إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

القرآن ومصطفى محمود والفهم العصرى

الفصل السادس

أسماء الله



إن هذا فصل ممتع.. ولقد تحدثت أنت فيه عن الصوفية حديثا، هو في جملته مقبول، وفي تفصيله نظر.. ولقد جعلت الصوفية قوما يهيمون وراء الأخيلة، والصور الشفافة، حتى ليخيل للقارئ أنهم من طينة غير طينته.. هذا، مع أن الصوفية هم أنصار السنة النبوية، وهم يمشون في الأرض، وترتبط أفكارهم، وآراؤهم بالأرض، وتتسامى إلى السماء.. هم، كل واحد منهم، الشجرة الطيبة، التي قال الله عنها: أن أصلها ثابت، وفرعها في السماء.. وهم بذلك، أصحاب شريعة، وحقيقة.. أما قولك عنهم، في صفحة 131، مثلا: (والمتصوفة أهل أطوار وأحوال ولهم آراء طريفة لها عمقها، ودلالتها فهم يقولون لك أن المعصية تكون أفضل أحيانا من الطاعة.. فرب معصية تؤدي إلى الرهبة من الله وإلى الذل والإنكسار.. وطاعة تؤدي إلى الخيلاء والإغترار.. وهكذا يصبح العاصي أكثر قربا وأدبا مع الله من المطيع)، فهو قول يظهرهم كأنهم بعيدون من صاحب الشريعة العادي.. إن قولهم هذا قد أجمله ابن عطاء الله في حكمه، فقال: (رب معصية أورثت ذلا، وانكسارا، خير من طاعة، أورثت عزا، واستكبارا).. والأمر مأخذه جد بسيط، وهو أن الرب إنما هو رب قلوب، وأن حاجته إلى العباد إنما هي صلاح قلوبهم.. فإذا كانت الأعمال لا تؤثر على القلوب بالإنكسار، والذل اللائق بالعبودية، فهي أعمال باطلة.. ألم يقل النبي: (رب مصل لم يقم الصلاة)؟؟ بلى!! وقال: (رب مصل لم تزده صلاته من الله إلا بعدا).. وإنما كان ذلك كذلك لتمكن الغفلة من قلبه.. وأشد الغافلين غفلة من يستطيل بصالح العمل حتى يورثه (عزا واستكبارا)، في حين أن حكمة العمل الصالح، في الطاعة، تقوم على أنه يورث (ذلا وانكسارا).. ذلك لأن أعمال العبادة منهاج إلى العبودية.. فإذا فشلت الطاعة في أن تحقق الذل، والإنكسار، وأسوأ من هذا، إذا أشعرت بالعز والإستكبار، فإن المعصية أقرب منها إلى الله، حين تحقق ما فشلت الطاعة في تحقيقه.. ألم يقل المعصوم: (إن لم تخطئوا، وتستغفروا، فسيأت الله بقوم يخطئون، ويستغفرون، فيغفر لهم)؟؟ فالغرض دائما واحد، هو انكسار القلوب لله، وقد قال تعالى: (أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي).. فإذا كان هذا الغرض لا يتأدى بالطاعة، وإنما يتأدى بالمعصية، فقد انتقلت الفضيلة إليها، في تلك اللحظة.. ولكن الكمال دائما في أن يتحقق الإنكسار عن طريق الطاعة، وهذا شأن الكبار، فإنهم لسعة معرفتهم بالله، وما يجب له على العبد، لا يرون في عملهم إلا ما يوجب الذل، والإنكسار.. فهم إذ ينصرفون عن صلاتهم، ينصرفون وكأنما قد أتوا عملا مخزيا، وقد اطلع عليه الناس.
