إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

القرآن ومصطفى محمود والفهم العصرى

إنما نعرف الله بأفعاله


وأنت تقول: (أما تفسيرالقيامة بنظريات علمية من اصطدام القمر بالأرض أو فناء الشمس.. أو تقلص الكون واحتراقه أو تمدده في الفضاء.. أو اصطدام المادة بالمادة المضادة.. فكل هذا فضول لا مبرر له.. فالإنسان يموت بأسباب وبدون أسباب. وكما يموت الإنسان الفرد تموت الأمة وتموت الحضارة وتموت أجناس الحيوان بأسرها.. وتموت النجوم في أفلاكها. لا حاجة إلى كدح الذهن في أسباب للنهاية والتناهي. إنه الناموس الذي أقامه الصانع الذي صنع كل شيء. وإذا قال لنا الصانع انه سيقيم قيامة.. فإننا لسنا بحاجة إلى اصطناع نظريات.. وأسباب.. ومبررات.. والمبررات لمن.. إنه الآمر الذي يأمر ولا سواه) ذلك قولك من صفحة 195، وهو قول لا مبرر له، ولا موضع له، وبخاصة ممن يتحدث عن تجلي ذات الله.. إن الذي كان واجبا عليك هو أن تحصر نفسك في الخوض فيما صرفت القول عنه بقولك (فكل هذا فضول لا مبرر له) وألا تخوض فيما خضت فيه من تجلي ذات الله.. ألم يقل المعصوم: (تفكروا في مخلوقاته، ولا تتفكروا في ذاته فتضلوا)؟؟ وكيف يجوز لرجل مثلك أن يقول: (أما تفسيرالقيامة بنظريات علمية من اصطدام القمر بالأرض أو فناء الشمس إلخ.. إلخ) إلى أن تقول: (فكل هذا فضول لا مبرر له)؟؟ أليس هذا الذي تحاول التزهيد فيه يتفق مع القرآن الذي هو موضوع كتابك؟؟ أولم يقل الله: (أولم ير الذين كفروا أن السموات، والأرض، كانتا رتقا ففتقناهما؟؟ وجعلنا من الماء كل شيء حي.. أفلا يؤمنون؟؟)؟؟ من السحابة الواحدة المرتتقة فتق الله السموات، والأرض.. ثم أنه، في نهاية الدورة، سيعيدها إلى الرتق، بعد الفتق.. قال تعالى في ذلك: "يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب.. كما بدأنا أول خلق نعيده، وعدا علينا.. إنا كنا فاعلين": أقرأ، مرة أخرى: "كما بدانا أول خلق نعيده".. ثم، دعوتك هذه: (فكل هذا فضول لا مبرر له)، أهي دعوة إلى العلم؟؟ أم هل هي دعوة الى الجهل؟؟ أهي دعوة إلى التوحيد؟؟ وكيف؟؟.. والله تعالى يقول "سنريهم آياتنا، في الآفاق، وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم أنه الحق.. أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد؟؟" وأنت رجل عالم، وطبيب في ذلك، ثم تطيب نفسك أن تقول: (فالإنسان يموت بأسباب وبدون أسباب)!! أليس هذا قولا نكرا؟؟ لقد كان الواجب العلمي يقضي أن تقول: فالإنسان يموت بأسباب نعرفها، وبأسباب لا نعرفها.. وقد تكون هذه الأسباب هي مجرد انقضاء أجله الذي أجله الله.. فهذا في حد ذاته سبب..
أما والله إن الصدر ليكاد يضيق عند قراءة قولك: (وإذا قال لنا الصانع أنه سيقيم قيامة.. فإننا لسنا بحاجة على اصطناع نظريات.. وأسباب.. ومبررات.. والمبررات لمن.. إنه الآمر الذي يأمر ولا سواه).. وكيف بربك تريد أن تعرف ربك إن لم تفكر في دقائق صنعه، وفي الحكمة التي يقوم عليها صنعه؟؟ إنك يا صديقي مضطرب، متناقض، تخوض فيما لا يصح الخوض فيه، وتمسك عما يجب الخوض فيه، وتنسب هذا، وذاك، إلى الدين، في مظهر المتحرج، المتورع، تارة، وفي مظهر العالم، المتمكن، تارة أخرى..
وفي صفحة 196 أنت تقول إشارة إلى بعض كلمات القرآن: (وكلها رموز للأمر.. ولكلمة "كن فيكون".
لقد جاء الأمر.. وهذا كل شيء.
إنه الناموس أن يكون لكل شيء قيامته. أن تكون هناك قيامة صغرى لكل منا بالموت. وقيامة كبرى يفنى فيها الزمن في الأبد ويعود الكل إلى أصله ومنبعه.
لا محل لشك أو ريبة.
وإنما هناك كل الدواعي والشواهد لأن يسلم الإنسان بالقلب بلا مجادلة وبلا مساءلة.) هذا قولك وهو قول، جميعه، بحاجة إلى تصحيح.. والذي يبدو لي أنك تهون من الأمور ما كان ينبغي عليك أن تعرف له مكانته من الصعوبة، والإمتناع.. أقرأ، مرة أخرى: (وإنما هناك كل الدواعي والشواهد لأن يسلم الإنسان بالقلب بلا مجادلة وبلا مساءلة)، وقل لي، بربك، كيف يؤمن الإنسان بالقلب: (بلا مجادلة وبلا مساءلة)؟؟ إن القلب ليغلي بالشك، كغليان القدر، وكل غليانه ثورة خواطر، وثرثرة داخلية – مجادلة، ومساءلة – وهذه المجادلة، وهذه المساءلة لا تطمئن، ولا تجد سبيلها إلى الهدوء، ولا يجد صاحبها فرصة للطمانينة، وبرد الراحة، وسلامة القلب، إلا بعد أن يجد جوابا لكل سؤال يثور، مما به يصل إلى برد اليقين.. واليقين علم يقع على مراتب ثلاث: هي علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين.. ولا تكون هناك فرصة (لأن يسلم الإنسان بالقلب)، إلا بعد علم حق اليقين.. استمع إلى إبراهيم الخليل، وهو على ما هو عليه من رفيع المكانة.. هو يقول، فيما يحكي الحق عنه: (وإذ قال إبراهيم: رب أرني كيف تحيي الموتى؟؟ قال: أولم تؤمن؟؟ قال: بلى!! ولكن ليطمئن قلبي).. أنظر إلى هذه المجادلة، وهذه المساءلة..
ثم قولك: (لقد جاء الأمر.. وهذا كل شيء) هو قول منكر، أشد النكر.. وقد قال الله غير ذلك، قال تعالى: "أتى أمر الله.. فلا تستعجلوه.. سبحانه، وتعالى، عما يشركون * ينزل الملائكة بالروح من أمره، على من يشاء من عباده: أن أنذروا: أنه: لا إله إلا أنا.. فاتقون".. قوله: "فلا تستعجلوه"، جمع كل الأدب.. أدب الشريعة، وأدب الحقيقة، وفي مضماره تقع مجاهدة المجاهدين في كليهما.. لأن، في هذه المجاهدة، الخروج من الشرك إلى التوحيد.. وهذا هو سر الإشارة بقوله: "سبحانه، وتعالى، عما يشركون".. ثم، ما ظنك بالآية الثانية؟؟ أقرأ، مرة أخرى: "ينزل الملائكة بالروح من أمره، على من يشاء من عباده: أن أنذروا أنه: لا إله إلا أنا.. فاتقون"..

