إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

طريق محمد


بسم الله الرحمن الرحيم
((يا أيهـا النـّاس!! قد جاءتكـم موعظـة من ربّكـم، وشفـاء لما في الصـّدور، وهـدى، ورحـمـة، للمؤمنيـن * قـل: بفضـل الله، وبرحمتـه، فبـذلك فليـفـرحوا، هو خير مما يجمعون..))
صدق الله العظيم..


مـقـدمـة


هذه مقدمة الطبعة الثامنة من ((طريق مُحمّد)).. ولقد لقيت الطبعات الأولى من هذا الكتاب رواجا طيبا بين أصدقائنا القراء مما شجع على تقديمه للطبعة الثامنة.. ثم إننا رأينا أن نختص هذه الطبعة الثامنة بمقدمة، خاصة بها، فيها نعالج بعض المسائل العرفانية، مما يعين على تمام التوسيل ((بطريق مُحمّد))..

الشهادة المثنية


الشهـادة المثنيـة هـي: ((لا إله إلاّ الله، مُحمّد رسول الله)).. والشهـادة المفـردة هـي: ((لا إله إلاّ الله)).. وهذه شهادة ((توحيد)).. وتلك شهادة ((تصديق)).. وشهادة التصديق تجب مرة في العمر.. وتوجب الاتباع ((وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا!! واتّقوا الله.. إن الله شديد العقاب)) هذا سند الاتباع من القرآن.. وسنده من الحديـث: ((صـلوا كما رأيتموني أصلي)).. وفي بابـه أيضا ((خذوا مناسككم عني)).. هذان في أمر الصلاة، والحج.. وهما ينطبقان على سائر أعمال العبادات، والطاعات.. وأمّا شهادة التوحيد فهي لن تنفك تقال، في الحياة الدنيا، وفي الآخرة.. فهي خير ذكر أهل الدنيا، في الدنيا، وهي خير ذكر أهـل البرزخ، في البرزخ، وهي خيـر ذكر أهل الجنة، في الجنة، وهي خير ذكر أهل النار، في النار.. وإنما يبتغي الذاكِرون من ذكرها أن يحققوها، في حياتهم حتى ينتقل قولها بلسان المقال فيصبح قولا بلسان المقال، ولسان الحال معا، وذلك حين تتم، بفضل الله ثم بفضل تجويدها، وحدة البنية البشرية، في كل نفس بشـرية.. وسنـد الشهادة المفردة من القرآن: ((فاعلم أنه لا إله إلاّ الله!! واستغفر لذنبك، وللمؤمنين، والمؤمنات.. والله يعلم متقلبكم ومثواكم)).. وسندها من الحديث: ((خير ما جئـت بـه، أنا والنبيـون من قبلي، لا إله إلاّ الله)).. وبيـن الشهـادة ((المثنيـة)) - ((لا إله إلاّ الله، مُحمّد رسـول الله)) – والشهـادة ((المفـردة)) - ((لا إله إلاّ الله)) - اختلاف مقدار.. فالشهادة المثنية هي القاعدة، في الأرض، والشهادة المفردة هي القمة، في الإطلاق.. وسند ذلك من كتاب الله: ((شهد الله أنه لا إله إلاّ هو، والملائكة، وأولو العلـم، قائماً بالقسط.. لا إله إلاّ هو، العزيز الحكيم * إن الدين عند الله الإسلام)).. فقمة الشهادة المفـردة في الإطلاق، عند الله، حيث شهد بذاته، لذاته، بالتفرد بالأحدية.. وقاعدتها في القيد، في الأرض، عند المؤمنين بها، وتلك هي الشهادة المثنية: ((لا إله إلا الله، مُحمّد رسول الله)).. فقولك: ((مُحمّد رسول الله)) مدخل على قولك: ((لا إله إلاّ الله)).. هي الباب، وليس بغيره دخول في الحضرة.. وبتطبيقها، وهو ما أسميناه تجويد التقلّيد، يكون السير في مراقي التوحيد - السير في تحقيق ((لا إله إلاّ الله))، من مستوى ما يقال في الأرض، عند المؤمنين، وعند أولي العلم، وعند الملائكة، إلى مستوى ما يقال في السموات، عند الملائكة، وملائكة الملأ الأعلى، ثم إلى مستوى ما يقال في الإطلاق، عند الذات، وهيهات!! هيهات!! فإن هذا أمر يحصل تحقيقه، كل يوم جديد، ولا يقع الفراغ منه، فالسير فيه سير في السرمد، وبحسب أولي العلم منه أن يعلموا أن تحقيقهم لـ ((لا إله إلاّ الله))، بالغاً ما بلغ، ليس بشيء إذا ما قورن بتوحيد الله لذاته في قوله تعالى: ((شهد الله أنه لا إله إلاّ هو))..

