النفس المرضية لم تدخل في الوجود
وأنت تقول عني: "وأن نفسك انتقلت من النفس الراضية إلى النفس المرضية، فإني أحب أن ترشدني إلى الطريق" فاعلم أن نفسي لا تزال تجاهد في منطقة الراضية، ولكن طالعها من صفاء اليقين ما به علمت أن الرضا بالله ليس أمراً كبيراً، بل يجب الفرح بالله، إذ هو متولي أمورنا، ومدبر معاشنا، ومعادنا، فإن في هذا ما يوجب نهاية الفرحة، ونهاية المسرة والبهجة.. وأحب أن أخبرك بأن النفس المرضية لم تدخل في الوجود، إلى الآن، ولقد كانت مجاهدة الأنبياء والمرسلين، كلهم، في منطقة النفس الراضية.. ولقد يحدثنا القرآن عن المعصوم فيقول: "فاصبر على ما يقولون، وسبح بحمد ربك، قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها، ومن آناء الليل فسبح، وأطراف النهار، لعلك ترضى".. ويقول عنه: "ولسوف يعطيك ربك فترضى".. وبداية النفس المرضية هي قمة النفس الراضية.. ولكن هناك معنى دقيقاً، في هذا الباب، هو أن النفس لا تدخل في مجاهدة النفس الراضية إلا إذا كانت مصطفاة لمرتبة النفس المرضية، في مآلها.. فكأنها "مرضية" في حالة مجاهدتها في "الراضية".. ولكن النفس المرضية، تماماً، لا ترى ما تكره، ولا تتعرض لنار المجاهدة، فهي مكفية المؤونة من جميع الوجوه.. "لهم ما يشاءون فيها، ولدينا مزيد" ..
النفس بين الصحة والمرض
ويعجبني كثيراً قولك: "ولكني ما زلت متمسكاً بالحياة، وأرى أنها، إذا زالت منها العقبات التي أكابدها، تستحق أن تعاش، وذلك ليس لملاذها، ولكن للوصول إلى المعرفة، التي توصل المرء إلى التيقن والرضا.. ها أنت ترى أنني متقوقع في داخلي ولكن، كلما حانت الفرصة للتخلص من آلامي الداخلية، من حين لآخر، انفتحت نفسي للنقاش في مسائل العلم، والأدب، وفي مسائل الدين المختلفة على وجه الخصوص"..
إن نفسك صحيحة يا صديقي، أتم الصحة، وهي نفس حية، متفتحة على مشاكلها.. ومشاكل الدنيا، هي مشاكل الآخرة، وليس خلاص منها إلا بتحصيل "المعرفة التي توصل المرء إلى التيقن والرضا" على حد تعبيرك.. ورب نفوس نراها غير قلقة، وغير معذبة فنغبطها، وهي أحق برثائنا منها بغبطتنا، لأنها نفس مريضة ـ نفس غافلة عن مشاكلها، ومن ثم، غير مشغولة بحلها ـ ولابد لها من يوم تتفتح فيه على تلك المشاكل بعد غفلة "لقد كنت في غفلة من هذا، فكشفنا عنك غطاءك، فبصرك اليوم حديد" ولكن بعد فوات الأوان..
الدليل الذي لا يضل ولا يضلل
وأما كيفية بلوغ المراتب، في مراقي النفوس، فقد كان يمكن التفصيل فيه، ولكنه غير ضروري قبل الشروع في العمل: ولبداية العمل فإني أرشح لك دليلاً لا يضل، ولا يضلل، وهو المعصوم، محمد بن عبد الله.. وأوصيك بأمرين في ذلك: الاطلاع على كتيب الحزب الجمهوري "طريق محمد"، ثم الاستزادة على ذلك بالاطلاع على كتب السيرة، وكتب الشمائل المحمدية، حتى تنشأ، بينك وبين محمد، علائق الحب، والثقة، وتمام التسليم، والإتباع.. فإنك لا تسلم لله، حتى تسلم لمحمد: وإنك لا تتبع الله حتى تتبع محمداً بإتقان تقليده، والعمل على منواله، عن حب وثقة، ويومها سترى ثمار قلقك الحاضر استقراراً، وطمأنينة، وعرفاناً بالله..
الشريعة: بين الجماعية والفردية
وأنت تسأل: "كيف أعرف شريعتي التي أوتاها من الله بدون واسطة؟" والجواب: إنك لن تعرف، قبل أن تبلغ مشارف الفردية، بتفريد التوحيد.. فأنت لا تبدأ بشريعة فردية، وإنما تبدأ بشريعة جماعية، هي التي بين أيدينا الآن.. فإذا جودت العمل بها، على هدى محمد، بدون زيادة، أو نقصان، فإنك خليق، أن تعرف ذلك في حينه.. ولن تكون معرفتك، يومئذ، موضع شك.. وأنت تقول: "نحن في الحق فرادى، وسنعود لله فرادى.. ولكنك داعية، فما هي الصلة التي تربطك بالمدعوين، فيما يتعلق بالتجربة الفردية التي خضتها؟"..