الأبد زمن له نهاية..


وقولك: (كن فيكون)، جمعت كل الوقت، من اللحظة إلى السرمد.. والإشارة إلى الوقت في الدين تتضمن الإشارة إلى أدب الوقت، في الحياة.. وأدب الوقت في الحياة: أن تعيش اللحظة الحاضرة، في جمعية لا يوزعها الخوف من المستقبل، ولا الأسف على الماضي.. وفي قمة الوفاء بهذا جاء قوله: (ما زاغ البصر وما طغى) ومن أجل الوفاء بهذا جاء التعليم: "ما أصاب من مصيبة، في الأرض، ولا في أنفسكم، إلا في كتاب من قبل أن نبرأها.. إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم.. والله لا يحب كل مختال فخور * الذين يبخلون، ويأمرون الناس بالبخل.. ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد".. و"كن فيكون" إشارة إلى: العلم، والإرادة، والقدرة – (العالم، المريد، القادر) – وهي، إشارة، قبلها، إلى: "الله، الرحمن، الرحيم"، وهي إشارة، بعدها، إلى: "الخالق، البارئ، المصور".. قوله: "كن"، في عالم (العلم).. قوله: (ف)، في عالم (الإرادة).. قوله "يكون"، في عالم (القدرة).. أصلها: (كن، يكن، يكون).. وقد جاءت (الفاء)، إشارة إلى (يكن).. و(الفاء)، في لغة الأرقام – في (الأبي جاد) – تساوي ثمانين.. و(يكن) تساوي ثمانين أيضا.. وقولك: (وقيامة كبرى يفنى فيها الزمن في الأبد ويعود الكل إلى أصله ومنبعه) يدل على علم قاصر، ومضر، في نفس الوقت.. وما هو الزمن الذي تفنيه في الأبد؟؟ يبدو أنك تظن الأبد غير متناه، كما يظنه علماء اللغة، وكما يظنه (رجال الدين).. وقد جاء الضرر من هذا الظن، حيث زعموا أن النار لا تنتهي، لأن الإشارة قد وردت في القرآن إلى أهلها بالعبارة الكريمة: "إن الله لعن الكافرين، وأعد لهم سعيرا * خالدين فيها أبدا.. لا يجدون وليا، ولا نصيرا".. والقول بعدم نهاية النار باب من أعظم الأبواب التي يجيء منها الجهل بالله.. إن الأبد زمن ينتهي.. وقد أشار، سبحانه، وتعالى، إلى نهايته فقال: "فأما الذين شقوا ففي النار، لهم فيها زفير وشهيق * خالدين فيها ما دامت السموات والأرض، إلا ما شاء ربك.. إن ربك فعال لما يريد".. فالأبد هو مدة دوام السموات والأرض.. وذلك دوام محدود.. هو الزمن بين (الفتق) و(الرتق)، من قوله تعالى: "أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما؟؟" ثم هو، بعد الفتق، يعيد الأمر إلى الرتق: "كما بدانا أول خلق نعيده".. فما بين "الفتق"، وإعادة الأمر إلى "الرتق"، مرة أخرى، يمتد الأبد.. هذا هو الأبد.. وهو زمن له بداية، وله نهاية..