دائرتان


ينتج، لدى التفصيل، مما تقدم إجماله دائرتان - دائرة داخلية، ودائرة خارجية.. ولكل من الدائرتين ((مركز))، أو قل: ((قلب))، إن شئت.. ولكل من الدائرتين مدخل، أو قل: باب يؤدي من هيكلها إلي داخلها - إلى قلبها.. أما الدائرة الخارجية فهيكلها قولك: ((مُحمّد رسول الله))، وهو شطر الشهادة المثنيـة.. وباب هـذه الدائـرة مُحمّد، وبـه الدخـول إلى قلبـها.. وقلبـها إنما هو قولك: ((لا إله إلاّ الله)) وهو الشطر الآخر من الشهادة المثنية..
وأما الدائـرة الداخلية فهيكلها ((لا إله إلاّ الله))، وقلبها ((الله))، وبابها ((الإله)).. فكأن مُحمّدا باب الدخول على جملة ((لا إله إلاّ الله))، و((الإله)) باب الدخول على خلاصتها.. وبين جملتها وخلاصتها أمد ما بين العبادة والعبودية، وهو أمد تطير فيه القلوب، بأجنحة بغير ريش، طيرانها السرمدي.. وإلى هذا الطيران السرمدي الإشارة بقوله تعالى: ((وأنزلنا إليك الذّكر لتبيّن للنّاس ما نزل إليهم.. ولعلهم يتفكرون..))..
فالشهادة ((المثنية)) ليست بشهادة توحيد، وإنما هي شهادة ((تثنية)).. و((التثنية)) أدنى منازل التعدد من منزلة ((التوحيد)).. وفي السير منها إلى منزلة التوحيد يقع ((التجريد)).. والتجـريد هو معرفة مكانة ((الله)) من مكانة ((مُحمّد)).. ولا يتم ((التجريد)) إلا لمن أتقن ((التقلّيد)).. ومن أتقن التقلّيد يطالعه معنى لطيف من معاني قوله تعالى: ((وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة، وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون))..
والشهادة ((المفردة)) ليست بشهادة ((توحيد)) أيضا إلا إذا وقع ((التفريد))، والتفريد هو معرفة مكانة ((الإله)) من مكانة ((الله))، وتلك معرفة محجّبة، وممتنعة.. يقع شميمها، ولا يتم تحقيقها.. وكل من كان له قدم رفيع في ((التفريد)) يطالع بالمعنى الذي يقابله من قوله تعالى: ((قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين)).. وإنما لم تكن الشهادة المفردة شهادة توحيد لأنها إنما تقوم على نفي وإثبات.. فهي حركة بين طرفين، يمر الفكر أثناءها بخط الاستقامة، وفي لحظة مروره تلك يتم له التوحيد، ذلك بأنه في خط الاستقامة يجد الله.. وإلى ذلك الإشارة بقول هود: ((إني توكلت على الله، ربي وربكم، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها.. إن ربي على سراط مستقيم)).. وشهادة التوحيد، في شهادة التفريد، هي حظ ((الله)) وحده.. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: ((قل الله!! ثم ذرهم في خوضهم يلعبون)).. على أن يكون القول بلسان الحال، وههنا يتـوحد الفـكر، والقـول، والعمـل.. فكأن ((قـل الله)) هنا هي ((كـن الله)).. وتحقيـق هـذه الكينونـة هي وظيفـة الكلمة: ((لا إله إلاّ الله)) مدعـومة بالعمل الصالح، وأعـلاه الصلاة الذكيـة.. وإلى ذلك الإشـارة بقولـه تعالى: ((إليه يصعـد الكلـم الطيـب والعمل الصالح يرفعه..))..
