إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
زعم السيد القاضي، أننا مثل الأخوان المسلمين، في كل شئ، حتى في الموقف من الآخر، وتكفيره، وحتى في العنف، وقد تمّ الرد عليه في ذلك، فما هي نقاط اللقاء الأساسية بيننا وبين هذه الجماعات، وما هي نقاط الخلاف الأساسية .. نحن وهم، كفرق إسلامية، نلتقي في أركان الإسلام، وأركان الإيمان، ولكننا حتى في إطار ما نلتقي فيه نختلف إختلافات أساسية .. وأهم هذه الخلافات:
(1) هم يرون أن الغاية من الخلق هي عبادة الله، ونحن نري أن الغاية هي العبودية لله، وكلانا يعتمد علي فهم نفس النص القرآني: (وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون) .. هم يفسرون النص حسب المعني الأولي الظاهر، ونحن نقول في تفسير (ليعبدون)، أي ليعبدوني كما أمرتهم علي لسان رسلي، ليكونوا عبيداً، كما أمرتهم علي لسان عزتي حيث قلت: (إن كل من في السموات والأرض، إلا آتي الرحمن عبداً * لقد أحصاهم وعدهم عداً) .. فحسب فهمهم العبادة غاية، وحسب فهمنا العبادة وسيلة للعبودية، والفرق شاسع جداً بين التصورين، وكل نواحي المعرفة والسلوك تتأثر بهما ..
(2) لا إله إلا الله، هي كلمة التوحيد الأساسية، وهي عندنا خير ما جاء به جميع النبيون، كما أخبر المعصوم، وهي عندنا وعندهم واحدة في مبناها، ولكنها تختلف إختلافات أساسية في معناها .. فهم يرون أنها تعني: لا معبود بحق إلا الله .. ونحن نري أنها تعني: لا فاعل لكبير الأشياء وصغيرها إلا الله، فالمعني الأول، عندنا، هو المعني الذي كان يناسب زمن عبادة الأصنام، والمعني الذي نقول به، يتضمن معناهم ويتجاوزه .. والفرق شاسع جداً بين المعنيين .
(3) علي الإختلاف حول الأمرين أعلاه، تقوم خلافات أساسية .. فالتوحيد عندهم علم نظري، يستطيع أن يحققه كل إنسان بعقله .. فالتوحيد عندنا علم تطبيقي ينبني علي العمل .. التوحيد صفة الموحِِد – بكسر الحاء – الإنسان .. أما الله تعالي فهو أصلاً واحد ولا يحتاج لمن يوحده، وإنما نحن نحتاج أن نوحد ذواتنا لندرك واحديته .. وبذلك أصبح الدين عندهم تنظير، والدين عندنا عمل وتطبيق ..
(4) كلمة إسلام عندنا وعندهم واحدة ولكن، هم يرون أن الإسلام هو العمل بأركان الإيمان، وأركان الإسلام، كغاية في ذاتها .. ونحن نري أن الإسلام هو أن نعمل بأركان الأيمان، وأركان الإسلام، بالصورة التي تعيننا علي ترويض إرادتنا الحادثة، لتعمل وفق إرادة الله القديمة، وبذلك نسلم له إرادتنا، وبهذا المعني نكون مسلمين، وهذا الأمر لا يتحقق تلقائياً، وإنما بمجهود كبير في إدخال الفكر في العبادة والمعاملة .
(5) هم يبنون علي تفيسر القرآن، ونحن نبني علي تأويله، والتأويل يشمل التفسير، ولكن التفسير لا يشمل التأويل، ومن أهم مجالات التأويل، آيات النفوس (سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم).. فلغياب التأويل عندهم البعد الداخلي عندهم غائب، ومعظم حقائق القرآن الأساسية كذلك غائبة .
