إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

القرآن ومصطفى محمود والفهم العصرى

الفصل الثالث

قصة الخلق



إن قصة الخلق في القرآن، لهي أكمل، وأتم، مما هي في أي فكر نعرفه، حتى اليوم.. وقضية التطور، في القرآن، تذهب إلى بدايات، وتسير إلى نهايات، أبعد، في الطرفين، مما يدخل في ظن عالم من العلماء الذين تعرضوا لنظرية التطور، من دارون إلى آخر من كتبوا في هذا العلم..
في القرآن الوجود لولبي، وهو، على كل حال، وجود ليست له بداية، ولن تكون له نهاية.. وكل الذي بدأ، وكل الذي ينتهي، هو مظهر الصور الغليظة..
في القرآن، الوجود هو الله، تنزل من إطلاقه، فظهر في صور المادة المحسوسة، وهو إنما ظهر ليعرف.. ليعرفه من؟؟ ليعرفه الذي هو مثله – الإنسان – و(ليس كمثله شيء)...
الخلق في القرآن، هو الإرادة الإلهية جمدت، وتجسدت.. فهو قد تنزل من الإطلاق، في معنى ما تنزلت الإرادة.. وهو إلى الإطلاق راجع.. لأن الإرادة، في التحليل الأخير، إنما هي الإطلاق.. قال تعالى: (ولله ما في السموات، وما في الأرض، وإلى الله ترجع الأمور)..
والخلق، في القرآن، ليس كائنا، وإنما هو مستمر التكوين..
في القرآن، الخلق في ثلاثة عوالم، عالم الملكوت من أعلى، وعالم الملك من أسفل، وعالم البرزخ قد توسط بينهما.. فعالم الملكوت، عالم لطائف – عالم مادة لا تتأثر بها حواسنا – عالم أرواح –... وعالم الملك، عالم كثائف – عالم مادة، مجسدة، تتأثر بها حواسنا – وهو، من ثم، عالم أجساد.. وعالم البرزخ هو عالم المزج بين اللطائف والكثائف – عالم العقول التي ركبت على الأجساد لتصهر كثائفها بنار المجاهدة، فتحيلها إلى لطائف.. وهذا هو عالم الإنسان.. والاختلاف بين العوالم كلها اختلاف مقدار.. فالوحدة هي السلك الذي ينتظم الأشياء، من الخلايا التي تكون الأجسام الحية، وإلى الذرات التي تكون المادة الصماء – فالاختلاف، إختلاف مقدار، لا اختلاف نوع.. بل إنه، في التوحيد، إختلاف النوع يمتنع.. هذا ما يراه القرآن، في حين أن ما يراه أصحاب نظرية التطور – دارون وأشياعه – هو أن أنواع الحيوانات إنحدرت كلها من أصل واحد، تباين، واختلف إلى فروع من الفصائل، والأنواع، نتيجة تباين الظروف والبيئات..
في القرآن، المخلوقات، كلها، أتباع دين واحد، ما يعقل منها – بأقيستنا نحن – وما لا يعقل.. قال تعالى، في ذلك: (أفغير دين الله يبغون، وله أسلم من في السموات، والأرض، طوعا، وكرها، وإليه يرجعون؟؟) ولا يتوهمن متوهم أن (من) هنا إنما هي لخطاب العاقل.. يقول الله تعالى، في موضع آخر: (ثم استوى إلى السماء، وهي دخان، فقال لها، وللأرض: ائتيا طوعا، أو كرها، قالتا: أتينا طائعين)..
