إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

رسالة الصلاة

بسم الله الرحمن الرحيم
((اليوم أكملت لكم دينكـم،
وأتممت عليكــم نعمتـي،
ورضيت لكم الإسلام دينا.))
صدق الله العظيم


نحمدك اللهم ولا نحصي ثناء عليك ونستهديك ونستعينك..

بشارة


الإسلام عايد عما قريب بعون الله وبتوفيقه.. هو عايد، لأن القرآن لا يزال بكرا، لم يفض الأوائل من أختامه غير ختم الغلاف.. وهو عايد، لأن البشرية قد تهيأت له، بالحاجة إليه وبالطاقة به.. وهو سيعود نورا بلا نار، لأن ناره، بفضل الله ثم بفضل الاستعداد البشري المعاصر، قد أصبحت كنار إبراهيم بردا وسلاما.. إن العصر الذي نعيش فيه اليوم عصر مائي، وقد خلفنا وراءنا العصر الناري.. هو عصر مائي، لأنه عصر العلم.. العلم المادي المسيطر اليوم والعلم الديني - العلم بالله - الذي سيتوج ويوجه العلم المادي الحاضر غدا.. وفي عصر العلم تصان الحرية وتحقن الدماء وتنصب موازين القيم الصحائح..
البصيري إمام المديح يقول:
شيئان لا ينفي الضلال سواهما نور مفاض أو دم مسفوح
وقد خلفنا وراءنا عهد الدم المسفوح، في معنى ما خلفنا العصر الناري، وأصبحنا نستقبل تباليج صبح النور المفاض.. بل إن هذا النور قد استعلن على القمم الشواهق من طلائع البشرية، ولن يلبث أن يغمر الأرض من جميع أقطارها.. وسيردد يومئذ، لسان الحال ولسان المقال، قول الكريم المتعال:
((الحمد لله الذي صدقنا وعده ، وأورثنا الأرض، نتبوأ من الجنة حيث نشاء، فنعم أجر العاملين))

توطئة البحث..


السلام هو حاجة البشرية اليوم.. وهو في ذلك حاجة حياة أو موت، ذلك بأن تقدم المواصلات الحديثة، الذي يحاول باستمرار أن يلغي الزمان والمكان، قد جعل هذا الكوكب أضيق من أن تعيش فيه بشرية منقسمة على نفسها شاكة السلاح متحاربة.
ومع أن التجربة البشرية الطويلة في ممارسة الحروب دلت على أن الحرب لا تحل مشكلة، فإن أسلحة الدمار الحديثة أفادت معنى جديدا عن الحرب وهو أنها، زيادة على عدم جدواها في حل المشاكل، قد أصبحت وبالا على المنهزم والمنتصر.. بل انه أصبح واضحا أن الحرب العلمية الحديثة، إذا نشبت، فلن يكون فيها منهزم ومنتصر، وإنما سيكون فيها فناء المدنية الحاضرة، وتأخير عقارب ساعة التقدم الذي دفعت فيه البشرية كثيراً من عرقها ومن دموعها ومن دمها .
إن البشرية اليوم تقف على مفترق الطرق، ولا تملك طويلا من الوقت تنفقه في التردد وفي ممارسة الجهود التي لا تتسم بميسم الحذق والذكاء، ولا بد لها من سلوك أحد طريقيها: إما الطريق الصاعد إلى مشارف الحضارة والسلام، أو الطريق الهابط إلى مزالق الهمجية والحروب.. على أن الحروب الحديثة هي الفناء والدمار.. ومن أجل ذلك قلنا آنفا أن حاجة البشرية إلى السلام في الوقت الحاضر هي حاجة حياة أو موت..

المدنية الجديدة..