(6) أساس العبادة عندنا تجويد الهيئة والحضور .. فالصلاة هي هيئة وروح، والروح في الصلاة هي الحضور فيها، حتى إذا تمت الهيئة دون أي حضور لا تكون صلاة، وهذا معني الحديث (الصلاة صلة بين العبد وربه) .. والحديث (رب مصل لم يقم الصلاة) .. (رب مصل لم تزده صلاته من الله إلاّ بعداً) .. (ورب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش) .. (ورب قارئ للقرآن، والقرآن يلعنه)، فعندنا هيئة العمل وروحه – الحضور فيه – كلاهما مهم، وإذا خرجت الروح من العمل، أصبح جسداً بلا روح، ولا قيمة له .. مقابل كل هذا، ولأن العبادة عندهم غاية في ذاتها، لا يهتمون بالحضور في العبادة .. والعبادة عندهم كم .. يحسب الواحد منهم صلواته، وصيامه وحجه .. وكل هذا عندنا إذا لم يقم علي الحضور، فلا عبرة به، ولا نتيجة له، كما تشير إلي ذلك الأحاديث التي أوردنا طرفاً منها .. فالعمل في الدين عندهم موضوع سكوني (إستاتيكي) والعمل عندنا موضوع ديناميكي، في حركة لا تهدأ .. فالعبادة عندنا ينبغي إذا تمت تأديتها بتجويد أن تنعكس علي صاحبها، وعلي معاملته للمجتمع، وهذا هو المحك .. والعبادة عندهم كما ذكرنا غاية في ذاتها، وتقاس بكمها .. وعلي ذلك رغم أن هيئة صلاتنا وصلاتهم واحدة، ولكن الفرق شاسع جداً بين الصلاتين- راجع كتاب تعلموا كيف تصلون- .
(7) هم يدعون لتطبيق الشريعة .. ونحن ندعو لتطبيق السنة – عمل النبي في خاصة نفسه – وعندنا أن الإسلام لا ييقوم بتطبيق الشريعة، وإنما يقوم ببعث السنة، فهذا هو المستوي من الدين الذي يناسب حكم الوقت، ولذلك ندعو إلي تطوير التشريع من آيات الفروع إلي آيات الأصول .. والفرق شاسع جداً ، بين المستويين، بالنسبة لتحقيق التوحيد، وبالنسب لتنظيم المجتمع .
(8) بما أننا نعمل علي تحقيق العبودية لله، فإننا نعمل علي ألا تكون لنا رائحة تسلط علي أحد من خلق الله، لأن ذلك ينقص من عبوديتنا .. وإنتفاء حب السيطرة هو المحك العملي لتحقيق العبودية، ومظهره في القانون، والسلوك العام هو رفع الوصاية، إلا علي الأطفال القصر .. وهم لأن أمرهم بقوم علي الشريعة وعلي العبادة، يعتبرون أنفسهم أوصياء علي الآخرين، ودينهم وصي علي غيره من الأديان، ومن هنا يجئ تكفير الآخر والعنف به .. وهذا ما تجري عليه الممارسة في إطار واسع وبصور بشعة .
(9) هم يرون أن واجبهم الأساسي هو إقامة دولة الإسلام، كما يرونها، وإذا لم يفعلوا ذلك يكون دينهم ناقصاً، بل حتى كفاراًَ (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) .. ولما كانت الشريعة لا تقوم علي الديمقراطية، فدولتهم تقوم على الوصاية، علي الدكتاتورية، ويمكن أن يتم المجئ إليها عن طريق الإنقلاب العسكري .
