إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (٤)
خالد الحاج عبد المحمود
بسم الله الرحمن الرحيم
الأستاذ محمود في الذكرى الثانية والعشرين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته
(4)
الفكر
"قديماً هام الناس بسر الحياة الأعظم .. هاموا بسر القدرة، و بسـر الخلود .. فجـــد الفلاسفة وراء ما أسموه بحجر الفلاسفة، و بحث الكيماويون عما أسموه إكسير الحياة.. وحلم القصاصون بخاتم المنى، و بالفانوس السحري.. و لم يظفـر أي من هؤلاء بشئ مما كانوا يبتغون.
قل لهؤلاء جميـعاً ، و لغير هؤلاء ، من سائر الناس، إن سـر الحياة الأعظم ـ إن إكسير الحياة ـ هو الفكر .. الفكر الحر .. الفكر القوي، الدقيق ، الذي يمـلك القدرة على أن يفلق الشعرة ، و يملك القدرة على أن يميز بين فلقتيها.. وهذا الفـكر إنما هو ثمرة العقل المسدد ، المروض، المؤدب بأدب الحق ، وأدب الحقيقة".. من أقوال الأستاذ محمود
العقل عقلان:
في اول نشرة للحزب الجمهوري، الذي تزعمه الأستاذ محمود محمد طه، والصادرة في 26 اكتوبر 1946، جاء قولهم: "ولسنا ندعو، أول ما ندعو، إلى شئ ، أكثر ولا أقل ، من إعمال الفكر الحر فيما نأتي، و ماندع من أمورنا ـ الفكر الحر الذي يضيق بكل قيد ، و يسأل عن قيمة كل شئ ، وفي قيمة كل شئ .. فليس شئ عنده بمفلت عن البحث، وليس شئ عنده بمفلت عن التشكيك .. فلا يظنن أحد أن النهضة الدينية ممكنة بغير الفكر الحر .. و لا يظنن أحد أن النهضة الإقتصادية ممكنة بغير الفكر الحر .. و لا يظنن أحد أن الحياة نفسها يمكن أن تكون منتجة ممتعة بغير الفكر الحر"
ووقت صدور هذا القول، لم تكن الدعوة الدينية قد تبلورت.. ولكن عندما تبلورت الدعوة الدينية زادت هذا القول توكيدا، وأعطت الفكر الحر الإطار المرجعي، ونموذج الإرشاد الذي يوجهه، كما أعطته المنهاج الذي يروضه ويحرره، ثم هو منهاج ينبع من نموذج الارشاد، واطار التوجيه المذكور، وهو (التوحيد).. والتوحيد كما سبق أن ذكرنا، في دعوة الأستاذ محمود للإسلام، يدخل في كل شئ.. هو يدخل في كل شئ بالمعنى الحرفي للعبارة.. وحسب التوحيد فإن العقل عقلان: عقل كلي، قديم، وهو المسيطر على جميع العوالم، علويها، وسفليها.. وعقل جزئي، محدث، وهو ما يتمتع به الفرد البشري العاقل.. وكمال العقل الجزئي، المحدث، أن يطابق، ويوافق، العقل الكلي القديم، والقرآن هو قانون العقل القديم، وأثره، بترسمه ويستدل عليه، ولذلك قلت، آنفا: أن القرآن منهاج للحياة، على أسلوب ينبه في العقل البشري القوى الكامنة، التي إن هي إلا قبس من العقل الكلي، القديم، (الله) ـ رسائل الاول ـ والإنسان (آدم)، هو عقل الوجود الحادث، وقد سبق أن أشرنا الى الحديث النبوي (أول ما خلق الله العقل) والى الحديث الآخر (اول ما خلق الله نور نبيك يا جابر) وقلنا أن الحديثين بمعنى واحد.. يقول الأستاذ محمود: "وآدم في الوجود متنازع بين الملائكة من أعلى، والأبالسة من أسفل، فهو برزخ الوجود كله، وهو في ذلك عقل الوجود أيضا.." !! ويقول: "وعقل آدم، في آدم، متنازع بين (إرادة الحياة) وهي النفس، من أسفل، (وارادة الحرية) وهي الروح، من أعلى، وهو أيضا برزخ.." ـ الرسالة الثانية ـ