والقرآن يتوجه بخطابه لغير العاقل (بأقيستنا نحن) كما يتوجه به للعاقل: (قلنا يا نار!! كوني بردا، وسلاما، على إبراهيم).. وفي موضع آخر قال تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي، وغيض الماء، وقضي الأمر، واستوت على الجودي.. وقيل بعدا للقوم الظالمين).. ومن أدق ما في هذا الباب، قوله تعالى، عن أم موسى، وعن النيل، وعن فرعون: (ولقد مننا عليك مرة أخرى * إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى * أن اقذفيه في التابوت، فاقذفيه في اليم، فليلقه اليم بالساحل.. يأخذه عدو لي، وعدو له، وألقيت عليك محبة مني، ولتصنع على عيني) فقد صدر الأمر، وفي سياق واحد، إلى أم موسى، وإلى اليم، وإلى فرعون، ونفذ الأمر في الحالات الثلاث، بلا تخلف، ولا اختلاف.. وهذه، في القرآن، من دقائق الإشارات إلى الوحدة، التي شملت الخلق بأسره..
وعن العوالم الثلاثة التي ذكرناها آنفا ترد الإشارة هكذا: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا، وعملوا الصالحات.. فلهم أجر غير ممنون).. قوله: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم).. إشارة إلى (عالم الملكوت).. وقوله: (ثم رددناه أسفل سافلين).. إشارة إلى (عالم الملك).. وقوله: (إلا الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، فلهم أجر غير ممنون).. إشارة إلى (عالم البرزخ).. فإنه أشار بالأجر (غير الممنون) إلى الوشيجة التي ربطته، وهو في أسفل سافلين، بنشأته الكاملة في علم الله، ثم في إرادة الله، وذلك ما تفيده كلمة (الملكوت)، التي عبرنا بها قبل حين.. وهذه الوشيجة قد استنقذته، من أسفل سافلين، إلى عالم البرزخ، حيث يحقق كماله المقدور له، في علم الله.. وهذا الكمال يتمثل في رفع الجسد الترابي، بفضل الله، ثم بفضل العقل، إلى جسد ملكوتي.. (إلى جسد روحاني)..

بدء الخلق


لقد برز الخلق عن الوحدة.. فالسموات، والأرض، نشأت من سحابة واحدة.. قال تعالى في ذلك: (أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض، كانتا رتقا، ففتقناهما، وجعلنا من الماء كل شيء حي؟؟ أفلا يؤمنون؟؟ * وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم، وجعلنا فيها فجاجا سبلا، لعلهم يهتدون * وجعلنا السماء سقفا محفوظا، وهم عن آياتها معرضون * وهو الذي خلق الليل، والنهار، والشمس، والقمر.. كل في فلك يسبحون).. السموات، والأرض، كانت سحابة واحدة، مرتوقة فانفتقت وكانت هذه السحابة من بخار الماء.. قال تعالى في ذلك: (ثم استوى إلى السماء، وهي دخان، فقال لها، وللأرض: ائتيا، طوعا، أو كرها.. قالتا: أتينا طائعين).. وهذه السحابة، قبل أن تكون بخار ماء، قد كانت من غاز الهايدروجين.. وذرة غاز الهايدروجين هي أول مظاهر تجسيد الإرادة الإلهية..
وعلى هذا الاعتبار، فإن قولك، في صفحتي 60 و61: (فإذا جئنا إلى مبدأ الكون كله.. بنجومه وشموسه وكواكبه فنحن أمام إجماع من علماء الفلك بأن كل شيء نشأ من الهواء من سحب الغاز والتراب الأولية) فقول يحتاج إلى مراجعة..
قولك من صفحتي 65 و66: (فهو مرة يذكر أن الحياة خلقت من الماء ومرة يذكر أنها خلقت من تراب ثم يعود فيخصص ويقول من الطين أو على وجه الدقة الماء المنتن المختمر بالتراب وهو اتفاق غريب ودقيق مع اكتشافات العلم بعد 1400 سنة).. فإنه قول يفوت الحكمة من وراء تنويع العبارة، في الآيات: (وجعلنا من الماء كل شيء حي)، و: (والله خلق كل دابة من ماء)، و: (أكفرت بالذي خلقك من تراب؟؟)، و: (وإذ قال ربك للملائكة: إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون).. فإن المقصود من تنويع العبارة إنما هو الإشارة إلى الوحدة التي تنتظم المظاهر المختلفة فإن الماء، والتراب، والصلصال من الحمأ المسنون، كلها، أصلها بخار الماء.. وهي، وإن بدت لنا مختلفة اختلاف نوع، فهي، في الحقيقة، لا تختلف إلا اختلاف مقدار..
