الفصل الخامس
الحلال والحرام
(التحريم في القرآن، ليس لمجرد التحريم، ولا التحليل، لمجرد التحليل، وإنما هو تحليل، لكل ما هو طيب، وتحريم، لكل ما هو خبيث.. "ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث") قولك هذا، حق.. ولكنه يجيء في المرتبة الثانية.. فليست الحكمة، وراء التحريم والتحليل، في المكان الأول، هي الخبائث، والطيبات، وإنما الحكمة هي التعليم.. قال تعالى، في ذلك: "فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم، وبصدهم عن سبيل الله كثيرا * وأخذهم الربا، وقد نهوا عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل.. وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما".. وفي موضع آخر، يقول تعالى: "ما يفعل الله بعذابكم، إن شكرتم وآمنتم؟؟ وكان الله شاكرا عليما".. فإنما من أجل أن نشكر، وأن نؤمن، وظفت وظائف التكاليف، وحرم الحرام، وحلل الحلال.. وإنما في سبيل العقوبة على الطغيان، حرمت الطيبات على اليهود.. وفي الحق، أن الحرام والحلال حكم شرعي، أو قل: حكم عقلي، يتوجه به العقل القديم إلى العقل الحديث، ليجعل قانون تعليمه على وفقه.. يحاكيه، ويسير إليه في مصاقبة، وتقليد.. والأعيان ليس فيها حرام.. كلها حلال.. ولكن حكم الوقت ينزل حلالها منازل، لتنطبق على التشريع، ولتجد كلمة خبيث مدلولها، ولتجد كلمة طيب مدلولها.. وحكم الوقت يتدرج بالعقول إلى النضج.. فإذا جاء وقت نضج العقول، برزت الأعيان إلى مقامها، وهو الطيبة.. وانتهت مرحلة الخبث، وعادت الأشياء كلها إلى الحل، حيث استغنت العقول، بفضل الله، ثم بفضل المعرفة، عن الزجر، والعنف المتمثل في التحريم.. مرة أخرى !! "ما يفعل الله بعذابكم، إن شكرتم، وآمنتم؟؟ وكان الله شاكرا عليما".. وإلى ذلك اليوم، الذي تعود فيه الأعيان إلى أصلها من الحل باستغناء العقول، بفضل الله، ثم بفضل العلم، عن عنف التحريم، ورد قوله تعالى: "ليس على الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، جناح فيما طعموا، إذا ما اتقوا، وآمنوا، وعملوا الصالحات، ثم اتقوا، وآمنوا، ثم اتقوا، وأحسنوا.. والله يحب المحسنين".. هذه هي درجات التقوى التي أشرنا إليها في فصل: (الجنة والجحيم).. فإذا ما انتهت تقوانا إلى الله، نفسه، فقد أصبحنا في سعة.. وجاء مشهد: "والله يحب المحسنين"، التي جعلت فاصلة للآية أعلاه.. وفي الحق، إن هذا الأمر – أمر تحريم الأعيان كوسيلة إلى تحريم عيوب السلوك – هو الأساس الذي تدور عليه حكمة الدين.. وعيوب السلوك جماعها اتباع هوى النفس.. وهوى النفس يخلص منه أحد أمرين: إما الضرورة الملجئة، أو العلم النافع.. وإلى العلم النافع وردت الإشارة بالآية السابقة، وبه انتهى التحريم، وأفضى الأمر إلى الحل.. وإلى الضرورة الملجئة الإشارة بقوله تعالى: "إنما حرم عليكم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله.. فمن اضطر، غير باغ، ولا عاد، فلا إثم عليه.. إن الله غفور رحيم".. جمع المحرمات في أربع.. ثم تجاوز عنها.. وحللها للمضطر، غير الباغي، ولا العادي.. وذلك لأن الإضطرار قد نفى عنه هوى النفس.. فإنما هي الحياة، أو الموت..
