية ، فلا تصبح الحرية محدودة الا حيث يصبح الحر عاجزا عن التزام واجبها .. وقد وظف الاسلام كل الوسائل لتحقيق حرية الانسان، بمعنى انه وظف كل الوسائل لتحقيق عودة الفرد الى ربه .. فهذه العودة انما هى الحرية نفسها، لان العودة، كما سبق أن ذكرنا، لاتكون بقطع المسافات، وانما بتقريب الصفات من الصفات، واعلى الصفات الحرية .. ومن وسائل العودة، والتى هى نفس وسائل الحرية: وسيلة الاسلام، ووسيلة القرآن، ووسيلة الجماعة .. والجماعة لها حرية، وهى بمثابة قاعدة الهرم حين تكون حرية الفرد هى قمته.
ولما كانت الحرية، مسئولية، فهى بنت القيد الضرورى لها، فلا يمكن ان تتحقق الا من خلاله.. فالحرية مقيدة بحسن التصرف فيها، فاذا تم حسن التصرف، فهى تزيد وتزدهر، واذا تم العجز عن حسن التصرف، فتتم مصادرتها، فى حدود هذا العجز على ان المصادرة ، مصادرة مؤقتة، الغرض منها سوق الفرد ليحسن التصرف فى المرة القادمة .. ولذلك محك الحرية الاساسى هو حسن التصرف فيها، فهذا ما ينبغى ان يشغلنا، لانه هو سبيلنا الوحيد لحريتنا .. والذى يجعلنا عاجزين عن حسن التصرف فى الحرية، انما هو الجهل، ونحن لفرط جهلنا، نحن جهلنا، ونكره المعرفة الا اذا جاءت عن طريق يناسب هوانا، يقول تعالى: (كتب عليكم القتال، وهو كره لكم، وعسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى ان تحبوا شيئا وهو شر لكم، والله يعلم وانتم لا تعلمون) .. "عسى ان تحبوا شيئا وهو شر لكم" تشير الى انانيتنا .. فنحن نحب انفسنا، ونحب كل ما يصدر عنها من حماقات. وكل فرد بشرى هو بالضرورة التكوينية انانى .. وكماله انما يكمن فى هذه النشأة الانانية، فهى التى تعطيه الدافع للعمل، كما تعطيه التطلع للكمال والسعى اليه..
وانانية كل انانى على مستويين: مستوى الانانية الضيقة ، المتسفلة ، الجاهلة .. وهذه هى التى تقوم عليها حياة الحيوان فينا ، وهى تجعل الفكر خادما لاغراضها ، وهذا هو مستوى عقل المعاش الذى تحدثنا عنه .. والمستوى الثانى للانانية هو مستوى الانانية الواسعة ، المتسامية ، العاقلة.. وهذا هو مستوى حياة الانسان ، ومستوى عقل المعاد ، (النفس العليا) .. فالانانى الجاهل قد يرى مصلحته فى امور تخالف مصالح الجماعة ، واذا اقتضى الامر فهو قد يضحى بمصلحة الجماعة ليصل الى ما يظنه مصلحته هو .. وهذا ليس له من سبيل الى الحرية، الا بالتخلص من انانيته الجاهلة، حتى يحسن التصرف فى الحرية ، فيستحقها ، بحسب احسان تصرفه هذا، اما صاحب الانانية العالمة، فلا يرى مصلحته الا فى امور تستقيم مع مصالح الآخرين، وهكذا يعمل، وبذلك يحسن التصرف فى الحرية ، فهو دائما يسمو فى مراقيها .. ونهج الاسلام كله يقوم على التسامى من الانانية السفلى، الى الانانية العليا، وفى ذلك يقول المعصوم، مثلا (لايؤمن احدكم حتى يحب لاخيه ما يحب لنفسه) ويقول: (لايؤمن احدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به) هواه يعنى انانيته الجاهلة.. ويقول: (ان اعدى اعدائك نفسك التى بين جنبيك) .. "نفسك التى بين جنبيك" تعنى نفسك السفلى او نفسك الدنيا، حيث الانانية الجاهلة، فى مقابل نفسك العليا، او نفسك الاخرى، التى يرجع اليها كاف الخطاب فى "ان اعدى اعدائك".. فكأنه قال ان اعدى اعداء نفسك العليا ـ الانانية العالمة ، نفسك الدنيا ـ الانانية الجاهلة.. وفى هذا المعنى يجئ قوله تعالى: (ان هذا القرآن يهدى للتى هى اقوم)، يعنى النفس العليا، وكذلك معنى قوله تعالى: (من اهتدى فانما يهتدى لنفسه، ومن ضل انما يضل عليها) .. فما دمنا فى منطقة الانانية الجاهلة، فان حريتنا لابد أن تقيد، لمصلحة مجتمعنا، ولمصلحتنا نحن ايضا، ويجب ان يكون القيد وفق قانون دستورى، حتى لا يصبح مصادرة دائمة للحرية .. والقانون الدستورى هوالذى يوفق بين حاجة الفرد للحرية الفردية المطلقة، وحاجة الجماعة للعدالة الاجتماعية الشاملة، ولذلك هو وسيلة تنظيم الحرية فى المجتمع.