وكل إنسان من الناس، بالغا ما بلغ من الرفعة، له ((إله)) غير ((الله)) ذلك ((الإله)) هو تصوره هو ((لله)).. وما من تصور ((لله)) إلاّ و((الله)) من حيث ذاته العلية، بخلافه، فوقعت الشقة بين التصور والحقيقة.. وكل العباد إنما محاولتهم أن ينطبق تصورهم على الحقيقة، ليكون ((إلههم)) ((الله))، وهيهات!! وإلى ذلك المطلب الرفيع الإشارة بقوله تعالى: ((وأقيمـوا الوزن بالقسط، ولا تخسروا الميزان)) فكأن في إحدى كـفتي الميزان ((الله)) - ((الحقيقة))، وفي الكفة الأخرى ((الإله)).. وفكـرة الإله تبـدأ من ((الباطل)) وتدخل مداخل ((الحق)).. وإنما يطلب الحق ((الحقيقة)).. يطلـب الحـق أن ينطـبـق على الحقيقـة تمـام الانطبـاق.. ((فالإله))، بمعنى آخـر، هـو تصـورنا ((لله))، وهـو تصـور، مهما بلـغ من الكمال، قاصر قصوراً مزرياً حتى إن النبـي الكريـم قـد قال: ((أعلـم عالـم، بجانب الله، أحمق من بعير..))..
بإيجاز، من الناحية العملية، والتطبيقية، فإن ((إله)) كل إنسان إنما هو ((نفسه)).. ولما كانت نفوسنا هي حجبنا الناهضة بين عقولنا وبين الحقيقة - ((الله))، فقد قال المعصوم عنها: ((إن أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك)).. وقال أحد العارفين: ((وجودك ذنب لا يقاس به ذنب)).. وهذه النفس إنما هي النفس ((السفلى))، وقد سميت بالنفس ((الأمارة))، وهي تنزل من النفس ((الكاملة)) - نسبية الكمال - وهي نفس ((الإنسان الكامل)).. وهذه، بدورها، إنما هي تنزل عن النفس ((الكاملة)) - مطلقة الكمال - وهي نفس ((الله)).. وإنما سير العباد كله مجاهدة للارتقاء من النفس ((الأمارة)) إلى النفس ((الكاملة)) - إلى نفس الله.. وهذا سير سرمدي، يقع البدء فيه، ولا يتفق الفراغ منه.. وإلى هذا السير المجيد الإشارة بالآية الكريمة: ((قل يا أيها الناس!! قد جاءكم الحق من ربّكم، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضلّ فإنما يضلّ عليها، وما أنا عليكم بوكيل)).. من اهتـدى فإنما يهتدي إلى نفسه ((العليا)) - ((الكاملة)) - ومن ضلّ فإنما يضلّ في متاهات نفسه ((السفلى)) - ((الأمارة)).. وطريق مُحمّد إنما هو ((السنة)).. هو سنة ((مُحمّد)) في أوليات السير، ثم هو سنة ((الله)) في أخرياته.. وهـذه السنة إنما هي السراط المستقيم، الممدود، رأسياً، بيـن النفس السفلى في القاعـدة، والنفس العليا في القمـة، والمتمثـل، أفقياً، في نقطـة التقاء طـرفي الإفـراط، والتفـرّيط، أثناء تأرجـح ((النفس السفلى)) - (اقرأ هنا ((النفس اللوامة)) بخاصة، والأمارة موجودة) بين هذين النقيضين.. نقطة التقاء هذين النقيضين، في هذه القاعدة، هي ((الحق)).. والحق يتطور يطلب الحقيقة.. وإلى هذه السنّة النبوية الإشارة بقوله تعالى: ((قد جاءكم الحق من ربكم)).. وروح هذه الآية إنما هي في الفاصلة، وهي قوله تعالى: ((وما أنا عليكم بوكيـل)).. وإنما كانت هذه الفاصلة روح الآية لعظيم مكانتها في التأدّيب - تأدّيب النبي، وتأدّيب أفـراد الأمـة - تأدّيـب ((المُربِي))، وتأدّيـب ((المُتَرّبِي))، ذلك بأن بهـا يقـع على ((المتربَّي)) تحمل مسئولية عمله في مضمار سيره إلى تحقيق فرديته، ويقع على ((المربِّي)) إخـراج نفسه من بين ((العبيد)) و((ربهم)) حتى لا يكون قاطعاً لطريق الرب، وحتى تكتمل له هو عبوديته، فلا تكون له رائحة ربوبية على أحد من الخلق.. وفي هذا التأديب من لطف التأتي إلى رياضة النفوس البشرية ما يلحق بحد الإعجاز.. بل إنه لهو إعجاز القرآن الحقيقي..
في هذه الفاصلة إيجاز معجز لتفصيل ورد في آيتين شهيرتين، طالما تحدثنا عنهما في عديد المواضع من كتبنا، هما ((فذكر!! إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر))..
يحسن أن نذكر هنا أن الفاصلة إنما هي سنة ((الله)) في حين: ((قل يا أيها النّاس قد جاءكم الحقّ من رَبِّكم)) هي سنة ((النبي)).. وما يعقلها إلا العالمون..