على أن السلام لا يمكن أن يتحقق بغير مدنية جديدة.. أو قل روح مدنية جديدة، ينفخ في هيكل المدنية الغربية الآلية الحاضرة فيوجهها وجهة جديدة ويعطيها قيماً جديدة.. فالمدنية الغربية الآلية الحاضرة - مدنية المظاهر الخارجية الكبيرة، والإنتاجيات الكبيرة، والمدن الكبيرة.. هي مدنية الجماعات التي تطوع الفرد لنظامها.. والمدنية الجديدة، التي تجعل السلام ممكنا، يجب أن تكون مدنية القيم الداخلية الدقيقة.. مدنية الفرد الذي يتوسل بوسيلة الجماعة ليحقق حريته الداخلية وليمكن رفقاءه من أن يحقق كل منهم حريته هذه الداخلية.
إن عصرنا الحاضر يمكن أن يوصف بأنه عصر الذرة: ويمكن أن يوصف بأنه عصر استكشاف الفضاء الخارجي، ولكن ينطبق عليه أكثر، كونه عصر رجل الشارع.. عصر الرجل العادي المغمور، الذي استحرت على مضجعه شمس الحياة الحديثة، فنهض وحمل عصاه على عاتقه وانطلق يسير في الشعاب، يبحث عن حياته وعن حريته وعن نفسه، بعد أن أذهل عن كل أولئك طوال الحقب السوالف من تاريخه المكتوب وغير المكتوب.. ذلك التاريخ الذي أخذ يراجع اليوم، ويكتب على هدى قيم جديدة.. وهذه القيم الجديدة هي التي ستوجه المدنية الغربية الآلية الحاضرة وجهتها الجديدة وتبني بذلك المدنية الجديدة..

المدنية الغربية ذات وجهين ..


إن المدنية الغربية الآلية الحاضرة عملة ذات وجهين: وجه حسن مشرق الحسن، ووجه دميم. فأما وجهها الحسن فهو اقتدارها في ميدان الكشوف العلمية، حيث أخذت تطوع القوى المادية لإخصاب الحياة البشرية، وتستخدم الآلة لعون الإنسان.. وأما وجهها الدميم، فهو عجزها عن السعي الرشيد إلى تحقيق السلام، وقد جعلها هذا العجز تعمل للحرب، وتنفق على وسايل الدمار أضعاف ما تعمل للسلام، وأضعاف ما تنفق على مرافق التعمير..
فالوجه الدميم من المدنية الغربية الآلية الحاضرة هو فكرتها الاجتماعية، وقصور هذه الفكرة عن التوفيق بين حاجة الفرد وحاجة الجماعة.. حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة، وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة، وفي الحق إن العجز عن التوفيق بين هاتين الحاجتين: حاجة الفرد، وحاجة الجماعة، ظل آفة التفكير الاجتماعي في جميع عصور الفكر البشري..
وهذا التوفيق هو إلى اليوم القمة التي بالقياس اليها يظهر العجز الفاضح في فلسفة الفلاسفة وفكر المفكرين، ويمكن القول بأن فضيلة الإسلام لا تظهر بصورة يقصر عنها تطاول كل متطاول إلا حين ترتفع المقارنة بينه وبين المذاهب الأخرى إلى هذه القمة الشماء.

الفضل للتوحيد..


وقد استطاع الإسلام، بفضل التوحيد، أن يفض التعارض البادي، لدى النظرة الأولى، بين حاجة الفرد وحاجة الجماعة وأن ينسق هاتين الحاجتين في سمط واحد، تكون فيه حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة امتدادا لحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة، وبعبارة أخرى، استطاع أن يجعل تنظيم الجماعة وسيلة إلى الحرية. وهو بعد هذا إنما استطاع هذا التنسيق لأن تشريعه يقع على مستويين: مستوى الجماعة ومستوى الفرد: فأما تشريعه في مستوى الجماعة فيعرف بتشريع المعاملات، وأما تشريعه في مستوى الفرد فيعرف بتشريع العبادات، والسمة الغالبة على تشريع المعاملات أنه تشريع ينسق العلاقة بين العبد والعبد.. والسمة الغالبة على تشريع العبادات أنه تشريع ينسق العلاقة بين العبد والرب.. وليس معنى هذا أن كلا من هذين التشريعين يقوم بمعزل عن الآخر، وإنما هما شطرا شريعة واحدة، لا تقوم إلا بهما معا.. فتشريع المعاملات تشريع عبادات في مستوى غليظ، وتشريع العبادات تشريع معاملات في مستوى رفيع لأن سمة الفردية في العبادات أظهر منها في المعاملات.