نحن نعتقد أننا غير مكلفين كأشخاص أو كتنظيم بإقامة الدولة، أو حتى فرض رؤيتنا الدينية علي الآخرين .. وإنما نحن مكلفون فقط بإقامة الدين في أنفسنا (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ، إذا إهتديتم) .. ونحن لسنا أوصياء علي غيرنا، كما هو الأمر في أصول القرآن: (وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر) .. وعندنا لا يطبق الإسلام عل المجتمع، إلا شخص، صاحب خصوصية علاقة بالله، يكون مأذوناً منه، مأموراً منه بذلك .. وهذا لا يكون بعد ختم النبوة، إلا عيسي والمهدي، المبشر بهما .. فعملنا الأساسي هو أن نعيش الدين في أنفسنا، وأن ندعو له، ونبشر به، وأن نتكافل، ونتعاون، نحن ومن يقنع بدعوتنا بالصورة التي تعيننا علي أن نكون رفقاء سفر، وبذلك نجعل طريق الرب ممهداً، وهو وحده الكفيل بتطبيق دينه في الأرض ... وعلي هذا الفهم فإن طلب السلطة الزمنية، بإسم الدين، دليل كافٍ علي مفارقة الدين، ما لم يكن الطالب يزعم أنه المهدي أو المسيح .. فإن زعم ذلك – ومن حقه أن يفعل – هو مطالب بالدليل، مع ملاحظة أن المسيح عندما يأتي من أهم الدلائل عليه، أنه لا يمكن الخلاف حوله، كما سنبينه في موضعه .
المهم أن التكليف بإقامة الدين، علي المجتمع، لا يكون إلا من قبل رسول، يكلف من قبل الله، بصورة شخصية ومباشرة، وقد كان هذا هو حال الرسل في التاريخ .. وكل من يدعي هذا الأمر، يسأل، من الله، ومن الناس: أ الله أمرك بهذا، أم علي الله تفتري!؟ ولا يكفي في هذا الأمر الخطير، الفهم الشخصي للنصوص العامة، فواضح في هذه الحالة، أن التكليف فردي، فالله تعالي لا يسألني لم لم تقم الدين في الآخرين، وإنما يسألني: لم لم تقم الدين في نفسك .. لذلك أي طلب للسلطة بإسم الدين هو في الواقع إستغلال للدين لأغراض الدنيا، وصاحبه ينبغي أن يكون متهماً بذلك إبتداءاً، حتى يثبت أن الله أوكل إليه أمر أن يقيم فينا الدين، وإحكامه، نحن معشر البشر الآخرين .
الدين والوطن:
كتب السيد القاضي، وكأن الفكرة الجمهورية، حزب سياسي، بالمعني الضيق للسياسة، بمعني أنها حزب، يسعي إلي السطة في السودان، وفي الوقت الحالي، كبقية الأحزاب السياسية ويطرح نفسه للإنتخابات، وهذا غير الحق، فالحزب الجمهوري لم يسع للسلطة، ولم يشترك في أي إنتخابات، في العهود الديمقراطية، ولم يكن ذلك في نيته أساساً.. بل أكثر من ذلك حدث أن الأستاذ محمود، أوقف النشاط الخارجي، وركز علي النشاط الداخلي في التربية والسلوك، خشية أن يزيد عدد الجمهوريين، قبل أن تنضج النواة، فيأتي من يظن أن الحركة حركة سياسية، فينحرفوا بالفكرة بالأغلبية الميكانيكية.. فالحزب الجمهوري، حزب سياسي بمعني أن الإسلام يشمل السياسة، ولكن السياسة لا تشمل الإسلام.. فلو أبرز السيد القاضي هذه النقطة في كتاباته، كان سيظهر خلل كتاباته للكثير من قرائه .
يقول القاضي: (ومشروع الفكرة الجمهورية لتوحيد السودان هو تعميم الإسلام واللغة العربية ..) هذا قول غير صحيح، ولم يرد في جهة من تراث الفكرة .. فالفكرة الجمهورية داعية لوحدة السودان منذ 1946م، وهي وحدة لا يوجد فيها أي شرط بسيادة الإسلام، أو اللغة العربية، وقد أوردنا النصوص في مساهمتنا الأولي، نورد منها هنا: (ولكن الحزب الجمهوري الذي يسعي إلي تحقيق وحدة السودان، أولاً وقبل كل شئ يقف اليوم أمام صخرة الجنوب وقد عقد النية علي إزالتها عن طريق الوحدة، بالغا ما بالغ أمرها)!! هذا هو الحال حتى منشور (هذا أو الطوفان)، والذي إنبنت عليه المحاكمة 1985م .. ولم يشترط الحزب الجمهوري، في أي يوم إنتشار اللغة العربية، كشرط لإنتشار الإٍسلام – وقد سبق الرد علي هذه النقطة – هذا تخريج من تخريجات القاضي التي عهدناها في كتابته هذه العجيبة.. الحزب الجمهوري هدفه نشر الإسلام في العالم، وليس جنوب أو غرب السودان، ولكنه لا يفرض شيئاً، وإنما يبشر بدعوته .