قولك من صفحة 66: (وفي هذه الآية يحدد أن خلق الإنسان تم على مراحل زمنية: (خلقناكم، ثم صورناكم، ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) والزمن بالمعنى الإلهي، طويل جدا (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون)) فقول غير دقيق.. فإن خلق الإنسان، وتصويره، وإسجاد الملائكة له، لم يتم، وإنما هو مستمر، ولن ينفك، إنه سرمدي.. (خلقناكم) تعني أحطنا بكم علما، وهذه مستمرة، ولن تنفك.. و(صورناكم)، تعني قلبناكم في الصور المتتالية في سلم التطور، وهذه مستمرة، ولن تنفك.. (ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم)، إشارة إلى صورة التطور في الذبذبة بين الخير، والشر – بين الخطأ، والصواب – وهذه مستمرة، ولن تنفك.. وليس صحيحا (أن الزمن بالمعنى الإلهي طويل جدا)، على إطلاق العبارة.. فإنه أيضا قصير جدا، لأنه قد جاء من (اللازمن)، ويخرج إلى (اللازمن).. فهو في طرفي المجيء، والذهاب، موصوف بالقصر، وبالطول.. فإنه في قوله تعالى: (كل يوم هو في شأن)، قصير قصرا يكاد يخرجه عن الزمن.. فالزمن، على كل حال، قيمة نسبية، وهو يختلف باختلاف الأمكنة.
قولك، من صفحة 67: ("وقد خلقكم أطوارا".. ومعناها: أنه كانت هناك، قبل آدم، صور، وصنوف من الخلائق، جاء هو، ذروة لها..
"هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا؟؟" إشارة إلى مرحلة بائدة من الدهر لم يكن الإنسان يساوي فيها شيئا يذكر).. فإني ما أحب لك فيه، عبارة: (معناها أنه كانت هناك قبل آدم صور وصنوف من الخلائق جاء هو ذروة لها) فإن الدقة تقضي بأن تقول: أن آدم، نفسه، هو هذه الصور، متطورا في الأزمنة، فقد مر وقت كان فيه آدم ذرة (غاز هايدروجين)، ثم تقلب في الصور، ولا يزال، ولن ينفك.. وليس صحيحا قولك من هذه الصفحة نفسها: (حتى بلغت ذروتها في آدم).. ذلك بأن آدم، هو في مرحلة نحو الإنسان – آدم مشروع إنسان – وهو مشروع ذروته الله.. أقرأ، إن شئت (وإن إلى ربك المنتهى) ولا منتهى!!
وأما قولك في صفحة 70 ("لقد خلقنا الإنسان في كبد" أي في مكابدة مستمرة وصراع وعناء. ولهذا أسجد الله له الملائكة وسخرهم لخدمته ومعونته لأنه علم سريرة ذلك المخلوق الذي له جسم الطين وروح الله. واستحقاقه للرعاية في كل أطواره)، فهو قول شديد الدلالة على ضعف تصورك لمصير الإنسان.. ذلك بأنه يخرج من الحاجة إلى الإستغناء.. وسينتهي وجود الملائكة، ولا ينتهي وجود الإنسان.. والطور الذي تراه فيه في حاجة للرعاية، إنما هو طور مرحلي فليس صحيحا، إذن، أن الله سخر لخدمته الملائكة، لأنه مستحق (للرعاية في كل أطواره)، كما قررت أنت.).
