إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
فى تاريخ البشرية أيام خالدات ذات شأن عظيم يتوّجب على الإنسان أن يقف عندها وقفة الإطراق والتأمل ليستمّد منها البهجة والمسرة أو ليأخذ منها العظة والعبرة وليتزوّد مسيرته نحو حياة أفضل. بعض هذه الأيام يكون أبيض مشرقا لاقترانه بانتصار عظيم وبعضها يكون أسود كالح لاتباطه بهزيمة نكراء فاليوم الأول من يناير هو منارة مشرقة فى تاريخ شعبنا يهل علينا كل عام فيبعث فى نفوسنا العزة والأمل، ويوم كررى كان يوما أسود فى تاريخ حياتنا كلنا نذكره مقرونا بالحزن والأسى ونستلهم من سواد لونه ضوء الفجر الذى انبثق فى الأول من يناير عام 56 ومن المرارة التى تجّرعها أباؤنا وأجدادنا فى ذلك اليوم الأغبر والتى ظللنا نجترها لنصف قرن من الزمان أو يزيد استطعنا أن نتذّوق طعم الشهد الذى ارتوينا منه فى ضحى الأول من يناير السعيد.
ومن الأيام السوداء فى تاريخ شعبنا المعاصر يوم الثامن عشر من يناير الماضى فهو يوم تم فيه اغتيال حرية الفكر والتأمل عندما قام النظام المباد بصلب المفكر الحر محمود محمد طه وطمر جثمانه فى الصحراء أو إلقاه فى البحر طعاما للحيتان.
إن شخص محمود محمد طه ليس هو الأهم فى سلسلة المأسأة، فحمود كبشر إنما هو هالك وابن هالك فهو فى الفناء سواء أكان ذلك على فراش متواضع فى بيت من الجالوص بالحارة العاشرة فى مدينة الثورة أم درمان أو متدليا من حبل مشنقة علنية منصوبة فى سجن كوبر العتيد.
ولكن الشىء الأهم والذى يستوّجب الوقوف والتفكير بل ويستوجب إقامة المأتم كل عام هو اغتيال حرية الفكر على يد الرجعيين والمتحجرين من السلفيين أعداء الإنسان الذين يستخدمون الدين لقهر البشر ويلبسونه مسوحا معطرة فيمتطون به ظهر السلطة والنفوذ ويجمعون باسمه المال الوفير والثراء العريض.
والذى اغتال (الفكر الحر) فى 18 يناير لم يكن هو وحده جعفر نميرى الذى اتخذه الجميع (شماعة) يعلقون عليها آثامهم وجرائمهم المنكرة، الذى اغتال حرية الفكر فى شخص الأستاذ محمود هم الجناة الذين شرّعوا فأفسدوا التشريع وهم القضاة الذين طبقوا فأسأءوا التطبيق وهم القادة الذين نفذوا ووقفوا يتلذذون (بالفرجة) على الجثمان المصلوب وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة السخرية من ضلال الإنسان وظلم الإنسان لأخيه الإنسان. لم يكن شخص محمود هو الهدف ولكن الهدف كان (حرية الفكر) التى ظل محمود محمد طه يقدح فى زنادها أربعين عاما من الزمان لذلك لم يكتفوا بقتله وصلبه وتغريب جثمانه ولكنهم انقضوا على كتبه، وأفكاره وقاموا بحرقها وتمزيقها تماما كما فعل (التتار) فى بغداد قبل مئات السنين ورغم ذلك ظلوا خائفين يرتجفون أمام غصن الزيتون الذى سقط من يد محمود فى يوم 18 يناير 1985.
لقد شهدت فى حياتى العملية مئات المحاكم وكنت أرى القاضى هو قمة الاحترام والمهابة لأنه يستمد قوته من إمساكه بميزان العدالة ولكن فى محاكمة محمود ورفاقه كنت أرى الخوف والهلع يرتسم فى وجه (السلطان) لأنه يعلم بأنه كان يدخل معركة خاسرة، فلقد كان السفاح جبانا خاف من (ذات الشوكة) فأطلق سراح غبوش وافتعل معه تمثيلية الاستتابة على حمائم السلام فشنق محمودا الذى لم يكن يحمل سلاحا ولم يكن يدعو الى انقلاب بقوة السلاح.
ليست هذه الكلمات برثاء لمحمود محمد طه فيكفيه أنه رثاه عميد الأدب واللغة العربية ذرب اللسان وفصيح البيان الدكتور عبدالله الطيب وليس هذا بنعى لمحمود فحسبه أنه نعاه المفكر العظيم أحمد بهاء الدين وليس هذا بكاء فالبكاء لا يكون على الخالدين.
ولكن هذه الإستراحة وقفة عند يوم مشئوم اعتدى فيه الجهل على العلم وتغّلّب فيه الجبن على الشجاعة.
هذه الإستراحة شمعة تضاء فى السرداب المظلم الذى اعتدى فيه السفاح ومشايعوه من دراويش على حرمة الفكر وحرية الرأى والعقيدة ولكن جآءت أبريل انتصارا للإنسان فيجب علينا أن ندرك بأن المتربصين ما زالوا يشتمون ويهددون على احتواء أبريل ليحولوا الانتصار الى هزيمة، ها هى أموالهم تتدفق وها هى أصواتهم تعلوا وترتفع يشتمون ويهددون ويتوعدون .. فكل معارض لهم ملحد وكل مخالف لهم كافر أو شيوعى هّدام.
لا يكفى أن نتخذ من يوم اغتيال حرية الفكر مأتما نعدد فيه مآثر الفقيد ولكن علينا أن نتخذ منه منطلقا لمنازلة الرجعية وليكن شعارنا (لا صوت لرجعى) ولا انتصار لأعداء الإنسان ولا بقاء لقوانين سبتمبر الغبراء والتحية لذكرى رائد الفكر الحر محمود محمد طه
* نشر هذا المقال بعيد إنتفاضة الشعب السوداني في ابريل 1985 حيث كان السيد عبد الله الحسن رحمه الله نقيبا للمحامين السودانيين