يقول القاضي أن خيار الفكرة الجمهورية الأول هو الإسلام، وهذا حق، ولكن ما يريد القاضي أن يبنيه عليه هو الباطل، يقول السيد القاضي: (الفكرة الجمهورية (دينية، وليست وطنية) تقول الفكرة الجمهورية إنها معنية (بالإسلام والسودان)، ولكن عملياً خيار الإسلام قد استغرق كل وقت الفكرة، ومع كامل إحترامي وتبجيلي للفكرة الجمهورية إلا أنني أري أنها قدمت العربة علي الحصان، ولو أنها قالت (السودان والإسلام) لنجحت في رسالتها) .. كنا نتهم بالكفر، والخروج علي الإسلام، وهذه المرة التهمة هي أننا معنيون بالإسلام، ولا شئ غير الإسلام!؟ يقول القاضي عن الفكرة: (فهي معنية بالبعث الديني، وإحياء السنة بعد إندثارها، ودستورها القرآن، وبرنامج العمل الداخلي لديها هو كتاب (طريق محمد ...).. الحمد لله علي ذلك .. هذا قول حق، وهو من إيجابيات السيد القاضي رغم أنه أراد به غرضاً سلبياً، فهذا الذي أوردناه عن القاضي هو من المآخذ عنده!! هل تقديم الإسلام علي الوطن هو تقديم العربة على الحصان!؟ كيف!؟ القاضي لا يذكر تعليلاً، وكأن الأمر عنده من البداهة بحيث لا يحتاج إلي برهان، مع أن العكس هو الصحيح، فالإسلام أشمل من الوطن، لأنه دين للإنسانية جمعاء، وليس ديناً لشعب بعينه، ولأنه قضية ملازمة للإنسان حتى بعد أن تنتهي الأوطان.. فالوطن أمر متعلق بدورة هذه الحياة الدنيا، في حين أن الإسلام موضوعه السرمد، فهو يصحب الإنسان، عبر كل دورات الوجود.. ولا يوجد أي تعارض بين الإسلام، والوطن إلا في ذهن القاضي.. وقد خدم الجمهوريون الوطن خدمة جليلة من خلال التوعية والتربية، والتصدي لقضاياه منذ الأربعينات، وحتى الثمانينيات من القرن الماضي.. ويكفي أن الأستاذ محمود كان أول سجين سياسي في الحركة الوطنية في الأربعينيات وأنه إستشهد في سبيل الوطن.. ولكن يبدو أن خدمة الوطن عند القاضي، تعني السعي للسلطة، وهذا قطعاً، لم يكن من أهداف الأستاذ محمود وتنظيمه، ولو كانت السلطة من أغراضه، فقد كان يملك من التاريخ الوطني، ومن المواهب، ما يميزه علي غيره في الوصول إليها، ولكنه كان أزهد فيها، من زهده في الدنيا.. يبدو أن السيد القاضي حتى الآن لا يفهم أبعاد القضية الدينية، بدليل أنه الآن يدعو الجمهوريين، ليتركوا الإسلام للسياسة!؟ وهذا أمر جد عجيب!! أسمعه يقول: (قناعتي أن بإمكان الحزب الجمهوري، في دولة السلام، بعد إنتصار تحالف المهمشين، أن يقدم حزباً (وطنياً) يضم شماليين وجنوبيين، ومن الشرق والغرب، يستند في برنامجه علي تحقيق البرنامج الوارد في منشور(هذا.. أو الطوفان)، وكتاب (أسس دستور السودان) وبالطبع فإن هذا الحزب لن يكون معنياً بالبعد الديني من الفكرة الجمهورية، المضمن في رسالة الصلاة، وتعلموا كيف تصلون، وطريق محمد، والرسالة الثانية، لأن هذه الكتب كانت معنية بإخراج أمة المسلمين والإسلام الأخير، بالطبع سيسترشد الحزب بكتب التطوير.. قناعتي أن الساحة السودانية بحاجة إلي النشاط الجمهوري ببعده الوطني...)