إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

القرآن ومصطفى محمود والفهم العصرى

الفصـل الثالث عشر

لماذا.. إعجاز القرآن؟



وهذا، أيضا، فصل قليل الأهمية.. وهو بسبيل من الفصل السابق، وفي معناه.. ولكنه أكثر ضررا بالعقول منه..
وأنت تفترعه بقولك: (القرآن كتاب حافل بالنبوءات).. ثم تمضي لتقص علينا كيف أنه تنبا بأحداث، ثم كيف تحققت هذه الأحداث على وفق ما أنبأ.. وما قيمة هذا؟؟ قيمته أنك تريد أن تقول: أن القرآن كتاب منزل من الله الذي يعلم الغيوب، وما هو بكتاب موضوع من لدن محمد بن عبدالله!! هذا هو كل همك!! ألا ترى أنه هم صغير، صغير لا يليق برجل في مثل قامتك هذه، وفي زمن مثل زمنك هذا الذي تعيش فيه؟؟
دع هذا للأشياخ، فقد استغرقهم، واستغرقوه.. وأقبل لتتحدث عن القرآن بما يليق بك وبزمانك..
القرآن هو همس أقدام ذات (نفس) الله وهي تتنزل من الإطلاق إلى القيد.. ولقد تركت هذه الأقدام آثارها في الزمان والمكان.. ثم جاء القرآن يقتفي هذه الآثار، ليبينها للسالكين إلى الله في إطلاقه.. قال تعالى عنه، ليفيد هذا المعنى: “سنريهم آياتنا، في الآفاق، وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم أنه الحق.. أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد؟؟ * ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم.. ألا إنه بكل شيء محيط..).. ولما كان تعالى بكل شيء محيطا فقد أصبح لا بد من لقائه، وما يتمارى بذلك إلا الغافلون.. ولزيادة توكيد هذا اللقاء جاء قوله، تبارك، وتعالى: "يأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا، فملاقيه".. ولا تكون ملاقاة الله بقطع المسافات.. فإنه تعالى قد قال: (ما وسعني أرضي، ولا سمائي وإنما وسعني قلب عبدي المؤمن).. ولذلك فإنا إنما نلقاه فينا.. قال تعالى، في ذلك: "من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه".. وقال المعصوم: (من عرف نفسه فقد عرف ربه).. وقال أصحابنا: (سيرك منك وصولك إليك).. وأصبح واضحا، لأرباب القلوب، أن لقاءنا الله إنما يكون بتقريب صفاتنا من صفاته.. إنما يكون بتخلقنا بأخلاقه.. إنما يكون بمحاكاته.. إنما يكون باقتفائنا آثاره.. والقرآن جاء يقتفي هذه الآثار.. وهذا هو معنى قولنا: أن القرآن هو همس أقدام الذات الإلهية، وهي تنزل منازل التدني، والتدلي، من الإطلاق إلى القيد.. وإنما السير إليها هو باقتفاء هذه الآثار: (فارتدا على آثارهما قصصا).. وهذه الآثار لا تُرى بعين الرأس، وإنما تُرى بعين العقل، ولذلك فإنه، تبارك، وتعالى، قد وهبنا العقول من أجل أن نسير إليه باقتفاء آثاره.. ثم أنه قوى عقولنا برسل الملائكة، ثم أنه قواها برسل البشر ليرسموا المنهاج، ويبينوا معالم الطريق.. وقد جاء محمد المعصوم فأبان المعالم بتجسيده للقرآن، في الدم واللحم، حتى لقد صح أن تقول عنه عائشة: (كانت أخلاقه القرآن).. ثم دعانا إلى تقليد محمد فقال: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني، يحببكم الله).. وقد سار محمد إلى الله سيرا يوجهه، ويهدي خطاه الله، بواسطة جبريل، وبغير واسطة.. "ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى".. فقد سار جبريل أمام محمد يقتفي آثار الحق، لا يخطئها، وسار محمد بسيره، حتى قويت أنواره، فاستقل عن جبريل، وأخذ يسير خلف الله بلا واسطة..