قولك من صفحة 71 ("والجان خلقناه من قبل من نار السموم" ونار السموم هي النار الصافية بلا دخان أو من الطاقة الخالصة ذاتها)، قول غير صحيح.. فالنار الصافية، وأنت تعبر عنها بـ(الطاقة الخالصة ذاتها)، لم يخلق منها إبليس، وإنما خلق من النار، المخلوطة بسواد الدخان.. وعبارة القرآن تقول: (من نار السموم) فمن أين جئت أنت بـ(النار الصافية بلا دخان.. والطاقة الخالصة ذاتها)؟؟ إن الملائكة هم الذين خلقوا من الطاقة الخالصة.. وهذا هو السر في أنهم لم يعصوا الله ما أمرهم، وإنما جاءت المعصية لإبليس لأنه لم يخلق من الصافي، وإنما خلق من المخلوط – من نار السموم.. وأنا أعرف أن بعض المفسرين قد ذكر مسألة صفاء النار من الدخان وهو خطأ قد انسقت إليه أنت، أيضا، فالذين يخلقون من الصافي، لا يعصون..
وأما قولك، في صفحة 72 ("لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين".. (وأسفل سافلين) هي هاوية التيه المادي.. إلى طين المستنقعات.. هذه المرة إلى مجرد جرثومة، في طين الأرض. إلى نقطة بدء أولى.. من الصفر. وكان على آدم أن يخرج من هذا التيه المادي في إنبثاق متدرج عبر خمسة آلاف مليون سنة كما تقول لنا علوم البيولوجيا وعبر مراحل وأطوار بدأت بالخلية الأولى والأميبيا صعدا إلى الإسفنج والرخويات والقشريات.. إلخ.. في رحلة قاسية وعبر صراعات دامية مع بيئات متعددة تكافح فيها الحياة الوليدة بالمخلب والناب) فهو قول غير دقيق، أيضا.. أولا، فإن مسألة خمسة الآلاف مليون سنة، لا تعطيها علوم البيولوجيا، وإنما تعطيها علوم الفلك.. وهي تقدير، على كل حال، للزمن الذي يفصل بيننا، وبين بدء انفصال الأرض عن الشمس، حيث كانت معها (هي وأخواتها، الكواكب السيارة الأخرى) في سحابة واحدة، هي من بخار الماء.. ولقد كانت، من قبل، من غاز الهايدروجين.. وثانيا، فإن نقطة (طين المستنقعات)، ليست نقطة (الصفر)، وإنما هي حلقة متقدمة جدا في سلسلة التطور.. إن أسفل سافلين إنما هي (ذرة غاز الهايدروجين).. هذا ليس ما يعطيه العلم المادي فقط، وإنما هو ما يعطيه العلم الروحي، أيضا.. هناك أمر ورد في هذه الصفحة بخصوص الأمانة، وقد وردت، من قبل، في فصل (مخير، أم مسير)، وقلت عنها، هناك في صفحة 34: ((إنا عرضنا الأمانة على السموات، والأرض، والجبال، فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان.. إنه كان ظلوما، جهولا)..
لقد جهل الإنسان تبعة هذه الأمانة، وأهوالها، ومهالك الغرور التي سيتعرض لها بحملها .. وكيف أنه سيظلم بها نفسه، وغيره.. ولكن الله كان يعلم بهذه المحنة الهائلة .. وكان يعلم أن هذه المحنة سوف تزكي الإنسان، وتطهره وتربيه .. "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها، ويسفك الدماء؟؟ ونحن نسبح بحمدك، ونقدس لك؟؟ قال إني أعلم ما لا تعلمون" .. ولا نعرف كيف تم هذا العرض على الإنسان بأن يكون حرا أو لا يكون؟؟ ولا متى تم هذا العرض .. هل حدث في مبدأ الخلق مع آدم؟؟ أم مع الأرواح قبل نزولها إلى الأرحام؟؟ فهذا قيد مطلق.) وقلت، في صفحة 72: ("إنا عرضنا الأمانة على السموات، والأرض، والجبال، فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان.. إنه كان ظلوما جهولا"، والإنسان لم يدرك مخاطر هذه الأمانة لجهله فظلم نفسه بحملها، ولأن الله كان يعلم مخاطر حمل هذه الأمانة.. وكان يعلم أنها سوف تلقي الإنسان في مهالك الغرور.. فإنه لطفا منه ورحمة.. أمره بالطاعة، وبالإسلام لكلمة الله بألا يأكل من الشجرة لتدوم له الجنة (جنة الطاعة والإسلام للناموس الإلهي)..