الفردية هي المدار..


وهذه الفردية هي جوهر الأمر كله، وهي التي عليها مدار التكليف، ومدار التشريف.. وقد وكدها الإسلام توكيدا، إذ لا تنصب موازين الحساب، يوم تنصب، إلا للأفراد. والله تعالى يقول ((ولا تزر وازرة وزر أخرى)) ويقول عز من قائل ((فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره.)) ويقول ((ونرثه ما يقول ويأتينا فردا)) ويقول ((إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً * لقد أحصاهم وعدهم عداً * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا)) ويقول ((ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة))..
فالفرد في الإسلام هو محور التشريع بالأصالة، والجماعة بالتبعية للفرد، ذلك بأن الفرد لا يتم استواؤه إلا بتجاربه في الجماعة، فكأن العبادة في الخلوة مدرسة تعده الاعداد النظري ولا يجد فرصة التطبيق العملي إلا في سلوكه في الجماعة وتمرسه بمعاملة أفرادها..
فليست للعبادة قيمة إن لم تنعكس في معاملتك الجماعة معاملة هي في حد ذاتها عبادة، ولقد قال المعصوم: ((الدين المعاملة)). ثم جاءت تشاريع الإسلام سواء في الحدود، أو في القصاص، مهيئة للتعاون مع تشاريع العبادة على تربية الفرد، تربية ينتفع بها هو في المكان الأول وتنتفع بها الجماعة في المكان الثاني.. ولنسق لذلك مثلا حد السرقة، وهو من الحدود الأربعة الأصيلة، فإن السارق إذا سرق أقل من النصاب لا يقطع، وإذا سرق النصاب من غير الحرز لا يقطع، وإذا سرق النصاب من الحرز نظر في أمره فإذا كان جائعاً جوعاً ملجئا لا يقطع، فإن لم يكن جائعا فهل هو مريض؟ فإن كان مريضا لا يقطع، وإنما يلتمس له الطب.. فإن لم يكن الحد مدروءا عنه بأي شبهة، وقامت عليه أركان السرقة كلها قطع. والحكمة من وراء القطع العلاقة القائمة بين العقل واليد.. فالإنسان الجاهل دائما يحاول حل مشكلته باليد، فهو إن ناقشته مثلا، وأعيته الحجة بادر إلى العنف بيده.. وحاجة الله إلى الخلق قلوبهم وعقولهم.. ((لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم)) وللعلاقة القائمة بين اليد والعقل رأت حكمة الشارع الحكيم أن اليد إذا تعطلت بالقطع نشط العقل، وتفتق ذكاؤه عن أساليب للتعامل أقرب إلى المسالمة منها إلى المناجزة، وكذلك قطعها، وحقق بهذا القطع، الذي لم يكن منه بد، مصلحة للفرد بإيقاظ عقله، ومصلحة للجماعة بصون حقوقها من الاعتداء عليها.. وهذا ما أردناه حين قلنا آنفا أن تشاريع الإسلام، سواء في الحدود أو في القصاص، مهيئة للتعاون مع تشاريع العبادة على تربية الفرد تربية ينتفع بها هو في المكان الأول، وتنتفع بها الجماعة في المكان الثاني..
والسلام الذي بدأنا بذكره توطئة هذا البحث لا يحل على الأرض إلا إذا بلغ كل فرد أن يكون في سلام مع نفسه، فإن النزاع المسلح، وغير المسلح، بين الجماعات، إن هو إلا صورة للصراع الداخلي في كل بنية فردية على حدتها، في مضمار انقسامها بين ظاهر تعلنه أمام الناس، وباطن تسره في حناياها وتنافق به.. ولا يمكن للفرد أن يكون في سلام مع نفسه، إلا إذا أعاد إليها وحدة الفكر والقول والعمل.. فأصبح يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، ثم لا تكون عاقبة عمله هذا إلا خيراً للناس وبراً بهم.. وهكذا يكون فوق مستوى قوانين الجماعة، لأنه بفضل تربيته ورياضته نفسه قد أصبح من المجودين للسلوك المحسنين و ((ما على المحسنين من سبيل))..
