حكومة القانون لا حكومة الناس
ومن الفقرات التي تنم عن جوهر ثقافة الدكتور الترابي الغربية قوله من صفحة 3 ((وإذا كانت نظريات القانون الدستوري (الوضعي) تعرف السيادة بأنها صفة السلطة المطلقة المنفردة التي تملك صلاحية شاملة ليس لمداها من حدود ولا لصاحبها من شريك فهذه السلطة مودعة في الجمعية التأسيسية وبحكم هذه الحاكمية غير المقيدة تشكل الجمعية الفاعل المطلق ، لا تضاهيها هيئة أخرى ، ولا يراجعها رقيب ، ولا يحدها ضابط قانوني)) أما نحن فما نعرف أن مثقفاً مفكراً يمكن أن يتورط في مثل هذه الهلكة ..
ألم نقل أن الدكتور ضحية القشور التي زيفت الديمقراطية الغربية ؟ فهو تلميذ موسوليني .. فإن موسوليني قد قال ((لدى الفاشي فإن كل شئ في الدولة .. وليس هناك معنى إنساني ، أو معنى روحي .. بل وأقل من ذلك ، فليس هناك أي معنى ذا قيمة يمكن أن يكون خارج الدولة .. وبهذا المفهوم فإن الفاشية مطلقة .. والدولة بوصفها تعبيراً شاملاً عن الإرادة الأخلاقية هي الحق ، وهي صانعة الحقوق)) . هذا ما قاله موسوليني ، وأقرأ ما قاله تلميذه مرة أخرى في الفقرة الماضية ، وركز بصورة خاصة على ، ((وبحكم هذه الحاكمية غير المقيدة تشكل الجمعية الفاعل المطلق ، لا تضاهيها هيئة أخرى ، ولا يراجعها رقيب ، ولا يحدها ضابط قانوني)) ومع أن ماركس ممن زيفوا الديمقراطية فإن الدكتور ليس تلميذه إلا بالقدر الذي تشترك فيه الشيوعية مع الفاشية في صور الحكم المطلق .. وأما الوعي الزائد الذي تمتاز به الشيوعية على الفاشية فليس للدكتور مشاركة فيه .
ونحن نتساءل .. هل كان يمكن للدكتور أن يدعي للجمعية كل هذا الحق المطلق الذي يجعلها حقاً في ذاتها لو لم يكن عضواً فيها ؟؟ بل هل كان يمكن أن يدعيه لها لو كان مجرد عضو لا تنتهي إليه مقاليد الزعامة الفكرية فيها ؟؟
ومن الذي أخبر الدكتور أن هناك يمكن أن تكون سلطة ((لا يحدها ضابط قانوني)) ؟ ولكن للدكتور رأي في القانون غريب كل الغرابة !! أليس هو القائل في صفحة 21 من هذا الكتاب العجيب ((وفي غمار الزوبعة التي يثيرها الناس عن حماية الحريات الدستورية تغيب على الناس حقيقة جوهرية : تلك هي أن النص الدستوري إنما يحمي حرية التعبير والاجتماع من القيود المفروضة بالأوامر الإدارية وذلك ليضمن لها حصانة لا تضار إلا باتخاذ الإجراءات التشريعية التي تتسع فيها دائرة الشورى وتصدر عن الممثلين المباشرين للشعب بطريقة علنية تعطي مجالاً للتريث والتثبت في التقنين وتقليب وجهات النظر والجدال ثم تغليبها بحسب ما يحقق المصلحة . فالدستور يصرح بأن لجميع الأشخاص الحق في حرية التعبير عن آرائهم والحق في تأليف الجمعيات والاتحادات في حدود القانون ويمضي عقب ذلك ليقيم من مبدأ حكم القانون مبدأ عاماً يسري على كل العلاقات . والدستور نفسه في بابه الأخير يفسر القانون بأنه يشمل أي قانون أو إقرار أو أمر مؤقت تصدره سلطة مختصة كما يشمل أي أمر أو تشريع فرعي أو أية قاعدة أو لائحة أو إعلان مما يكون له قوة القانون في البلاد)) هذا ما قاله الدكتور الترابي ، وان المرء ليتملكه العجب كيف جاز مثل هذا الرأي من رجل درس القانون ، حتى ولو دراسة سطحية ؟
وواضح من الفقرة السالفة أن الدكتور الترابي لا يمانع إذا صودرت حرية التعبير والاجتماع بقانون صادر من هيئة تشريعية منتخبة ، وإنما يمانع إذا صودرت بقانون مفروض بالأوامر الإدارية .. فهو لا ينظر إلى القانون المصادر للحرية ، ولكن ينظر إلى الجهة التي عنها صدر القانون !! فالمادة (105) المشهورة يمكن أن تصدر عن الهيئة التشريعية ثم لا يكون بها بأس ، لأن البأس إنما جاءها حين فرضت بالأوامر الإدارية ..