!؟ هكذا!! السيد القاضي صريح كل الصراحة، في دعوة الجمهوريين، ليتركوا الدين ويتفرغوا للسياسة!! ولكن إذا ترك الجمهوريون كل الذي تريدهم أن يتركوه، فلن يكونوا جمهوريين، فما تطالب بتركه هو كل الفكرة الجمهورية.. بل (طريق محمد) صلي الله عليه وسلم وحده، هو كل الفكرة الجمهورية، خل أن تضيف إليه الرسالة الثانية، وتعلموا كيف تصلون، ورسالة الصلاة .. ولكن ما هي الحجة التي قدمتها لإقناعهم بترك الدين للسياسة!؟ هل هي قناعتك أن الساحة السودانية محتاجة للنشاط الجمهوري ببعده الوطني..!؟ ولكن هذا أمر غير مقنع تماماً، بل هو معكوس تماماً.. فالساحة السودانية محتاجة للجمهوريين، وغير الجمهوريين، محتاجة لكل سوداني مخلص محب لوطنه، ولكن قيمة الجمهوريين الأساسية، لأنفسهم في المكان الأول، وللسودان في المكان الثاني، هي في البعد الديني، الذي تريد أن تبعده.. فالأزمة الأساسية في الحياة، وفي السياسة بالذات، هي أزمة قيم، أزمة أخلاق.. والجمهوريون، وقد وصفتهم أنت بقولك (الجمهوري في إيجاز جامع مانع، صادق لا يكذب، متواضع ومهذب) – نرجو لهم أن يكونوا كذلك وأكثر من ذلك – الجمهوريون القدر الذي إكتسبوه من هذه القيم، هو نتيجة وثمرة للدين، فإذا إنصرفوا عن الدين للسياسة، فهم يدخلون السياسة بنفس مدخل غيرهم، فالسياسة بلا دين تفسدهم، كما أفسدت وتفسد غيرهم، وفي الواقع غيرهم يكون أكفأ منهم، لأن السياسة، كواقع، تقوم علي عدم الصدق، والإلتواء، وهذه القيم السلبية، يصعب علي جمهوري، تمرس علي التربية وفق منهاج الفكرة، أن يحقق فيها نجاحاً، حتى ولو أراد ذلك.. اسس دستور السودان، لا يقوم بصورته الصحيحة، إلا في إطار القيم الدينية التي أفرزته.. والأنظمة التي تقوم علي الديمقراطية والفدرالية موجودة في العالم، والإختلاف بينها وبين ما جاء في كتاب الأسس، هو إختلاف، في الروح، في القيم، في بعد التربية الدينية .
إن من لا يسعي في خلاص نفسه، لا ينتظر أن يكون له دور حقيقي في خلاص الآخرين، ففاقد الشئ لا يعطيه.. الأمر الذي يحيرني، هو ما موقفك الشخصي من الدين!؟ ما الذي جعلك بدل أن كنت علي الطريق، تصبح قاطعا للطريق!؟ هل أنت علي الإسلام، ووجدت ما هو أفضل من طريق محمد عليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم!؟ أم هنالك أمر خلاف ذلك!؟
آخر ما وصلت إليه هو أن تخرج الجمهوريين من الدين إلي السياسة، وبهذه البساطة!؟ في الدين، أو في السياسة، ما الذي تملكه، والذي يمكن أن يغري الآخرين بالإنضمام إليك!؟ دع عنك موضوع الدين، فحتى في أمر السياسة، التي أنت مشغول بها، أقول لك، إنك لن تستطيع أن تقدم شيئاً واحداً إيجابياً، وهو غائب عن المثقف السوداني العادي.