ولكن الإنسان اختار أن يكون حرا مسئولا وأن يخرج على الأمر الإلهي (بإغراء إبليس) فيأكل من الشجرة.. وهكذا وقع عليه التكليف وأصبح محاسبا منذ تلك اللحظة.. وحق عليه العقاب.. وكان العقاب هو الطرد والإهباط من تلك الجنة إلى الأرض والنزول إلى التيه المادي).. هذا وذاك هما ما قلته أنت في صفحتي 72 و34. ويهمني هنا بشكل خاص قولك، من صفحة 34: (ولا نعرف كيف تم هذا العرض على الإنسان بأن يكون حرا أو لا يكون، ولا متى تم هذا العرض؟؟ هل حدث في مبدأ الخلق مع آدم؟؟ أم مع الأرواح قبل نزولها إلى الأرحام؟؟ فهذا غيب مطلق) فإنما هو قول يشمل إعترافا صريحا، ومقبولا، بالجهل بأمر الأمانة.. وفي الحق أن مجرد هذا الإعتراف يحرمك الحق في الخوض في مسألة دقيقة، غاية الدقة، كأمر الجبر والإختيار في الإسلام.. وإني أرشح لك مقدمة الطبعة الرابعة من كتابي (رسالة الصلاة)، فإن فيها معالجة موجزة لهذا الأمر، منها يتضح أن الإنسان لم يكن مخيرا في حمل الأمانة، أو تركها، وإنما كانت مفروضة عليه فرضا لا يملك عليه امتناعا.. ثم، من الذي قال أن هذا الأمر – أمر عرض الأمانة – (غيب مطلق)؟؟ إن عبارتك هذه لشديدة الدلالة على ضعفك في التوحيد فإن الغيب المطلق هو ذات الله، وحدها.. قال تعالى، في ذلك: (قل لا يعلم من في السموات، والأرض، الغيب إلا الله.. وما يشعرون أيان يبعثون؟ * بل إدارك علمهم في الآخرة، بل هم في شك منها.. بل هم منها عمون).. هذا هو الغيب المطلق.. وهو لا يعلمه الملأ الأعلى، ولا الملأ الأسفل.. (من في السموات والأرض).. لا يعلمه إلا الله.. وهذه القاعدة التوحيدية التي تقول: (لا يعرف الله إلا الله).. أما أمر الأمانة وتساؤلاتك عنها، فهي مما يدخل في علم، الراسخين في العلم.. وأنت، على كل حال، مدعو، ومرجو، أن تجد الإجابة على تساؤلاتك هذه في أمر الأمانة.. وليس لك إلى ذلك من سبيل غير تجويد التوحيد، وذلك عن طريق ممارسة العبادة في إتقان تقليد المعصوم.. ويومها سينكشف لك، أن شاء الله، أن الإنسان مسير، وأن آدم، حين عصى، (وعصي آدم ربه فغوى) فإنه لم يعص الأمر التكويني، وإنما عصى الأمر التشريعي.. والأمر التكويني محيط بالأمر التشريعي، وفي الأمر التكويني لا تدخل المعصية، وإنما هي الطاعة.. فمن عصى فإنه فيه فقد أطاع، في معنى ما قد عصى.. هذا وإنك لشديد الإصرار على أمر التخيير.. ويجئ في صفحة 76 قولك: (يفطن الإنسان إلى أنه لا يملك إلا ضميره "قدس الأقداس الذي تركه الله حرا بالفعل" فيسلمه خالصا لله ويتجه به مختارا طائعا.. وقد وكل أمر نفسه إلى خالقه وخضع لنواميسه.. يفعل هذا وقد أدرك أن مشيئة الله واقعة أن طوعا وأن كرها.. وأن الله هو الخالق المهيمن على جميع الأسباب وأنه هو الوحيد الذي يملك الهداية والعلم والقدرة). وتواصل إلى أن تقول: (وعلى آدم الأرضي هذا أن يكافح ليحقق لنفسه التكامل الأول وأن يعود إلى أحسن تقويم "ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه")..