ما أحب لك أن تتصور الصوفية وكأنهم قوم يمشون في الهواء، بغير جذور تربطهم بالأرض.. أكرر مرة أخرى: أن الصوفية هم أنصار السنة النبوية.. هم أنبياء، ورسل، بالمعنى الذي يستقيم في الفهم الديني بعد ختم النبوة.. وقولك في صفحة 132: (والمتصوف واليوجي والراهب كلهم على درب واحد وأصحاب منطق واحد وأسلوب واحد في الحياة والزهد) قول منكر.. وهو يجيء من عدم إدراك لحقيقة الصوفية.. يمكنك أن تقول عن الصوفي المسلم أنه يطلب القرب من الله بترسم سنة النبي، فهو يحاول أن يضع قدمه حيث وضع النبي قدمه، من قبل.. وهو، بتجويد التقليد، يرجو أن يصب نفسه في القالب النبوي، حتى يتوكد له كمال إتقان التقليد برؤية النبي في المنام، ثم، بتوفيق الله، برؤيته في اليقظة.. فليس هناك علاقة بين اليوجي، والراهب، والصوفي.. إلا إذا كانت هناك علاقة بين اليوجي، والراهب، والنبي الكريم.. ولكن يبدو أنك أخذت على الصوفية أعمال بعض أدعياء التصوف، من الهمهمة بألفاظ غير معروفة.. وقد كثرت، في أخريات التصوف، وهي لا تحسب على التصوف إلا إذا حسب سلوك المسلمين اليوم على الإسلام.. إنها فترة انحطاط فما يُحكم بها على حقيقة التصوف.. أجد نفسي مضطرا إلى أن أكرر، مرة أخرى، أن الصوفية هم أتباع السنة النبوية.. وقد يبدو لي أن الذي عزلهم عن أن يُعرف لهم هذا الدور هو أنهم اعتبروا كل أعمال النبي، منذ أن كان في غار حراء، خلال خمسة عشر سنة، وإلى أن بعث، لاحقة بعمله بعد البعث.. فهي جميعها سنة، لأن النبي قد كان على نهج السداد، وهو يتحنث في غار حراء.. وعن هذه الفترة، بالذات، قال النبي المعصوم: (أدبني ربي فأحسن تأديبي، ثم قال: (خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين") فصدر هذا الحديث: (أدبني ربي فأحسن تأديبي) نبوة، وعجزه: (ثم قال: خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين)، رسالة.. ولقد ختمت المرحلة التي بدأت في غار حراء، من مراحل النبوة، بنزول أول القرآن: "أقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * أقرأ، وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم".. وبدأت الرسالة، بعيد ذلك، وذلك بقوله: "يا أيها المدثر * قم فأنذر".. ومنذ أن بدأت الرسالة برز النبي للدعوة.. وبدأ التشريع في بطء، ثم تواتر بعد الهجرة.. و(لقد تعارف) الناس على أن سنة النبي، إنما هي بعد البعث.. ولا يعتبرون فترة ما قبل البعث، كما يعتبرها الصوفية.. وهذا هو الذي عزل التصوف، في أفكار بعض الناس، عن حياة النبي.. هذا، ويمكن القول بأن الصوفية قد زادوا على سنة النبي أشياء أملاها حكم الوقت، واعتبروها بدعة حسنة، وذلك كإتخاذهم المسابح، مثلا، والطويلة منها بصورة خاصة.. وهناك حق فيما قلت في صفحة 133: (والتسبيح الحقيقي في نظر الغزالي لا يكون بمسبحة ولا يكون باللسان وإنما بالقلب.. في الخلوة والسكون والصمت.. مع دق القلب تتلو الروح في صمت وبدون صوت.. أسماء الله: "واذكر ربك في نفسك تضرعا، وخيفة، ودون الجهر من القول..". وهي أرقى درجات التصوف ولا يستطيع بلوغها إلا من بلغ سكون النفس وصفاء الروح وامتلك القدرة على حصر الانتباه والتركيز والإنصراف إلى التأمل بجماع القلب والهمة، وقويت عزيمته فقهر شهواته وشواغله الدنيوية وصعد درب السالكين إلى الله. وهو صعود أشق من الصعود إلى القمر. لأنه يقوم على الجهاد الهائل مع النفس.).. هذا ما قلته أنت، وهو قريب من التصوف.. ولكن يجب أن نفهم أن التصوف يبدأ من بداية، ويترقى إلى التسبيح الحقيقي.. وبدايته الأولية التسبيح باللسان، ولو بغير حضور، إلى جانب الصلوات، والصيام.. ثم يكون التدرج في المراقي.. ويجب أن يكون واضحا أن هذا الذي وصفته عن الغزالي ليس هو (أرقى درجات التصوف)، كما ذكرت أنت، وإنما أرقى درجات التصوف ان يبرز الصوفي من الخلوة، إلى الجلوة، فيعامل الخلق بالشريعة، ويعامل الخالق بالحقيقة – (هويعامل الخالق في الخلق) ثم لا تكون له خلوة بعد ذلك لمعاملة ربه إلا قيام الليل..