أفي الله شكّ؟


في وقتنا الحاضر ليس هناك من يشكّ في وجود الله تعالى، مجرد الشك، بل هناك من ينفي وجوده وهو على ثقة مما يقول.. أكثر من هذا، فإنه ليدَّعي علمية ما يقول.. ولقد وردتنا ملاحظة على ما نكتب من بعض أصدقاء ((الدعوة الإسلامية الجديدة)).. يقول صاحب تلك الملاحظة: إننا نكتب وكأن وجود الله مفروغ منه، بينما وجوده عند كثير من المثقفين، عندنا وفي الخارج، يحتاج إلى برهان..
يقول القرآن: ((ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم؟؟ قوم نوح، وعاد، وثمود، والّذين من بعدهم، لا يعلمهم إلاّ الله، جاءتهم رسلهم بالبيّنات، فردّوا أيديهم في أفواههم، وقالوا: إنّا كفرنا بما أرسلتم به، وإناّ لفي شكّ مما تدعوننا إليه مريب * قالت رسلهم: أفي الله شكّ؟؟ فاطر السموات، والأرض، يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم، ويؤخركم إلى أجلٍ مسمى؟؟)).. وسيقول قائل: كيف تحتجون بالقرآن على وجود الله لدى قوم ينكرون وجود الله نفسه؟؟ والجواب قريب: فليست المحاجة هنا بالقرآن، وإنما المحاجة بالعبارة التي تنطوي على الإشارة إلى البداهة المعاشة وهي قوله تعالى: ((أفي الله شكّ، فاطر السموات، والأرض؟؟)).. ذلك بأن البداهة المعاشة، عبر الحياة الطويلة، هي أن لكل صنعة صانعاً.. هذه القاعدة لم تتـخلف، ولا للحظة واحـدة.. ولقد قيل إن أعرابياً سئل عن برهـانه على وجود الله فقال: ((البعرة تدل على البعير)).. وهذا أمر هو من البداهة بحيث لا يحتاج إلى ذكاء.. فلو أن هناك صنعة صنعت نفسها لقام اللبس الذي يمكن أن يجئ منه عذر المنكرين وجود الله..
وفي موضع آخر، يجئ قوله تعالى: ((أم خلقوا من غير شيء؟؟ أم هم الخالقون؟؟ * أم خلقوا السّموات، والأرض؟؟ بل لا يوقنون..)).. قوله: ((أم خلقوا من غير شيء؟؟)) يعني: أم خلقوا من غير خالق؟؟ قوله: ((أم هم الخالقون؟؟)) يعني أم هل خلقوا أنفسهم؟؟ وهذا، أو ذاك، قول تمنع البداهة أي عاقل أن يقول به.. ومثل هذا القول يقال عن الآية الثانية: ((أم خلقوا السّموات، والأرض؟؟ بل لا يوقنون..)) فإن دعوى المدعين ههنا تنتهي.. انظر ماذا جاء في القرآن على لسان إبراهيم في أمر انقطاع دعوى المدعين!! قال تعالى: ((ألم تـر إلى الذي حاجّ إبراهيـم في ربـّه، أن آتاه الله الملك، إذ قال إبراهيـم: ربّي الذي يحيي، ويميت.. قال: أنا أحيي، وأميت.. قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشّمس من المشرق، فأت بها من المغرب، فبهـت الذي كفر؟؟ والله لا يهـدي القوم الظّالمين..)).. وفي موضع آخر: ((خلق السّموات بغير عمد ترونها، وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم، وبثّ فيها من كل دابـة، وأنزّلنا من السّماء ماء فأنبتنا فيها من كلّ زوج كريـم * هذا خلق الله، فأروني ماذا خلق الذين من دونه؟؟ بل الظّالمون في ضلال مبين..))..
مرة أخرى!! هل هذا احتجاج، بالقرآن، لإثبات وجود الله في مواجهة قوم ينكرون وجود الله؟؟ لا!! ولا كرامة!! وإنما هو اتخاذ اسلوب القرآن، وهو أسلوب البداهة المعاشة.. ذلك بأنه، في البداهة المعاشة، عبر مئين الملايين من السنين، لم نجد صنعة بغير صانع، ولا أثراً بغير مؤثر.. ولقد ألمعنا القول آنفاً إلى جواب الأعرابي الذي قال ((البعرة تدل على البعير))، وذلك في الرد على من سأله: كيف عرف وجود الله؟؟ القـرآن كتاب الأمييـن.. نبيـه أمِّي، وأمتـه أمِّيـة.. وهـو إنمـا يتـخـذ أسلـوب البـداهة البسيـط – السـاذج إن شئـت - في مواجهتـه لقضيـة هي كبـرى قضايا الفكـر المعاصـر.. نحـن إذن لا نحتـجّ بالقـرآن في مواجـهة الملحـدين، وإنما نحتـجّ بالأسلـوب الذي لا تقبـل البداهة غيـره.. والبـداهة تقـرر الأمـور البديهيـة..
(والأمور البديهية هي الأمور الضرورية في نظر العقل) حتى إنهم قد قالوا:-
وليس يصح في الأذهان شيء * إذا احتاج النهار إلى دليل
وانطلاقاً من هـذه ((الأمـور البديهية)) سار العارفـون، والمفكـرون، والعلماء عنـدنا.. ولقد قال العارف النابلسي:
وخلف حجاب الكون ما أنت طالب ومن لفظة المقهور يلزم قاهر
تأمل مليّاً قوله: ((ومن لفظة المقهور يلزم قاهر))، تجده أمراً في غاية البداهة..
قالوا إن أعرابياً سئل: ((كيف عرفت الله؟؟)) فأجاب: ((عرفته بنقض العزائم))..
منذ بضع سنوات زار مصر الفيلسوف الماركسي المعروف روجيه قارودي، وكانت زيارته بغرض إلقاء محاضرات عامة على مجاميع المثقفين، وقد احتفل بـه هؤلاء أيّما احتفال، ولقيت محاضراته القبـول، والثـناء.. وقـد أوردت عنـه مجلة ((الطليعة)) فيما أوردت قوله، في إحدى محاضراته: ((أنا طبعاً ملحد)).. ولقد وقفت طويلا عند هذه العبارة الجريئة، وقام في بالي أن رجلا يقول مثل هذا القول عن نفسه ليس خليقا بأن يحاضر الناس - في أي مستوى من مستوياتهم.. ذلك بأن عنده مشكلة يجب عليه الاشتغال بحلها قبل أن يشتغل بمحاضرات الآخرين..