ومن الذي أخبر الدكتور الترابي أن الدستور إنما عنى ما فهم هو من تفسير القانون الذي ورد في الباب الأخير ؟
إن أبسط من له إلمام بالثقافة القانونية يعلم أن الدستور يشترط في جميع اللوائح أن تكون دستورية ، وهذا الدكتور السنهوري يحدثنا في كتابه ((أصول القانون)) فيقول : ((التشريع أنواع متدرجة ففي القمة التشريع الدستوري ، ويليه التشريع الصادر من الهيئة التشريعية ((القانون)) ويليه التشريع الصادر من الهيئات التشريعية الفرعية ، (اللوائح والقرارات) .. فالتشريع الدستوري هو التشريع الأساسي الذي يضع نظام الدولة ، ويحدد علاقة السلطات العامة بالأفراد ، وعلاقتها بعضها بالبعض الآخر والتشريع الصادر من الهيئة الرئيسية هو كل ما يصدر من قوانين لتنظيم الروابط الاجتماعية ، ويجب أن تكون هذه القوانين خاضعة للدستور ، وفي حدود الدائرة التي رسمها لها ، فالتشريع الذي يصطدم مع المبادئ الدستورية يكون تشريعاً باطلاً))
((والتشريع الصادر من الهيئات التشريعية الفرعية هو تشريع تفصيلي يطبق التشريع الصادر من الهيئة الرئيسية بتفويض من هذه الهيئة . مثل ذلك اللوائح والمراسيم والقرارات التي تصدر من هيئات تنفيذية يفوض إليها أمر تنظيم بعض المسائل التفصيلية الواردة في التشريع الصادر من الهيئة التشريعية الرئيسية ، ويخضع التشريع الفرعي للتشريع الرئيسي خضوع التشريع الرئيسي للتشريع الأساسي ، فلا يجوز أن يصطدم التشريع الفرعي مع التشريع الرئيسي وإلا كان باطلاً)) . انتهى حديث الدكتور السنهوري وواضح منه ، ومن معطيات البداهة ، أن قول الدكتور الترابي عقب الفقرة السالفة الذكر ((وذلك يعني صراحة أن الحريات المعنية تخضع للقانون فليس للمحاكم أن تغالب بها إرادة الهيئة التشريعية ولما كانت النصوص المتعلقة بالحريات تجعل مضمونها متوقفا على القانون فالذين يزعمون بأن الحريات اكثر نصوص الدستور تحصيناً لا يفقهون ما يقولون بل هي من أضعف نصوص الدستور تحصيناً لأنها قابلة - من دون أغلب النصوص - للتقييد بواسطة القانون المعتاد)) قول ينم عن أشد الضعف في فهم معنى القانون .
ولقد ورد في الفقرة قبل الأخيرة من قول الدكتور الترابي قوله ((فالدستور يصرح بأن لجميع الأشخاص الحق في حرية التعبير عن آرائهم والحق في تأليف الجمعيات والاتحادات في حدود القانون ويمضي عقب ذلك ليقيم من مبدأ حكم القانون مبدأ عاما يسري على كل العلاقات)) وواضح أن الدكتور الترابي لا يفهم معنى حكم القانون لأنه لا ينظر إلى القانون نفسه ، وإنما ينظر إلى الهيئة التي عنها يصدر ذلك القانون كما بينا قبل قليل .
وحكم القانون كما سبقت الإشارة إليه قبل حين هو من أهم المبادئ الأساسية للديمقراطية ، وفي ظل هذا المفهوم ينبغي أن يكون أي عمل يقوم به مسئول في الحكومة منسجماً مع القانون القائم ، وهذا يستبعد أي عمل حكومي يقوم على مجرد رغبة ، أو نزوة شخصية ، وبهذا المعنى يقال غالباً عن حكم القانون أنه ((حكومة القانون لا حكومة الناس)) . ((إن لحكم القانون تراثاً بعيداً في الحضارة الغربية . ففي كتاب السياسة الشهير يعرف أرسطو القانون بأنه (العقل الذي لم يتأثر بالرغبة) ويضيف إلى ذلك قوله (إن الذي يأمر بحكم القانون قد يسوقه ذلك إلى أن يأمر بحكم الإله ، أو العقل وحده ، ولكن الذي يأمر بحكم الإنسان يضيف عنصراً من عناصر الحيوان . لأن الرغبة حيوان وحشي ، والهوى يفسد عقول الحكام حتى ولو كانوا أفضل الناس) . ومن ثم يرى أرسطو أن حكم القانون يؤدي إلى العدالة النزيهة بينما حكم الإنسان غالباً ما يكون متعسفاً وصادراً عن الهوى)).