وعن موسى في أمر الله له: "فاخلع نعليك.. إنك بالوادي المقدس طوى"، أنت تقول: (إن المقصود بالنعلين هما النفس والجسد.. هوى النفس وملذات الجسد.. فلا لقاء بالله إلا بعد أن يخلع الإنسان النعلين: نفسه وجسده بالموت أو بالزهد. والله يصورهما كنعلين لأنهما القدمان اللتان تخوض بهما الروح في عالم المادة وعن طريقهما نزلت من سماواتها إلى الأرض. ولهذا يبادر المتصوف بأن يخلع النعلين ليخطو أول خطوة في الوادي المقدس).. هذا قولك في صفحة 135: ما من شك أن للصوفية تأويلات تختلف في أمر النعلين، ولكن أنضج التأويلات ما يتمشى مع واقع حال موسى يومئذ.. ذلك أنه بعد أن قضى الأجل لشعيب، وهو عشر سنوات، أنفقها في رعي غنم شعيب، وقضاء حوائجه المختلفة، وقد كانت بمثابة مهر لزواجه من إحدى بنتي شعيب، سار بأهله قاصدا مصر.. فلما كان في بعض طريقه، في سيناء، وكان ظلام ليلته تلك شديدا، وبردها قارسا، وكان قد ضل طريقه، آنس نارا من جانب الطور.. فترك أهله، ويمم شطر النار.. وقد قص علينا القرآن من خبره، فقال "وهل أتاك حديث موسى * إذ رأى نارا، فقال لأهله: امكثوا!! إني آنست نارا، لعلي آتيكم منها بقبس، أو أجد على النار هدى * فلما أتاها نودي: ياموسى!! * إني أنا ربك.. فاخلع نعليك.. إنك بالوادي المقدس: طوى * وأنا اخترتك.. فاستمع لما يوحى).. فالنعلان هنا، هما نفسه وزوجته.. فقد كان، في المكان الأول، مشغولا بزوجته، إذ تركها في الظلام الدامس.. وكان البرد عليها شديدا.. فلما أتى النار، وسمع الخطاب، إنزعج، وخاف، وانشغل بنفسه.. فخوطب: أن أترك همك بنفسك، وهمك بزوجك، وفرغ بالك منهما، جميعا: "أخلع نعليك".. و"استمع لما يوحى".. فكأنه أعد لاستماع الوحي، بتفريغ باله، وبجمعية نفسه.. فإنه قد كان باله مشغولا بزوجه، وبنفسه، موزعا بالخوف بينهما.. وفي إشارات الصوفية من القرآن يجيء معنى النعلين: الدنيا والآخرة.. وتفريغ البال من الدنيا معلوم، ولكن أمره دقيق فيما يخص الآخرة.. فقد روي أن أبا يزيد البسطامي قال: (الزهد عندي ليس بشئ.. فقد مكثت فيه ثلاثة أيام.. ففي اليوم الأول زهدت في الدنيا، وفي اليوم الثاني زهدت في الآخرة، وفي اليوم الثالث زهدت في كل ما سوى الله.. فقيل لي ما تريد؟؟ فقلت: أريد ألا أريد..).. يعني أن أترك الإرادة للمريد الحقيقي – أريد أن أسلم إرادتي لله، وأن أرضى بما يريده هو– وفي حكم ابن عطاء الله السكندري: (لا ترحل من كون إلى كون، فتكن كحمار الرحى، المكان الذي انتقل منه هو المكان الذي يصل إليه.. ولكن انتقل من الأكوان إلى المكون).. أراد: لا يكن همك في الدنيا العمل لإحراز درجات الآخرة، فإنها كون أيضا، وعملك، بهذه الصورة، إن هو إلا انتقال من كون إلى كون.. فاترك الدنيا، والآخرة، وارتحل إلى رب الدنيا، والآخرة، جميعا.. وزوج الرجل هي نفسه، منبثقة عنه، خارجه.. فإذا قال الله تعالى: (سنريهم آياتنا، في الآفاق، وفي أنفسهم)، فإن جماع آيات الآفاق في المرأة.. وأقرب النساء، لكل رجل، هي زوجه.. وهي عنده، في التحليل الأخير، وزان الكون.. فإذا هُيئ لتلقي الوحي بتفريغه من همه بزوجه، ومن همه بنفسه، فقد تهيأ.. وهو