لما كان الإنسان، برزخا بين الملائكة الأعليين ، والأبالسة الأسفلين، فهو نقطة التقاء النور والظلام ـ العقل، والشهوة ـ وقد امر العقل في الإنسان، بترويض الشهوة.. وعلى هذا قام التكلييف، وبه ظهر الإنسان.. انسانية الإنسان تحدد بدخول (القيمة) في حياته.. تلك القيمة التي جعلته يفارق خط الحيوان، حيث الغرائز والشهوات هي التي تسيره، الى خط الإنسان، حيث الغرائز تخضع لسيطرة، وتوجيه العقل.. ومن هنا يجئ المستويين من الحياة، اللذين تحدثنا عنهما: مستوى الحياة السفلى، حياة الحيوان في الإنسان، ومستوى الحياة العليا ـ حياة الإنسان.. وعندما نقول أن الحياة هي الغاية، انما نعني حياة الإنسان.. فحياة الحيوان وسيلة لحياة الإنسان ـ وعندما وصلت البشرية، الى مرحلة العقل المكلف، وبعد تطور طويل، اصبح العقل عند الإنسان يقع في مستويين، عقل المعاش، وهو مستوى النفس الحيوانية، وعقل المعاد وهو مستوى النفس الإنسانية.. والاختلاف بينهما اختلاف في الدرجة، فعقل المعاد هو نفس عقل المعاش ، بعد رياضته وتهذيبه.. وعقل المعاد هو عقل الدين، الذي ما جاء الدين الا لابرازه، وتحقيق انسانية الإنسان عن طريقه.. يقول الاستاذ محمود: "وبدخول هذا القانون ـ قانون التكليف ـ انقسم الإنسان.. وبدأ سيره نحو الإنسانية، مبتعدا عن الحيوانية.. وكل مشقة يحتملها في هذا الاتجاه، انما هي منزلة قرب من انسانيته، تمثل في حد ذاتها، منزلة بعد عن حيوانيته.." ـ تعلموا كيف تصلون ـ ويقول الاستاذ محمود من مخطوطة الديباجة، عن المستويين من العقل: "مرحلة الجسد والعقل المتنازعين، هي مرحلة الكبت، التي نعيشها الآن والتي بها ارتفع الإنسان فوق مرتبة الحيوان ـ فوق مرحلة الجسد الصرف ـ والفضل في ذلك لله، ثم للعقل .. والعقل عقلان: عقل معاش، وعقل معاد.. فأما عقل المعاش فهو القوة الدراكة فينا، التي استلها، من الجسد، الخوف من القوى الرهيبة التي هددت الحياة، بالموت الذريع، منذ اول النشأة.. فهو من اجل ذلك، قلق، مضطرب، خفيف.. يجسد الخوف.. ويجسد الحرص.. وهو موكل بمجرد حفظ حياة الحيوان.. وحركته ليست فكرا، وانما هي قلق، وخوف مما يجئ به المستقبل المجهول.. هو غريزي، وليس مفكرا.. هو شاطر وليس ذكيا، وادراكه علماني وليس علميا، وقد وردت الاشارة لهذين قبل حين.. ومن هذا العقل يجئ الجبن والحرص، وحب الادخار، وكل مذام الصفات.. وأما عقل المعاد فهو ايضا القوة الدراكة فينا، وهو الطبقة التي تقع بين عقل المعاش، والقلب، وهو ايضا خائف، ولكن خوفه ليس عنصريا ساذجا، انما هو خوف موزون بالذكاء الوقاد الذي يملكه حين يفقده عقل المعاش الشاطر.. عقل المعاد موزون، رزين، وقور.. وهو ايضا موكل بحفظ الحياة، ولكنه لا يخاف عليها من كل ناعق، كما يفعل عقل المعاش وذلك لأنه يملك موازين القيم.. فهو قد يستهين بالخطر الماثل، في سبيل الأمن الدائم.. وهو قد يضحي باللذة العاجلة، ابتغاء اللذة الباقية ـ هو ينشغل بالحياة الاخرى اكثر مما ينشغل بالحياة الدنيا ـ عقل المعاد هو عقل الدين ـ هو الروح.. نحن لانفهم الدين بعقل المعاش، وانما نفهمه بعقل المعاد.. وعقل المعاش يتأثر بعقل المعاد ويؤثر فيه.. قال تعالى في العقلين: (الشيطان يعدكم الفقر، ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا، والله واسع عليم) الشيطان هنا عقل المعاش، والرحمن عقل المعاد.. والشيطان داخلنا وخارجنا.. خارجنا هو الروح الشرير الذي لا يأمر بخير، وداخلنا هو عقل المعاش، الذي ينصت للشيطان، ويأتمر بأمره.. وإنما هو داخلنا لأننا خلقنا من الطين المحروق بالنار، في حين خلق الشيطان من النار.. (خلق الإنسان من صلصال كالفخار * وخلق الجان من مارج من نار) .. وعقل المعاش حين يؤثر على عقل المعاد يزلزله، ويخرجه عن وقاره، ويذهله عن قيمه.. وانما من اجل تهذيب عقل المعاش جاءت الشريعة.. فهي بوسيلة العبادة، وبوسيلة العقوبة، تسير عقل المعاش فيتهذب ويلتقي بعقل المعاد.."