ونحن، إنما نسير خلف محمد ريثما تقوى أنوارنا، فنسير خلف الله بلا واسطة.. وهذا هو لقاؤنا الله.. هو لقاء وسيلته العقل.. ولا يتخلف العقل عن هذا اللقاء إلا لغواشي الجهالات، والأوهام، والأباطيل.. وإنما أرسل الله جبريل، وأرسل محمدا، لتخليص العقول من هذه الأغلال.. قال تعالى: "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم، ولعلهم يتفكرون"..
فإذا قويت العقول بفضل الله، ثم بفضل تقليد محمد، بإتقان، في اسلوب عبادته، وفيما تيسر من أسلوب عادته، فقد تأهلت لتستقل عن التقليد، ولتعيش في أصالة، ولتتلقى عن الله كفاحا، وقد سقطت من بينها وبينه الوسائط.. والتلقي عن الله بلا واسطة يورث الاستقامة.. ولقد تحدثنا عن الاستقامة كثيرا في هذا الكتاب، وفي عدة مواضع من كتبنا.. وغاية الاستقامة ما حكى الله عن النبي الكريم، في قمة معراجه.. قال تعالى عنه: "إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى".. وهذه حال من يكون مع الله على أدب الوقت.. وأدب الوقت مع الله أن تعيش في اللحظة الحاضرة، قائما بالواجب المباشر جهد الإتقان، ثم، بعد ذلك راضيا بما يجريه الله عليك، من غير أن تذهب نفسك حسرات عند الفشل، ومن غير أن يستبد بك الفرح عند النجاح.. "لكيلا تأسوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم".. هذا هو نهج الحياة الكاملة التي تحررت من الخوف، واستغرقت في الأنس، والطمأنينة، والحب.. هذه هي حياة الفكر، وحياة الشعور.. وطريقها القرآن.. وما أنزل القرآن إلا من أجلها وهي، هي معجزة القرآن الباقية، والخالدة، والمستمرة البقاء، والخلود، باستمرار ترقيها، وتطورها، وتجددها، محاكية لصفة الله، تبارك، وتعالى، في قوله، عن نفسه،: "كل يوم هو في شأن".. ثم هو لا يشغله شأن عن شأن..
لا أجد هنا الحيز لأتحدث أكثر عن إعجاز القرآن، وموعدنا بذلك، إن شاء الله، كتابنا الذي وعدنا به القراء في هذا الكتاب، وهو عن (القرآن بين التفسير والتأويل).. وإني لأرجو الله أن يعينني على إخراجه..
ولكني ما أحب أن أزايل مقامي هذا قبل أن ألفت نظرك إلى أن إعجاز القرآن ليس، فحسب، في لغته، ولا هو في علميته بآيات الآفاق، من أرض أو سموات، وإنما معجزته، كلها، في آيات النفوس الواردة إليها الإشارة في قوله تعالى: "سنريهم آياتنا، في الآفاق، وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم أنه الحق.. أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد؟؟"..
ومعلوم، عند أرباب القلوب، أن الإنسان هو الكون الأكبر، وأن العوالم، كلها، هي الكون الأصغر.. فالإنسان هو مقصود الله بالأصالة، وهو موضع نظر الله إلى مخلوقاته.. والأكوان، جميعها، هي مقصود الله بالحوالة، وهي مطية الإنسان، ووسيلة سيره إلى ربه – إلى كماله – إعجاز القرآن إنما في كونه علم النفس.. وهو في ثالوثه المحكي كثيرا في الأسماء الثلاثية: (الله الرحمن الرحيم).. أو (العالم المريد القادر).. أو (الخالق البارئ المصور).. ولقد حكيت، أحكم حكاية، في قوله، تبارك وتعالى: "لإيلاف قريش * إيلافهم رحلة الشتاء والصيف * فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف".. أرجو أن تفكر في هذا.. وللعون أحيلك، في هذا الكتاب، إلى فصل (لا إله إلا الله)..