إن الأمر ليس مسألة شخصية، بمعنى أنه لا يتعدى الشخص الذي يقوم به، وإنما هو أمر متعد.. فكما أن الناس، في الشريعة الجماعية، يقتدي بعضهم ببعض، ويتأسى بعضهم ببعض، فكذلك، في الشريعة الفردية، يقع الإقتداء، ويقع التأسي.. وأما التقليد فإن قدوته محمد.. وأنت تسأل عن الصلة التي تربطني بالمدعوين، فاعلم، إذن، أنها صلة الداعية إلى تقليد محمد، على أن يكون التقليد وسيلة إلى الاستقلال عن التقليد ـ إلى الأصالة ـ وحين أدعو إلى الأصالة، عن طريق التقليد، إنما أدعو إلى تجربة خضتها، وعرفتها، وأستطيع أن أستخرج سندها، وأدلتها، من أصل الدين.. كما فعلت مثلاً، في رسالة الصلاة التي قرأتها، وتكرمت بإبداء ملاحظاتك عليها، وقلت عنها: أنك ترى أن فيها كثيراً من المثالية، وقد بدأت هذا الخطاب بالرد على هذه القولة..
إن الأمر الذي سرت فيه يقبل التفسير للآخرين، ولكن على الآخرين: أن يؤمنوا بما لا يقع تحت فهمهم، باعتبار أن كرامة العقل تقضي بألا ننكر كل ما لا نفهم، وألا نجعل أنفسنا حجة على الحق، اللهم إلا إذا ظهر لنا باطل ما نحن مدعوون إليه من الوهلة الأولى، وإلا فقد وجب التصديق ريثما نعلم.. وأنت تسأل عن صلاتي، وحجي، وصومي، وزكاتي، وتسأل أيضاً عن شهادتي، إذا صح أن كلمة "الخ" تعني كل أولئك.. وأنت تفعل ذلك في لطف بالغ.. والحقيقة أني لا أعتبر أن هناك شيئاً شخصياً فيما يتعلق بي، يعتبر السؤال عنه تعدياً على حرمة شخصي.. وأنا أحاول ألا أجعل لشخصي حرماً خاصاً ـ حيث أمكنني ذلك ـ وحيث عجزت، فإني لا ألوم سائلي، وإنما ألوم نفسي.. ورد في كتاب "رسالة الصلاة" في صفحة 36 أن المعصوم قال: "قولي شريعة وعملي طريقة وحالي حقيقة)).. وورد فيها في صفحة 46 ـ وهو قول أريد لك أن تتعمقه ـ "إن الإسلام، في حقيقته، ليس ديناً بالمعنى المألوف في الأديان، وإنما مرحلة العقيدة فيه مرحلة انتقال إلى المرحلة العلمية منه ـ مرحلة الشريعة فيه، مرحلة انتقال إلى مرتبة الحقيقة ـ حيث يرتفع الأفراد، من الشريعة الجماعية، إلى الشرائع الفردية، التي هي طرف من حقيقة كل صاحب حقيقة، وتكون الشريعة الجماعية محفوظة، ومرعية، لمصلحة السلوك، والتربية، والتنظيم، للقاعدة البشرية، التي تستجد كل يوم، وتجاهد بالتجارب كل حين لترقى المراقي.. والذين يدخلون في مراتب الشرائع الفردية، هم المسلمون حقاً ـ هم الأحرار ـ الذين سبقت الإشارة إليهم، في هذا الحديث، حين قلنا: إن الحر حرية فردية مطلقة، هو الذي استطاع، أن يعيد وحدة الفكر، والقول، والعمل، إلى بنيته.. فأصبح يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، ثم لا تكون عاقبة عمله إلا خيراً للناس، وبراً بهم، وبذلك يستطيع أن يعيش فوق قوانين الجماعة، لأنه ملزم نفسه بشريعته الفردية، وهي فوق مستوى الشريعة الجماعية، في التجويد، والإحسان، والبر، والتسامي".
فقد وردت الإشارة هنا، إلى الشريعة، والحقيقة.. والأصل أن لكل شريعة حقيقة.. فالحقيقة بالنسبة للشريعة، كالثمرة بالنسبة للشجرة.. فإذا رأيت قائماً بالشريعة، ولا حقيقة له، فاعلم أنه، إنما يتعهد شجرة شوك لا ثمرة لها.. ولقد قال السيد المسيح: "كل شجرة لا تصنع ثمراً تقطع وتلقى في النار".
والشريعة قواعد سلوكية لتنظيم الحياة يقوم الأمر فيها على العقيدة والإتباع، والحقيقة معارف إلهية لتنظيم الحياة يقوم الأمر فيها على العلم والاقتناع.. والشريعة تفاريق، والحقيقة جمعية..