الملحد!! من هو؟؟


الملحد هو رجل يرفض أن يعتقد في الله، وفي الغيب، وفي الأرواح، وفي الحياة الأخرى التي تكون بعد الموت.. ويرفض ما تقوم عليه الأديان من تفسير للكون - يرفض جملته وتفصيله- ويبني اقتناعه على ما يسميه نظرة علمية للكون، مأخوذة من نظريات، ومعطيات العلم التجريبي المادي.. وفلسفة الملحد هي ((الفلسفة المادية)) التي تنبني على نقض قيم الدين، وعلى محاولة تقويضها.. وتسعى لصرف الناس عن الدينونة بتلك القيم، وعن الاعتقاد فيها..

وما هي المادية؟


الفلسفة المادية هي النظرة المبنية على العلم التجريبي، والتي تقول: إن الكون مادة.. (والمادة هي ما تدركه الحواس، وما يدركه العقل، من هذا الكون المحسوس الذي نعيش فيه)..
فالمادية هي الفلسفة التي تقول إن الكون مادة.. فليس في الكون غير المادة، وغير القوانين التي تحكم تحركها، وتغيرها.. والفلسفة المادية في حرب سافرة، لا هوادة فيها، ولا مهادنة، مع كل المفاهيم الروحية التي تقوم على ما وراء المادة، سواء عندها أكانت هذه المفاهيم تظهر في ثوب الدين، بصوره العقيدية، أم كانت تلبس ثوب الفلسفة المثالية، (كما تعبر هي عنها في سخرية، وفي زراية)..
لدي النظرية المادية الطبيعة (المادة) تتطور حتى تبلغ أعلى شكولها، بما في ذلك الحياة، والعقل المفكر نفسه، بأسباب مودعة فيها، وفي قوانينها، وليس بأسباب، أو قوى، خارجة عنها.. ولقد نشأت الفلسفة المادية منذ زمن طويل، ولكنها بلغت قمة تفلسفها على يدي ماركس، وانجلز، فيما سمى عندهما ((بالمادية الديالكتيكية))..
هذا هو الإلحاد، وهذه هي فلسفته المادية، أوردتهما بإيجاز شديد، ولكنني أرجو له ألاّ يكون إيجازاً مخلا..
عنـد الفلسـفـة المـاديـة المـادة، كمـا تـدركها الحـواس، والعقـول، أصـل، والعقـل أثر - المادة سابقة والعقول لاحقة.. هذا بطبيعة الحال صحيح.. فقد برزت المادة إلى حيز الوجود قبل العقل البشري، وبأمد طويل.. ولكن، ما ظن الماديين إذا أخبرناهم أن المادة مسبوقة بالعقل الكلِّي، العقل الذي ما العقل البشري إلا محاكاة له تحـاول أن تسير على أثره لتخرج من قصورها إلى إحاطته.. إن الماديين يتحدثون عن القوانين التي تحكم حركة المادة وتغيرها، ولكن أليست القوانين، في حد ذاتها، أثراً من آثار العقـول؟؟ ألم يقـل أرسـطـو: إن القانـون هـو: ((العقـل الذي لـم يتأثر بالرغبة؟؟)) أم أن هذه فلسفة مثالية؟؟

هل المادية علمية؟


لا!! على التحقيق!! هي ليست علمية، حتى بمقياس العلم التجريبي المادي المعاصر، ذلك بأن هذا العلم قد قال، بأعلى صوت، إن المادة، كما، تدركها الحواس، والعقـول، ليست هناك، وإنما هي، لدى التحليل الأخير، طاقة، تعرف خواصها، ويجهل كنهها.. هذا، وعلمية العلم المادي التجريـبي المعاصـر نفسـها ليسـت علميـة.. ولقـد تحدثنا عن هـذا بإيجاز واف في مقدمة كتابنا ((الدين والتنمية الاجتماعية)) مما يغني عن الإعادة ههنا، فليراجع..
إن أيسر ما يقال عن الفلسفة المادية إنها، حين عجزت عن إدراك الغيب، اتخذت من عجزها فضيلة، فأنكرت الغيب.. وإنكارنا وجود ما نجهل لم يكن، في يوم من الأيام، وهو لن يكون علميا، في أي وقت، وإنما هو جهل ينطوي على غرور لا يشرف عقل أي عاقل.. إن العقل العلمي لا ينكر كل ما يجهل، وإنما يؤمن به ريثما يعلمه - يؤمن به، ويصبر عليه، ويبحث فيه، حتى يبني إنكاره، أو إقراره، على علم يتكشف له نتيجة لتواضعه، وأدبه، ودأبه، وصبره على البحث، والتنقيب..
ومـن عجب أن المادييـن يقـررون حـداثة العقل، وقـدم المادة، ثم هـم، بعد ذلك، يحكمـون على القديم بالحادث، ويجعلـون هـذا الحكم فيصلاً لا يتـرددون في إطلاقـه، ولا في تعميمه.. فهل هـذا، في حد ذاته، عمل علمي؟؟