فأما أنا، فما أرى لك سبيلا إلى القول بالتخيير وأنت تورد في نصك الأول: (يفعل هذا وقد أدرك أن مشيئة الله واقعة، إن طوعا، وإن كرها.. وأن الله، هو الخالق المهيمن، على جميع الأسباب.. وأنه هو الوحيد، الذي يملك الهداية، والعلم، والقدرة).. وتورد في النص الثاني الآية: (يأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا، فملاقيه) تأمل هذه الآية، فإنها تقول: إن ملاقاة الله واقعة، أردت، أيها الإنسان، أم لم ترد!! فإنه ما من الله بد.. أم لم يقل: (إليه مرجعكم جميعا، وعد الله، حقا.. إنه يبدأ الخلق ثم يعيده)..
وفي صفحة 77 جاء قولك: ("وإذ أخذ ربك، من بني آدم، من ظهورهم، ذريتهم، وأشهدهم على أنفسهم.. ألست بربكم؟؟ قالوا: بلى!! شهدنا!! أن تقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين.. أو تقولوا: إنما أشرك آباؤنا من قبل، وكنا ذرية من بعدهم، أفتهلكنا بما فعل المبطلون؟ وكذلك نفصل الآيات، ولعلهم يرجعون".. إن الله يفصل لنا في هذه الآيات واقعة غريبة.. يفهم منها أننا كنا في حضرة الله، قبل النزول إلى الأرحام "في عالم المثال والملكوت" ربما كأرواح.. لا أحد يدري.. وأن الله أشهدنا على ربوبيته، وأخذ منا ميثاقا بهذا الشهود، حتى لا نعود فنكفر، ونبرر كفرنا، بأننا ضحية الآباء) أنت، في هذا، تعترف بأنك لا تدري ما يفصله الله في هذه الآيات الكريمات، وهو إعتراف محمود، على كل حال، ولكنه اعتراف يسلبك الحق في أن تخوض، بمثل هذه الجرأة، في أدق أسرار الدين.. وأنت، حين تعترف بأنك لا تدري، يطيب لك أن تؤكد، لنفسك أن أحدا لا يدري – ما تجهله أنت جهله مبررعندك بأن الآخرين يجهلونه أيضا.. تقول (يفهم منها أننا كنا في حضرة الله قبل النزول إلى الأرحام.. "في عالم المثال والملكوت" ربما كأرواح لا أحد يدري)..