الحرية فى المجتمع:
مما تقدم يتضح ان الحرية فى الاسلام، تقع فى مستويين: مستوى الحرية فى المجتمع، وهذه تقوم مقام الوسيلة للحرية الفردية.. فهى تقتضى ان ينظم المجتمع بالصورة التى تعين كل فرد على تحقيق حريته الفردية، وهذه وحدها هى الحرية الحقيقية، وهى لا تتحقق بمجرد قيام المجتمع الحر، فلا بد لتحقيقها من المجهود الفردى.. والمجتمع الحر، فقط يهيئ المناخ الصالح، الذى يستطيع فيه كل فرد ان يعمل لتحيق فرديته.. فالحرية فى المجتمع حرية افقيه وفيها تنتهى حريتك، حيث تبدأ حرية الآخرين.. اما الحرية الفردية، فهى راسية فيها يتسامى الفرد على نفسه، فيعمل على التخلص من قيودها الداخلية والخارجية، بصورة دائمة .. ولا يوجد انفصال بين المستويين من مستويات الحرية، وانما هما يكملان بعضهما البعض والاولى منهما قاعدة للثانية .. وفى كلا المستويين، من مستويات الحرية ، الفرد هو المدار .. فالحر فى المستوى الاول، هو الذى يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط ان لا تتعدى ممارسته لحريته فى القول، او العمل، على حريات الآخرين فان تعدى تعرضت حريته للمصادرة، وفق قوانين دستورية .. واضح من هذا التعريف انه يتحدث عن الحرية الفردية فى اطار المجتمع .. والاساس فى الحرية فى جميع مستوياتها هو الفكر الحر، والمشار اليه بعبارة "يفكر كما يريد"، وهى عبارة تفيد ان فكره نابع من ارادته الحرة، فهو لا يقوم على املاء من الخارج، من المجتمع، ولا على املاء من الداخل، من النفس ورغائبها واهوائها.. فالحر فى هذا المستوى، هو من حقق وحدة ثالوث الفكر، بتطابق الفكر والقول والعمل، وهذا هو معنى العبارة يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر ويعمل كما يقول .. وهذا هو بداية اعادة الوحدة للبنية البشرية، وهو غرض التوحيد الاساسى، ولذلك هو يستهدفه منذ البداية .. فتوحيد القوى المودعة فى البنية البشرية انما يكون، بوحدة الفكر وآلية الاشارة بقوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون؟ كبر مقتا عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون).. فهذه الوحدة، هى بداية فض التعارض القائم بين العقل الواعى، والعقل الباطن، عن طريق فهم التعارض القائم بين الفرد والمجتمع، وبين الفرد والكون، وقد سبقت إلى ذلك الإشارة.
والشرط فى تعريف الحرية، فى هذا المستوى الأول، والذى جاء فى العبارة "على شرط ألا تتعدى ممارسته لحريته فى القول، أو العمل على حريات الأخرين"، هو معيار حسن التصرف فى الحرية فى هذا المستوى، وهو الحد الأدنى بالنسبة لمعيار حسن التصرف في الحرية.. فمن عجز عن الوفاء بهذا الحد الأدنى، صودرت حريته فى المستوى الذى عجز فيه، بغرض حفظ حق الآخرين فى الحرية، وبغرض تربيته حتى يحسن التصرف، فيزاد له فى حريته.
هذا التصور للحرية، يختلف بصورة جذرية، عن التصور اللبرالى لها، وجوهر الخلاف يجئ من غياب التصور السليم فى اللبرالية لعلاقة الفرد بالكون، وعلاقة الفرد بالمجتمع، وبالتالى خطأ تصور الفردية.. فالفردية فى المفهوم اللبرالى، فى بعض جوانبها الأساسية تكاد تكون على النقيض من مفهوم الفردية فى الإسلام!!