كونك تدعو الجمهوريين لترك الدين، هذا دليل واضح علي إنك لا تعرف حجمك.. فأنت تزعم أنك بصدد بناء السودان الجديد علي (أسس عقلانية قادرة علي فهم وتأويل النصوص بمعيار المواطنة) ..وتتحدث عن التغير عن طريق الجمهور .. فما هو الجمهور الذي ستحدث به ثورة التغيير عندك!؟ هل هو الجمهور السوداني، أم جمهور ستستجلبه من الخارج!؟ أما الجمهور السوداني، فقد حكمت عليه بأن أحزابه وتنظيماته، قد ماتت أو تحتضر، وأنه جمهور من الأقزام، فأنت تقول (ما نريد أن نؤكده هو أن ميدان السودان القديم بلا فارس، فالساسة – علي مستوي القيادة كلهم منذ عهد أكتوبر 1964م، وقد جربهم الشعب وخبرهم، إذا سلمنا أن الأفكار لا تموت، فإن الحزب الجمهوري- كنشاط- قد مات، والحزب الشيوعي يحتضر، وحزب البعث قد إنتهي بالقبض علي صدام وحصار سوريا بقانون محاسبة سوريا، وحزب الأمة الإتحادي مصابان بداء الإنقسام، بسبب عدم تداول السلطة داخل هذه الأحزاب) وتواصل (سنحاول في الحلقة القادمة إصدار شهادة وفاة من طبب شرعي حول أسباب وفاة أحزاب المركز..) وأنت لا تؤمن بعودة الأموات للحياة في هذ الحياة الدنيا.. إذن الأحزاب عندك قد ماتت، فأنت بصدد إصدار شهادة الوفاة.. ماذا عن جمهور هذه الأحزاب!؟ أنت تقول: (الأستاذ محمود عملاقاً، يتقدم أقزاماً من الجمهوريين، وأن الصادق المهدي عملاقاً يتقدم أقزاماً من الأنصار، والسيد محمد عثمان الميرغني عملاقاً يتقدم أقزاماً من الختمية والإتحاديين، وأن الترابي عملاقاً يتقدم أقزاماً من الأخوان.. إلخ) .. إلخ تعني كل بقية الأحزاب، والتنظيمات كذلك.. وأتباع الأحزاب هؤلاء الذين ذكرتهم، هم تقريباً كل السودانيين في السودان الشمالي.. وإذا كانت إلخ هذه تشمل الجنوب، فهذا يعني أنك تعتبر جميع السودانيين أقزاماً، مناقضاً بذلك قولة الفكرة، بأن الشعب السوداني شعب عملاق يتقدمه أقزام .. والفكرة عندما قالت ذلك بنت علي أن الله حفظ علي الشعب السوداني من أصائل الطبائع، ما لا يتوفر عند الشعوب الأخرى .. المهم، أنت تعتبر كل الشعب السوداني أقزاماً، وتقول، مباشرة قبل هذا النص: (ولكن إذا كان الشعب قزماً هنا تكون المشكلة، لأن العيب هنا سيكون عيبا خلقياً لا يتعالج إلا بتغيير الجينات بالمزج التدريجي بالتزاوج خارج الشعب القزم)!! .
فطالما أنك حكمت علي الشعب السوداني، أنه شعب من الأقزام، وقررت أن حالة القزمية هذه لا يمكن معالجتها إلا بالتغيير الجيني، فهذا يعني، بالضرورة، أن حالة الشعب السوداني ميئوس منها، ولا يمكن تغييرها إلا بالتغيير الجيني عن طريق التزاوج مع شعب آخر، علي المدي الطويل!! فهل منهج التغيير عندك للسودان الجديد، هو هذا التغيير الجيني!! ألم أقل أنك غير وفي لا لماضيك ولا لوطنك.. حتى خصائص الشعب السوداني الأصلية، التي لا خلاف حولها، تنكرها عليه!!
وهؤلاء الزعماء العمالقة، ألست أنت من حكم عليهم، بأن الشعب قد جربهم، ولا مجال لهم في سودانك الجديد!؟
ويتضح مما نقلناه لك من أقوال، أنك تري أنه ليس للسودان من فارس إلا أنت!!.