"قل إن صلاتي، ونسكي، ومحياي، ومماتي، لله رب العالمين* لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين".. "إن صلاتي ونسكي" شريعة و"محياي ومماتي" حقيقة..
فحين تكون الشريعة لتنظيم الحياة، وهي منفصلة عنها، تكون الحقيقة لتنظيم الحياة وهي طرف منها.. فالشريعة قواعد، والحقيقة حياة..
اقرأ مرة أخرى الفقرة المنقولة أعلاه "والذين يدخلون في مراتب الشرائع الفردية، هم المسلمون حقاً ـ هم الأحرار ـ الذين سبقت الإشارة إليهم، في هذا الحديث، حين قلنا: إن الحر حرية فردية مطلقة، هو الذي استطاع، أن يعيد وحدة الفكر، والقول، والعمل، إلى بنيته.. فأصبح يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول"..
فصلاتي، وصومي، وحجي، وزكاتي، هي في مجموعها، وفي تفريقها، حياتي كلها في منشطي، ومكرهي.. في يقظتي، ونومي.. في صحتي، ومرضي.. وهي حياة يجب أن تكون لله ـ راضية به، مصححة لحالها في الرضا، حتى تبلغ بذلك أن تكون فرحة بالله، أشد الفرحة..
الله محض الخير
إن الحقيقة هي معرفة أسرار الألوهية، وفي قمة أسرار الألوهية، أن الله خير محض وأن الشر ليس عنده، وإن كان منه.. ولا يكون الشر، إلا حين نمشي أمام الله كما ورد التعبير في رسالة الصلاة، وأوردته أنت في كتابك الطريف.. فإذا سرنا خلفه تماماً، ولم نتقدمه إطلاقاً، لا في العلن، بالقول، (دع عنك العمل) ولا في السر، بالخاطر، ولا في سر السر، بما انطوى عليه العقل الباطن، فإنا لا نرى الشر إطلاقاً، ولا يرانا بل نعيش في محيط الخير المطلق.. ومن أسرار الألوهية الرفيعة، أن الوجود، المنظور منه وغير المنظور، (فيما نتوهم) لا يتحرك فيه متحرك، ولا يسكن ساكن، إلا بفعل الله وحده، لا شريك له.. فإذا بلغت، بالشريعة، اليقين بهذه الحقيقة فقد أصبح عملك، في اللاحقة، مراقبة ما جرى به القلم في السابقة.. وهذه هي عبادتك، في جملتها وفي تفاريقها..
ولما كانت الشريعة الفردية هي طرفاً من حقيقة كل صاحب حقيقة، كما وردت الإشارة بذلك في "رسالة الصلاة"، فإن فيها حظَاً من التفريق أيضاً، ولكن شرحه يطول، وما أجد الفراغ الذي يمكنني من التفصيل الآن.. ولكنك إذا عدت أنت، عدت أنا أيضاً: ولكن في وقت لاحق، حيث أملك الفراغ يومئذ، إن شاء الله أكثر من الآن..
والآن، سأختم هذا الكتاب، وأعلم أن فيه فجوات جمة تحتاج إلى ملء.. وأعلم أنك ستسأل عن كل ذلك، ولكن جواباتك المقبلة، قد لا تكون محشوة بالأسئلة كجوابك الماضي، وحينئذ سيمكن التفصيل أكثر مما أمكن الآن..
أرجو أن تقرأ سلامي على الأخ الكريم الأستاذ عبد الله حامد الأمين وأرجو أن تخبره أني أرسلت له كتاب ابن عربي عقب عيد الفطر مع أحد الأخوان، وكلفته أن يزوره بنفسه، ثم إني، عندما حضرت لعيد الأضحى، زرت الأستاذ لأراه، ثم لأعلم علم الكتاب الذي أرسلته، ولكني لم أجده، وعندما رجعت لكوستي، زارني الأخ الذي كلفته بتوصيل الكتاب، ومنه علمت أنه زار الأستاذ ومعه الكتاب، ولما لم يجده، رجع بكتابه معه، وأعطاه ذا النون ليوصله إليه، ولما وصل كتابك، ومنه علمت أن الكتاب لم يصل، وكان معي هنا الأخ محمد فضل فقد كلفته، عند رجعته، أن يعمل على توصيل الكتاب من ذا النون، والآن فإني لا أدري هل وصلكم الكتاب أم لا يزال عند ذا النون ـ إذا كانت الأخرى فإن تلفون ذا النون 77089 الخرطوم فأرجو الاتصال به لاستعجال الكتاب ـ فإن وصوله إليكم يهمني كثيراً، واسم الكتاب "فصوص الحكم" للشيخ الأكبر محي الدين بن عربي.
هذا ولك وللأستاذ عبد الله فائق احترامي، وتحيتي ..
المخلص
محمود محمد طه