فهناك في الثقافة الغربية الصحيحة من يقول يوجد قانون عام لا يتغير هو مصدر كل القوانين الوضعية ، وهذا القانون ليس إلا ((العقل الذي لم يتأثر بالرغبة)) ، وتحاول العقول البشرية محاكاته دائماً .
وهناك مذهب القانون الطبيعي الذي يقول ((أن هناك قانونا كامنا في طبيعة الروابط الاجتماعية ، وهو قانون ثابت ، لا يتغير لا في الزمان ، ولا في المكان ، يكشفه العقل ، ولا يوجده . هذا هو القانون الطبيعي . قانون أبدي ، سرمدي ، ككل القوانين التي تهيمن على الظواهر الطبيعية .. فكما أن العالم الطبيعي من فلك وأرض وهواء وماء وما تحويه كل هذه الأشياء خاضع لقوانين طبيعية لا تتغير ولا تتبدل ، كذلك العالم الاجتماعي يخضع لقوانين طبيعية توجهه إلى حيث هو منساق إليه . وما على العقل البشري إلا أن يتمعن في الروابط الاجتماعية فيستخلص منها هذا القانون الطبيعي ويصوغ قانونه الوضعي على مثاله ، وكلما قرب القانون الوضعي من القانون الطبيعي كان أقرب إلى الكمال)) هذا ما أورده الدكتور السنهوري في كتابه ((أصول القانون))
فنظرية ((حكومة الناس)) التي حذر منها أرسطو أخذ بها فيلسوف ((الفاشية)) الدكتاتور موسوليني ، وذلك حين قرر إطلاق الدولة ، فقال ((والدولة ، بوصفها تعبيراً شاملاً عن الإرادة الأخلاقية هي الحق ، وهي مصدر الحقوق)) فضل ضلالاً بعيداً وتبعه في ضلاله تلميذه الدكتور الترابي ، زعيم جبهة الميثاق ، وذلك حين قرر إطلاق الجمعية التأسيسية ، فقال ((وبحكم هذه الحاكمية غير المقيدة تشكل الجمعية الفاعل المطلق ، لا تضاهيها هيئة أخرى ، ولا يراجعها رقيب ، ولا يحدها ضابط قانوني))
وآراء الدكتور الترابي في مسئولية القضاء عن دستورية القوانين أو في تنفيذ القوانين التي تطبقها المحاكم ، أو في استقلال القضاء ، أو في حقوق الإنسان المضمنة في ميثاق الأمم المتحدة ، آراء ضحلة ومتهافتة ..
فهو يقول مثلاً عن التنفيذ من الصفحة نمرة 34 ((التنفيذ من حيث هو في نظام الحكم وظيفة منوطة بالجهاز الوزاري الإداري كما يدل على ذلك مضمون الفصل الرابع من الدستور المؤقت وهو الذي يحمل عنوان ((الهيئة التنفيذية)) . وسواء في ذلك تنفيذ الأحكام التي ينشئها المشرعون أو التي تقضي بها المحاكم وليس للقاضي أن يتجاوز حد النطق بالحكم إلى القيام على تنفيذه فذلك لا يستقيم مع مبدأ تمايز السلطات أو فصلها . وقد يفوض التشريع إلى القاضي أحياناً حق مراقبة التنفيذ وتنظيمه لأنه يتصل بالحكم والحقوق وقد تسعفه السلطات التنفيذية بأداة قاهرة – هي الشرطة القضائية – لتعينه على ذلك ولكن مسئولية التنفيذ في جوهرها من نصيب الحكومة ولا سيما إذا كانت الحكومة هي المحكوم عليه فالقاضي عاجز حينئذ إلا عن إعلان الحقوق)) وفي موضع لاحق من هذه الصفحة يقول الدكتور الترابي ((وتباشر الحكومة مسئولياتها التنفيذية في إطار العلاقات السياسية فهي محاسبة لدى البرلمان والرأي العام عن كل تفريط. ولها إن رأت في تنفيذ الحكم ما تضار به مصلحة عليا للبلاد أن تتوقف فيه ما دامت تتعرض بذلك للمحاسبة وتستطيع تبرير امتناعها أو لا تستطيع تبرير قيامها على التنفيذ ودستورنا المؤقت ينص صراحة على أن مسئولية مجلس الوزراء عن أعمال الحكومة التنفيذية والإدارية إنما هي أمام البرلمان)) انك حين تقرأ هذا الكلام الغريب تشعر بأن الهيئة التنفيذية تمن على القضاء بتنفيذ أحكامه .. وحين تقرأ قوله ((ولا سيما إذا كانت الحكومة هي المحكوم عليه فالقاضي عاجز حينئذ إلا عن إعلان الحقوق)) تشعر بأن الحكومة ، في تفكير الترابي ، بما هي سلطة تنفيذية تضع نفسها فوق القانون .. فالقضاء إن قضى في مصلحتها تحركت للتنفيذ ، وإن قضى ضدها عطلت التنفيذ !! أليست هي السلطة التنفيذية ؟