فإذا كان الفرد بهذه المرتبة من كمال الشمائل، فهو الرجل - هو الحر - ولا ينجب هذا الرجل إلا المجتمع الكامل، وهو المجتمع الذي يقوم على ثلاث دعامات: العدالة السياسية، وتسمى الديمقراطية، والعدالة الاقتصادية، وتسمى الاشتراكية، والعدالة الاجتماعية، وتعني محو الطبقات التقليدية التي عرفها تاريخ الصراع الطبقي عبر العصور وازداد تبلوراً وحدة منذ النهضة الصناعية في القرنين الأخيرين.. والعدالة الاجتماعية، إلى حد كبير، تجيء كنتيجة للمساواة في السلطة والمساواة في المال.. الديمقراطية والاشتراكية.. ثم هي أثر مباشر من آثار التربية الفردية الكاملة..
ثم إن هذا المجتمع الكامل، فوق ما ذكرنا، تقوم علائق أفراده في القاعدة على قانون دستوري، وفي القمة على رأي عام سمح، لا يضيق بأنماط الشخصيات المتباينة، لأنه يرمي إلى تربية الفرد الذي ينماز عن القطيع بأصالة وبفردية..
والقانون الدستوري، في الفكر الإسلامي، هو القانون الذي يملك التوفيق بين حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة، وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة، وهكذا لا يضحي بالفرد في سبيل الجماعة، ولا يضحي بالجماعة في سبيل الفرد، وإنما هو قسط موزون بين ذلك.. يحقق حين يطبق، بكل جزئية من جزئياته، مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة في آن معا، وفي سياق واحد، ولقد ضربنا لذلك مثلا بقانون حد السرقة.
والفرد الذي يحقق السلام مع نفسه هو المسلم الذي قال عنه المعصوم ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) و ((المسلمون)) هنا تفهم بالمعنى العام، وتعني الناس كلهم، فالمسلم تسلم كل الخلائق من لسانه ويده ومن خواطر ضميره المغيب. ولقد قال المعصوم أيضا ((الإسلام قيد الفتك)) ويعني أن المسلم غير فتاك، لا بجارحة ولا بخاطر يتحرك في ضميره فيه نية الفتك، ولذلك فقد قال المعصوم ((سوء الخلق ذنب لا يغتفر وسوء الظن خطيئة تفوح)) وقال ((كل المسلم على المسلم حرام.. دمه وماله وعرضه وأن يظن به ظن السوء)).
وأنت، إذا فهمت سعة إحاطة الحديث في هذا المستوى، علمت أن المسلم في عبارة ((كل المسلم)) تعني المعنى العام، وهو مطلق خلق الله، من الشجر والحجر والمدر، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى ((أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون؟)) وعلمت أن المسلم في عبارة ((على المسلم)) تعني المعنى الخاص المقصود من قوله تعالى ((إلا من أتى الله بقلب سليم)) سليم من الانقسام بين سيرة معلنة تخالف سريرة مبطنة، أو قل سليم من دقائق الرياء الاجتماعي، الذي هو آفة أكابر العارفين. فالقلب السليم هو القلب ((السلام))..
هناك حديث يقول ((لكل شيء قلب، وقلب القرآن يس، ويس لها قلب)) ولقد عرف العارفون أن قلب يس قوله تعالى ((سلام قولا من رب رحيم)) فكأن السلام في الإسلام، هو خلاصة الخلاصة، وأصل الأصول، وعبارة ((السلام عليكم)) هي تحية المسلم حين يلقى الناس في جميع أوقات يومه.. هذه العبارة الرائعة، المشرقة الحروف، الحلوة الجرس، قد أنى لها أن تطبق في واقع الناس اليومي تطبيقا عمليا، تتخذ له وسائله الصحائح، لكي يحل في الأرض السلام، وفي قلوب الناس المحبة، وعلى وجوههم طفح البشر والمسرة..