وعن كون الأصل، في المكان الأول، تحريم عيوب السلوك. وإنما جاء تحريم الأعيان، في المكان الثاني، جاء قوله تعالى: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده، والطيبات من الرزق؟؟ قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا، خالصة يوم القيامة.. كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون * قل إنما حرم ربي الفواحش.. ما ظهر منها، وما بطن.. والإثم، والبغي بغير الحق، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون".. وهذا هو نهج القرآن، وأسلوبه، وحكمته، في تهذيب النفوس، جريا وراء قاعدته العامة: "سنريهم آياتنا، في الآفاق، وفي أنفسهم.." فقد جاء تحريمة للأعيان في مرتبة آيات الآفاق، ثم دنا قريبا من النفس، فحرم عيوب السلوك الخارجية: "الفواحش"، ما ظهر منها.. و"الإثم" و"البغي" بغير الحق.. و"أن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون".. ثم دخل إلى السريرة، فقال: الفواحش، ماظهر منها، (وما بطن).. وقال: "وذروا ظاهر الإثم، وباطنه.. إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون".. و"ظاهر الإثم" عيوب السلوك المختلفة، في جانب الحق، وفي جانب الخلق.. وباطن الإثم ما يحوك في السر، وفي سر السر.. "في السرائر".. من دقائق، وخوافي، الشرك، ومن سوء الظن بالله، وبالناس.. فالمقصود من وراء تحريم ظواهر ما حرم، إنما هو تحريم بواطنه، فما الظاهر إلا مجاز للباطن.. "سنريهم آياتنا، في الآفاق، وفي أنفسهم.." وظاهر التحريم إنما قام على ظاهر القرآن.. لا لف، ولا دوران.. ولذلك فإن قولك من صفحة 111: (لو أخذنا الآية بظاهر حروفها دون أن يكون جوهر القضية واضحا في الذهن فسوف نجد أن الحياة الطبيعية في زماننا (زمن الميني جيب – والديكولتيه، والجابونيز، والصدر العريان، والشعر المرسل، والباروكات الذهب)
أمر صعب وهناك أكثر من نوع من النظر فما هو نوع غض البصر المقصود؟؟
لا بد من العودة إلى جوهر التحريم لنفهم الاية..
والله حرم الضار الخبيث. ومجرد إرسال النظر لا ضرر منه ولكن الضرر فيما يجري في القلب والعقل بتيجة إمعان النظر الخبيث)، هو قول يتورط في الخطأ حين يحاول أن يتحلل من نص التحريم القائم على النهي، ليجعل التحريم مسألة إعتبارية: (ومجرد إرسال النظر لا ضرر منه ولكن الضرر فيما يجري في القلب والعقل نتيجة إمعان النظر الخبيث)، كما تقول أنت.. ولا عبرة برأيك في أن الحياة الطبيعية في زماننا، (زمن الميني جيب – والديكولتيه، والجابونيز، والصدر العريان، والشعر المرسل، والباروكات الذهب)
أمر صعب)، ذلك بأن الشريعة لا تزايل إلزامها اعتبارا للصعوبات التي تواجهنا بها حياة التحلل، والتفسخ والتبذل.. بل أنها لتطالب برد الناس – كل الناس- إلى الجادة.. فإن عجزنا نحن عن إلتزام الشريعة، في أنفسنا، وعن إلزام غيرنا بها، فلنعترف بالعجز، ولنعرف أننا نعيش ناصلين عن الشريعة.. ذلك خير من أن نحاول أن نفصل الشريعة على تقصيرنا، وعلى عجزنا عن الإلتزام.. وأنت تسأل: (فما هو نوع غض البصر المقصود؟؟).. والجواب: هو مجرد غض البصر.. والقرآن يقول، في ذلك من الآيتين اللتين سقت أنت طرفا منهما: "قل للمؤمنين: يغضوا من أبصارهم، ويحفظوا فروجهم.. ذلك أزكى لهم، إن الله خبير بما يصنعون * وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن، ويحفظن فروجهن، ولا يبدين زينتهن، إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن، أو آبائهن، أو آباء بعولتهن، أو أبنائهن، أو أبناء بعولتهن، أو أخوانهن، أو بني أخوانهن، أو بني أخواتهن، أو نسائهن، أو ما ملكت أيمانهن، أو التابعين غير أولي الأربة من الرجال، أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء.. ولا يضربن بارجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن.. وتوبوا إلى الله جميعا، أيها المؤمنون، لعلكم تفلحون".. غض البصر، إذن، هو مجرد غض البصر.. طاعة للأمر: "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم".. هذا من جانب الرجال.. وطاعة للأمر: "قل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن".. هذا من جانب النساء.. وقد جاءت الشريعة تفصل، فلم تزد على أن قالت: النظرة الأولى لك.. والنظرة الثانية عليك.. يعني: إذا وقع بصرك على الحرام، في المرة الأولى، فهو مغفور لك، لأنك لم تتعمد النظر.. فإذا عاودت النظر بعد ذلك كتب عليك، وحوسبت به.. والمطلوب، في المكان الأول، في هذا المقام، هو حفظ الفروج.. وقد فرض حفظ النظر حماية، ودرأ، للجريمة الشنيعة – جريمة الزنا.. فكأن غض البصر حمى مضروب حول الجريمة، فمن استخف بالحمى، واقتحمه، فقد أوشك أن يواقع الجريمة.
أحب لك أن تذكر، دائما، أمرين اثنين: أحدهما، أن الشريعة تقوم على الظاهر.. وثانيهما، أنها تعمم..