ولكننا نقول لك: إن هذا الذي جهلته يقع في العلم القريب من علوم الذين أوتو العلم.. و(حضرة الله)، التي وردت في عبارتك، هي، إما حضرة إطلاق – حضرة ذات –، وإما حضرة قيد – حضرة أسماء، وصفات، وأفعال.. وقد كنا، نحن، في جميع هذه الحضرات.. كنا في حضرة الإطلاق، ثم تنزلنا إلى حضرة القيد – حضرة العلم، فحضرة الإرادة، فحضرة القدرة.. فأما حضرة الذات فهي حضرة لاهوت، وأما حضرة العلم، وحضرة الإرادة، فهي حضرة ملكوت، وأما حضرة القدرة، فهي حضرة ملك.. وحضرة الملكوت حضرة أجساد لطيفة، تتفاوت في اللطافة، بين حضر العلم، وحضرة الإرادة.. وأما حضرة القدرة فهي حضرة أجساد كثيفة، تتفاوت في الكثافة، بين قمة وقاعدة.. ولقد أشهدنا: تبارك، وتعالى، على عبوديتنا، وعلى ربوبيته، في جميع حضرات اللطافة – في حضرة الذات، وفي حضرة العلم، وفي حضرة الإرادة – وقد شهدنا الشهادة.. ولكننا، عندما تنزلنا إلى عالم الكثافة، وبعد خروجنا من الأرحام كسفت كثافة الأجساد لطافة الأرواح، وأُنسينا ما كان منا من شهادة، ومن إقرار على أنفسنا بالعبودية، فتكفل الله بتذكيرنا بشهادتنا.. وهو، من أجل هذا التذكير، خلق الأزواج.. وقال، تبارك من قائل: "ومن كل شيء خلقنا زوجين.. لعلكم تذكرون" ثم إنه، من أجل هذا التذكير أيضا، أرسل جميع رسله بشهادة: "لاإله إلا الله".. وأنزل القرآن على نبينا.. ويسره لتذكيرنا بتلك الشهادة، فقال، تبارك من قائل: "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر؟؟"..
ويؤخذ من هذا، أيضا، أننا نحن لا نتعلم شيئا جديدا على الإطلاق.. ولكننا، حين نتعلم، إنما نتذكر علما، قديما، أزليا، نسيناه.. قال تعالى، في ذلك: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا، فإذا هم مبصرون).. قوله: (إذا مسهم طائف من الشيطان)، يعني: إذا جهلوا.. قوله: (تذكروا)، يعني: ذكروا اسم الله.. (فإذا هم مبصرون)، يعني: إنقشعت عنهم الجهالة.. فإنه، تعالى، قد وصى نبيه في الآية السابقة التي أوردناها آنفا، فقال (وأما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله.. إنه سميع عليم..) قوله: (فاستعذ بالله)، يعني: لذ بالله..
وأحب أن ألفت نظرك، بصورة خاصة، إلى أننا في تجسيدنا، في الأرحام، لم ننس شهادة العبودية للربوبية، لأننا، إنما كنا مسيرين، ولا توهم لنا في تخيير.. ولكننا إنما نسيناها بعد أن برزنا من الأرحام إلى حيز الوجود الخارجي، حيث أصبحنا نمارس حركات إرادية، مدت لنا في توهمنا أننا مريدون، ونستقل بإرادة.. وهذه الإرادة هي عنوان نسيان الشهادة.. قال تعالى عن الإرادة، في حديثه لداؤد، وقد سبق أن أوردناه آنفا وهو: (ياداؤد!! إنك تريد، وأريد، وإنما يكون ما أريد.. فإن سلمت لما أريد، كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لما أريد، أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد).. هذه صورة من تسليم الإرادة المتوهمة، إلى المريد الأصيل.. وهذه الإرادة هي الأمانة.. والله تعالى يقول: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل.. ان الله نعما يعظكم به، إن الله كان سميعا بصيرا).. و(العدل) هو إعطاء كل ذي حق حقه.. وعن عدم توهم الإرادة، ونحن في الأرحام، جاء قول ابن عربي:
دخلوا فقراء على الدنيا * * * وكما دخلوا، منها خرجوا

يعني: فقراء من الإرادة.. وإلى خلوة الرحم التي كان فيها الجنين يرمي الصوفية بدخولهم الخلاوي، فهم يريدون من خلواتهم أن يتمرسوا على ترك الإرادة للمريد، على نحو ما كان الجنين في الرحم.. ذلك مثلهم الأعلى، على شرط واحد، هو أن يكونوا، في تركهم للإرادة، مدركين لذلك الترك، موقنين به..