تهيؤ، لا يتم في مجلس واحد، كما قد يتبادر إلى ذهن القارئ للقرآن، وإنما بدأ في تلك الليلة، واستغرق وقتا طويلا.. فإنه، فيما يخص المعصوم، قد استغرق وقتا طويلا.. فأما في القرآن، فقد وردت وسيلته هكذا: "يأيها المزمل * قم الليل، إلا قليلا * نصفه، أو انقص منه قليلا * أو زد عليه، ورتل القرآن ترتيلا * إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا".. وهو تهيؤ مسبوق بتهيؤ آخر، استغرق خمس عشرة سنة في غار حراء.. وقد أوجزه المعصوم في قوله (أدبني ربي فأحسن تأديبي، ثم قال: خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين).. (خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين) هذه حالة هي ثمرة القول الثقيل في حالة النبي "إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا".. وهي ثمرة ما يوحى في حالة موسى: "فاستمع لما يوحى". وكانت تحتاج لإعداد وقد جرى هذا الإعداد في حالة نبينا، كما جرى في حالة موسى..
وعن رؤية الله أنت تقول، بعد أن تورد بعض الآيات: (وقد أنكرت بعض الفرق الإسلامية إمكانية رؤية الله في الآخرة، وفسرت هذه الآيات بأنها رموز وإشارات ومجاز لا حقيقة وانها تُفهم على باطنها لا على ظاهرها، وكانت حجتها أن العين لا ترى إلا المحدود المتناهي في الزمان والمكان، والله لا محدود ولا متناه ومتعال على الزمان، وبالتالي لا يمكن لعين أن تراه.. وهي حجة واهية وتصور مادي دنيوي.. فهم يتصورون أن الروح سوف تبصر بعين مادية في الآخرة وستكون لها حدقة وأجفان وستظل ملابسة للزمان والمكان المعروف في الدنيا.. وهو أمر ينكره القرآن فيقول عن النشأة الأخرى: "وينشئكم فيما لا تعلمون" أي أنه سينشئنا نشأة مختلفة تماما عن كل ما نعلم.. ولا غرابة في أن يكون للروح بصر شامل يدرك اللامحدود وأن نرى الله كما يراه الملائكة).. هذا ما تقوله أنت في صفحتي 136 و137.. وإنه لغريب حقا أن تعتقد أن الملائكة يرون الله.. يبدو أنك قد ضُللت بظاهر النص في المحاورة التي جرت بين الله تبارك وتعالى والملائكة، في مشهد إسجادهم لآدم.. فإن ظاهر النص يُوهم ذلك، ولكن التوحيد يقول ما قال المعصوم: (إن الله قد إحتجب عن البصائر كما احتجب عن الأبصار، وإن الملأ الأعلى ليطلبونه كما تطلبونه).. والله ذات – نفس-، والملائكة لا ذات لهم، لا نفس لهم.. ومن أجل ذلك فإنهم لا يطيقون رؤيته.. هم مخلوقون من نور العقل، والعقل نفسه حجاب دون الذات.. وأما البشر فإن شأنهم جد مختلف، ذلك بأن لهم أنفسا، وهم، من ثم، يشبهون الله ويطيقون رؤيته.. إن مطلق بشر أكمل من أي ملك، في المآل، وإن كان الملائكة أكمل في الحال.. فكمال الملائكة كمال درجة.. وكمال البشر كمال نشأة.. فكأن الملائكة معالم – (حجار كيلو)- في طريق تطور البشر مترقين نحو الذات الإلهية.. فالبشر يتطورون، ويترقون، ويلقون الله.. ولكن الملائكة ثابتون على هيئتهم، إلا قليلا.. وسبب كمال نشأة البشر هو النفس الأمارة، التي امتازوا بها على الملائكة، والتي تخطئ وتصيب.. وإلى ذلك الإشارة بحديث المعصوم (إن لم تخطئوا، وتستغفروا، فسيات الله بقوم، يخطئون ويستغفرون، فيغفر لهم)..