وأي معنى لقول الترابي ((وتباشر الحكومة مسئولياتها التنفيذية في إطار العلاقات السياسية))؟؟
وهل هناك فهم أسوأ مما تنطوي عليه هذه العبارة ((ولها إن رأت في تنفيذ الحكم ما تضار به مصلحة عليا للبلاد أن تتوقف فيه)) ؟؟
وأنت حين تقرأ للدكتور الترابي في نهاية تلك الفقرات عن التنفيذ قوله ((ودستورنا المؤقت ينص صراحة على أن مسئولية مجلس الوزراء عن أعمال الحكومة التنفيذية والإدارية إنما هي أمام البرلمان)) يخيل إليك أن سلطة مجلس الوزراء تشمل القضاء ، وأن القضاة مسئولون أمام الوزراء ، وهذا تضليل شنيع .. ثم إن الدكتور الترابي يقول ((إن العرف المعروف بالطبع أن تطبق الحكومة قرارات القضاء التزاماً بحكم القانون متى ما اتضح أنه يمثل رغبة الشعب ويحملها على ذلك ضغط الرأي العام . لكن قد تطرأ ظروف استثنائية توجب الخروج على حكم قانون أو قضاء بعينه دون خروج على المبدأ العام وذلك لأنه يصادم رغبة الشعب ويغضب الرأي العام))
إن خلط الدكتور الترابي في أمر التنفيذ إنما يجئ من ضعف ثقافته القانونية ، فإن القانون لا يسمى قانوناً إلا إذا اجتمع له التقعيد والتنفيذ .. فكل قانون دستوري يمر على الهيئة التشريعية ، ويستوفي مراحله واجراءته ، ويصبح قانوناً ، يصبح واجب التطبيق من الهيئة القضائية ، وواجب التنفيذ من الهيئة التنفيذية . . فالتنفيذ على الهيئة التنفيذية ليس عرفاً ، كما قال الدكتور الترابي ، بل واجب دستوري ، إذ الدستور .. يحدد السلطات العامة التي تتألف منها الدولة ، وهي السلطة التشريعية ، والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية ، ويبين كيف تتألف كل سلطة منها ، ويبين الأعمال التي تقوم بها ، والصلات التي بين كل سلطة وأخرى ، وعلاقة كل سلطة بالأفراد ، فالسلطة التشريعية وظيفتها سن القوانين ، والسلطة التنفيذية وظيفتها تنفيذ القوانين ، وإدارة المرافق العامة ، والسلطة القضائية وظيفتها تطبيق القوانين على الأقضية التي ترفع إليها .. فإذا جاء الدكتور الترابي ليقول لنا ((أن العرف المعروف بالطبع أن تطبق الحكومة قرارات القضاء الخ الخ)) كان ذلك خلافاً للحق وهو بادي الغرض .. فإن التنفيذ واجب محتوم دستورياً .. وقول الدكتور الترابي من تلك الفقرة ((متى ما اتضح أنه يمثل رغبة الشعب)) قول من أردأ ما قيل ، وفيه غفلة شديدة ، إذ رغبة الشعب لا تراعى في تطبيق القوانين من جانب القضاة ، وإنما تراعى في سد ثغرات التشريع من جانب الهيئة التشريعية ، ورغبة الشعب ، بخلاف ما يعتقد الدكتور الترابي ، مفروض فيها أن تكون دستورية ، وليست أمراً مبهماً يعبر عنه الرعاع في الشوارع وهم يحملون فروع الشجر ..
هل تريدون أن تسمعوا الحالقة ؟؟ فاقرأوا إذن !! ((وقد جرى عمل المحاكم السودانية على تطبيق التشريعات التي تنظم الحريات مهما بلغت القيود التي تفرضها ومن أمثلة تلك التشريعات قانون النشاط الهدام وقانون التحريض على كراهية الحكومة (أو المادة 105) وبناء على ذلك ليس من سبيل للطعن في قانون حل الحزب الشيوعي حتى إذا لم يدعمه سند تعديل دستوري .)) فان كنتم لا تصدقون أن الدكتور الترابي يقول مثل هذا الحديث، لأن عندكم فيه بقية ثقة ، فانظروا صفحة 22 من هذا الكتاب العجيب .