فالفردية فى المفهوم اللبرالى، تقوم، كما يقول جون إستيوارت مل على إعتبار أن "الإنسلن سيد نفسه، له مطلق الحرية على جسده وعقله" ـ رلجع كتاب "عن الحرية" وهذا هو العمل المعتمد، عمليا ونظريا، لمفهوم الفردية فى اللبرالية.. وهو معنى شديد الخطأ، وشديد الخطورة، على الفرد، وعلى المجتمع، وهذا ما ظهر بصورة عملية، من واقع الحضارة الغربية السائدة، وهو الأمر الذى سنناقشه فى موضعه، عندما نتحدث عن الحرية فى الحضارة الغربية.. فالمفهوم اللبرالي للحرية الفردية يقوم على أن "سلطة المجتمع التي يمثلها سيادة العرف، وسلطة الحكومة التي يمثلها القانون، هما ما يحملان على تقرير مبدأ واضح، وهو لايجوز التعرض لحرية الفرد الا لحماية الغير منه، أو لمنعه من الاضرار بغيره، فهو الغاية الوحيدة التي تبرر السلطة التي تحكمه، وتنتهي دونها كل غاية حتى وان كانت لحماية الذات، فلا يجوز ارغام الفرد على انتهاج سلوك معين بحجة حمايته من الاضرار بنفسه او ماله.." ـ مل ـ فالسلوك الفردي في المعايير اللبرالية، لا يدان لأنه سلوك خطأ في ذاته، وانما لاخلاله بحقوق الغير، يقول مل: "وهذه الأفعال اذا تجاوزت الذات الى الاخلال بحقوق الغير وقعت تحت طائلة الجزاء الأدبي، لا السلوك ذاته، ولكن لما يترتب عليها من أذى الآخرين" ويقول مل: "لا يتناول هذا المقال مايسمى حرية الارادة وهي تتعارض مع ما يدعى خطأ بفلسفة الضرورة، ولكن بحث في الحرية المدنية والاجتماعية.." .. ولكن الحرية المدنية والاجتماعية لا يمكن فصلهما عن حرية الارادة.. والمفارقة الأساسية، تأتي من أن اللبرالية، ترى أن الانسان سيد نفسه، له مطلق الحرية على جسده وعقله..؟! .. فالانسان "سيد نفسه" هذه لا يمكن التدليل عليها، بل الأدلة كلها ضدها.. فالانسان لم يوجد نفسه، ولم يكن له دور في ايجادها، فهو دخل الحياة دون ارادته، ويخرج منها دون ارادته.. وهو لم يوجد شعرة واحدة من من شعر جسده.. فهذه السيادة المزعومة لا تعطيه الحق في الاضرار بنفسه أو بماله.. فالأمر المنطقي، والموضوعي، هو أن الاضرار بأي نفس، هو اضرار يستوجب الجزاء، حسب طبيعة هذا الاضرار، لا فرق في ذلك بين النفس والغير.. فليس من حق الانسان أن يقتل نفسه مثلا، ولا يختلف الجرم في قتل نفسه، عن الجرم في قتل غيره، فالنفس واحدة.. وقد يتوهم اللبرالي أن من يقتل نفسه لا يمكن معاقبته، وذلك لأن الله عنده ليس في الصورة، وكذلك اعتبارات حياة اخرى، يتم فيها الجزاء.. وحتى المال ، الفرد ليس حرا في ان يتصرف في ماله كما يشاء، بأن يتلفه مثلا.. والخلل هنا ايضا في مفهوم الملكية.. فالمالك لايملك عين المال، وانما يملك المنفعة به، فالملكية هنا ملكية ارتفاق، وليست ملكية عين.. فالانسان عندما يموت تصير ملكية ماله لغيره.. ولا يمكن لانسان أن يحرق ماله مثلا، أو يمزقه، دون أن يعاقب.. فلو كانت الملكية ملكية عين، كان ينبغي الا يعاقب، حسب التصور اللبرالي للحرية..
ونحن لنا الى مفهوم اللبرالي للحرية عودة، عندما نتحدث عن الحضارة الغربية، وسنرى أن ازمة الحضارة الغربية الأساسية هي ازمة حرية، وهذا هو نفس معنى قولنا ان ازمة االحضارة الغربية ، ازمة اخلاق.. فالحرية والاخلاق لا ينفصلان.. وازمة الحرية في الحضارة الغربية تتوكد في الممارسة العملية، بأكثر مما هي في التنظير الفلسفي، هذا مع أن التنظير الفلسفي نفسه شديد الخطأ.. والحرية في الغرب في أحسن أحوالها، لا تتعدى، ولا يمكن لها أن تتعدى، الحرية في المجتمع، وذلك بحكم قصور الاطار المرجعي.. فالحرية الفردية بالمعنى الذي نتحدث عنه في الاسلام، تكاد تكون غائبة تماما، هذا، مع أنها هي أصل الحرية.