لقد قالت الفكرة الجمهورية عن ثورة أكتوبر السودانية: (أنها ثورة فريدة في التاريخ المعاصر، تمكن بها شعب أعزل من إسقاط نظام عسكري إستأثر يالسلطة مدي ست سنوات.. ثم كانت ثورة بيضاء، لم ترق فيها الدماء.. وكانت إلي ذلك، ثورة بغير قائد، ولا مخطط، وبغير خطباء، ولا محمسين للجماهير، وتم فيها إجماع الشعب السوداني رجالاً، نساء، وأطفالاً، بشكل منقطع النظير، فلكأنها ثورة كل فرد، من أفراد الشعب، تهمه بصورة مباشرة وشخصية).. مقابل هذا قال السيد القاضي: (وبالرغم من ان ثورة الخميني كانت ثورة شعبية لها قيادة واعية، ومدركة لأهداف الثورة، وقد تمت الثورة في زمن طويل، ومعارضة منظمة عرفت بثورة (الكاسيت) وهي ثورة أعظم من ثورة أكتوبر الشعبية السودانية 1964م التي مجدتها الفكرة الجمهورية)!! لماذا أعظم؟ القاضي يقرر ولا يذكر سبباً.. أنت قلت بنفسك أن ثورة الخميني لها قيادة واعية وهي الإمام الخميني، وهو عندك شخصياً صاحب الوقت، وأن التخطيط لها تم في الزمن الطويل عن طريق الكاسيتات، وهذا فرق أساسي بينها وبين ثورة أكتوبر، التي لم يكن لها قائد ولا مخطط، فهي ثورة شعبية صرفة إذا صحَّ التعبير .. وهذا هو الفرق الأساسي بين الإثنتين.. ثم أن ثورة الخميني كانت لها أهداف منذ البداية، هي في جملتها إقامة دولة الشيعة، وهي دولة بمقاييسك أنت شخصياً دولة متخلفة، لأنها دولة دينية، وتقوم علي فكرة غيبية هي فكرة الإمام الغائب، والذي وضع الدستور بإسمه، ومن يحكم إنما يحكم نيابة عنه في غيبته، فهو ليس صاحب حق أصيل في الحكم، ولو أجمع عليه الشعب الإيراني كله.. والثورة الإيرانية تم تحريكها وزعيمها، خارج إيران، فأرجو لك أن تطلع علي وثائق هذه الثورة .
وأنت نفسك تقول: (المؤسسات الحزبية التي تقوم فيها العلاقة بين زعيم الحزب وأعضائه، علي أساس العلاقة بين (المرشد والمريد) لا يمكن أن تنتج رجال ونساء دولة، لأن هذه المؤسسات قائمة علي تربية (الطاعة) بموروثها الثقافي الشيعي أو الصوفي الذي ما هو في النهاية إلا تحوير للموروث الإستبدادي الكسروي ..) ورغم ذلك تمجد الثورة الإيرانية، وتفضلها علي ثورة أكتوبر السودانية، وما ذلك إلا لأنك غير وفي لوطنك، وتعمل علي أن تبخس الشعب السوداني أشياءه، وتجور علي حقوقه، الواضحة، بغير حق.
إنك لا تعرف ما تقول، وتقول ما لا تعرف .. ومن كتاباتك هذه، لا شئ يدل علي إنك تملك المواهب التي تؤهلك لتكون فارس السودان الجديد الذي تتحدث عنه.
إن رجلاً عايش الأستاذ محمود، ولو ليوم واحد، ثم يقول عنه، أنه ينطلق من دوافع ذاتية، وأن عمله يقوم علي دفع إحتياطي، فإذا تمّ فبها، وإلا هنالك بديل، أن من يقول مثل هذه الأقوال، ليست مشكلته أنه منذور الحظ من الفطنة وحسب، وإنما مشكلته، مشكلة تتعلق بالحس، وقد قال قائل أهل الحس:
يكفيني أني عشت زماناً كان له معني ومــــذاق
يكفيني أني كنت جليسك رغم شعور الإبن العاق