وعن تهذيب المنهاج لعقل المعاش يقول الأستاذ من الديباجة: "والعبادة ثلاث مستويات: فكرية، وقولية، وعملية.. وأعلى مستويات العبادة العملية الصلاة.. وهي تشمل الفكر، والقول، والعمل منذ بداياتها.. والصلاة تهذب عقل المعاش، بصورة أوكد من كل عبادة، لأنها تحارب الجولان بين الماضي والمستقبل، وتروض المصلي على أن يعيش اللحظة الحاضرة.." ويقول عن الرسول الكريم ومنهاجه: "وقد جاء التشريع، والرسول والقرآن، من أجل تهذيب عقل المعاش، وتطمينه من الخوف العنصري الذي هو الأب الشرعي لكل آفات السلوك. ولقد جسد الرسول القرآن، فعاشه في جميع حركاته، وسكناته.. فتحرر من المخاوف الذي يسوقها عقل المعاش، فكان لا يخاف الرزق، من أن يجئ، وكان ينفق ما يزيد عن حاجته الحاضرة، وكان يأخذ من الدنيا زاد الراكب، وزهد في كل شئ عدا الله، فتحرر من حب الادخار، وحب السلطة، وحب التعالي على الناس، ومن استرقاق العناصر أياه، واخلص عبوديته لله: ( قل إن صلاتي، ونسكي، ومحياي، ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له.. وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين) هكذا كان، ونحن نرفع نموذجه للناس ليهذبوا عقول معاشهم؛ ويفضوا الى عقول معادهم على نحو مما فعل.." ونحن لنا عودة للحديث عن تهذيب عقل المعاش، وعن الفكر، وتحرير الفكر، عندما نتحدث عن المنهاج.
الفكر وطبيعة الوجود:
إن الطبيعة الإنسانية تتميز عن سائر الخلائق بالعقل ـ القوة الدراكة ـ كما سبقت الى ذلك الاشارة، وهوعامل التطور والترقي الأساسي عند البشر.. وهو في مرحلة الإنسانية القادمة، سيكون من بعد الله، عامل التطور الوحيد، وذلك عندما ندخل مرحلة التطور العقلي الصرف ـ مرحلة الإنسانية ـ ومنذ البداية قررنا أن طبيعة الإنسان وطبيعة الوجود طبيعة واحدة في الأصل، وقد سبق أن قررنا أن الكون، كون روحي، ذو مظهر مادي، ونذكر هنا أن الكون صنع من (مادة الفكر)... كل شئ نصنعه نحن لا يتم صنعه إلا بعد أن يكون قد نزل ثلاث نزلات: فنزلة الى مرتبة العلم، وأخرى الى مرتبة الارادة، وثالثة الى مرتبة القدرة.. وقد تكون هذه ثلاث النزلات منفصلة عن بعضها البعض، ومتميزة، وقد تكون مندمجة ومتصلة، ولكنها موجودة ثلاثتها.. وصناعتنا في أطوار بروزها تحكي صناعته تعالى، غير أن صنعنا نحن ناقص، وذلك لمكان نقص ذواتنا، ونقص عقولنا، ونقص فكرنا، ونقص علمنا، ونقص ارادتنا، ونقص قدرتنا.. ونحن، الى ذلك، عندما نصنع شيئا لا نصنع المادة التي نصنع منها، وإنما نتصرف في مادة ناجزة، فإن لم تكن مادة ناجزة فإننا لا نعدو أن نجمع تكوينها من أجزاء ناجزة لا دخل لنا في صنعها، وما ينبغي لنا، وما نستطيع..
"والذات القديمة علمها قديم، وإرادتها قديمة، وقدرتها قديمة ..وهي لا تعلم بعقــل كأحدنا وإنما تعلم بذاتها، وتريد بذاتها، وتقدر بذاتها .. وهي لم تصنع العالم من مادة سابقة وإنما صنعته من لدنها .. قال تعـالى في ذلك: (يأيها الناس اتقوا ربـكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها) فإن هذه النفس الواحدة، هي نفسه، تبارك، وتعالى .. فالعالم هو تجسيد علم الله – هو تجسيد فكر العقل الكلي، المحيط، والمطلق، في ذلك – وإنه لحق أن العالم قد صنع من مادة الفكر، ومن أجل ذلك جاءت كرامة الفكر .. ولم يجعل الله هاديا في شعاب ظلمات العالم غير نور العقل القوي الفكر .. وإنما من أجل تقوية الفكر أرسل الله الرسل، وأنزل القرآن، وشرع الشرائع قال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر، لتبين للناس، ما نزل إليهم، ولعلهم يتفكرون) فكأن العقل، إذا روض، وأدب بأدب الشريعة، وأدب الحقيقة، (أدب الوقت)، أصبح شديد القوى، دقيق الفكر، نافذه.." - القرآن ومصطفى محمود -