اعتـراض


وقد يرد اعتراض وجيه على ما سقنا من حجج لإثبات وجود ((الله)) وهي حجج تقوم أساسا على ما تعطيه البداهة المعاشة.. هذا الاعتراض يقول: إذا كانت البداهة المعاشة تقرر: إن لكل مصنوع صانعا، ولكل موجود خالقا، فمن الذي خلق الله؟؟ هذا اعتراض قد يبدو وجيها، لدى النظرة العجلى، ولكنه غير وجيه، على التحقيق، لدى النظرة المستأنية.. ومعلوم أن الماديين يبنون على هذا الاعتراض حجتهم بأن المادة غير مخلوقة، ولا هي تحتاج لقوة خارجها.. إنهم هم يقولون لنا: إذا كنتم، في آخر السلسلة، ستصلون بنا إلى موجود لا موجد له، ثم تطلبون إلينا أن نعقل هذا، فمن الآن، فدعونا نقرّر: إن المادة موجـود لا موجـد له، ولا هـو يحتـاج إلى موجد.. واضح عندنا أن هذا منطق غير مستقيم.. ذلك بأن الأمور لا تقرر بهذه البساطة.. هي لا تقـرر اعتباطاً، ولا هي تقرر خبطاً عشوائياً.. الصورة هكذا: هناك، في الوجود، الناقص.. وهناك الكامل.. والعقل يستطيع أن يدرك الناقص، وأن يحدده.. وهو يستطيع، بالمقارنة، أن يدرك ما هو أكمل منه، وهو أيضاً يستطيع أن يلاحظ أن الناقص يتطور نحو الكامل - العقل يستطيع أن يدرك الناقص، وهـو يستطيع أن يدرك الكامل، نسبي الكمال.. وهو أيضاً يستطيع أن يتصور الكامل، مطلق الكمال.. إننا نحن، إذن، كما قررنا، نعرف الناقص، ونشاهده يتطور في مراقي الكمال النسبي.. وواضح عندنا أن كل كمال فوقه كمال أكمل منه.. ونستطيع، من ثم، أن يمتد بنا الخيال في متابعة الكمال إلى غير نهاية.. فهناك إذن كمال غير متناه.. هذا الكمال غير المتناهي نستطيع أن نتصور وجوده، وإن عجزنا عن الإحاطة بكيفية وجوده.. ونستطيع أن نسميه: ((الكمال المطلق)) ذلك بأنا إنما عجزت عقولنا عن الإحاطة بكيفية كماله لأن عقولنا ((معقولة)) بمعطيات الحواس، والمطلق غير معقول (غير مقيد).. ((فالمعقول)) هنا إنما هو من العقال.. ومن العلم ــــ أعني من علمية المنهج ــــ ألا نـنكر ((المطلق)) لأننا نجهل كيفية إطلاقه.. وإنما يجب أن نقره، وأن نؤمن به، وأن نصبر عليه، ريثما نعلمه.. ولـن يجئ يوم يكـون علمنا بالمطلـق علـم إحاطة.. وإلا لما كان ((مطلقاً)).. ووجود ((المطلق)) هو أسّ الرجاء في نظرة التطور، ذلك بأن حياتنا إنما تتـطور من ((الناقص)) إلى الكمال النسبي، وهي تطلب الكمال ((المطلق)).. وهذا يعني أن ليس هناك حد لكمال حياتنا..
المادة غير العضوية ناقصة، والمادة العضوية - الخلايا الحية - أكمل منها - فالنملة أكمل من الشمس.. والمادة العضوية، في الحيوات الدنيا، في مرتبة النمل والذر، ناقصة، وحيـاة الحيوان الثديي، مثلاً، أكمل منها.. وحياة الحيـوان الثديي ناقصة، وحياة الإنسان أكمل منها.. وحياة الإنسان ((الجاهل)) ناقصة، وحياة الإنسان ((العالم)) أكمل منها.. وكل من كان ((أعلم)) فهو ((أكمل)) ممن هـو دونه ((وفوق كل ذي علم عليم)).. وحياة أعلم عالم تقصر دون العلم ((المطلق)).. وهي، من ثم، نسبية الكمال لنسبية علمها، وهي تتطور في المراقي تطلب ((العلم المطلق)).. والعلم المطلق علم يدرك العقل وجوده، ويستطيع أن يتصوره، وأن يؤمن به، وأن يسعى في تحصيله.. هذا العلم المطلق هو علم الله.. وهو الله.. فللناقص خالق، ومن ههنا جاء نقصه، لأنه محتاج لغيره.. وللكامل، نسبي الكمال، خالق، ومن ههنا جاء نقص كماله، لأنه محتاج لغيره أيضا.. وليس للكامل، مطلق الكمال خالق لأنه، لإطلاق كماله، لم يكن مسبوقاً بعدم، ولا هو ملحوق بعدم، ولا هو محتاج لغيره.. ولإنهاض هذه الحجة يرد في القرآن: ((يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله.. والله هو الغني الحميد))..
فنحن، حين نقرر، في آخر السلسلة، أن هناك موجوداً لا يحتاج إلى خالق، إنما نقرره على صورة يقبلها العقل، بل يستحيـل عليه أن يقبل غيرها.. ومن ههنا فإن ما تعطيه البداهة هو، في حقيقته، أمر يبلغ من الدقة مبلغاً عظيماً.. هذا، وغني عن القول إن الخالق واحد، للناقص وللكامل نسبي الكمال.. وإنما تقرّر وحدة الخالق وحدة الوجود..