إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

تعلموا كيف تجهزون موتاكم

بسم الله الرحمن الرحيم
((إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا، وَالْآَخِرَةِ، وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا، فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا، وَإِثْمًا مُبِينًا))
صدق الله العظيم


المقدمة


في ضحوة الإثنين 25 ربيع الثاني 1398 هـ، الموافق 3 أبريل 1978 م انتقل إلى جوار ربه الأخ عبد الرحمن أحمد يوسف، المعروف بعبد الرحمن البوشي، أحد كبار الأخوان الجمهوريين، وذلك بعد بلاءٍ حسن في ميدان الدعوة الإسلامية الجديدة، بذل فيه ـ رغم ظروف مرضه ـ جهد طاقته، فذهب وهو قرير العين، راضٍ، بانتسابه، وانتساب جُلّ أفراد أسرته، إلى هذه الدعوة، التي تضطلع اليوم، وحدها، بالبعث الإسلامي، وبإحياء السنة، عن وعي، وجد..
وكان قد أوصى، قبل أسبوع من وفاته، بأن يجري تجهيز جثمانه، وتشييعه، ودفنه على الطريقة الجمهورية وهي على منهاج السنة النبوية الذي يتفرد الاخوان الجمهوريون، اليوم، بالتزامه في متقلبهم، ومثواهم، وفي منشطهم، ومكرههم.. وذلك في هذا الوقت الذي اندثرت فيه السنة، وشاع الجهل بها، وقلّ السالكون في طريقها، والمرشدون إليها..
وتم بحمد الله تعالى للفقيد ما أراد في خاتمة حياته العامرة، فجرى غسل جثمانه، وتكفينه، وتشييعه، والصلاة عليه، ودفنه على يدي الأستاذ محمود محمد طه، والاخوان الجمهوريين.. وصاحب تشييع الجثمان، والصلاة عليه حدث ديني عظيم، استأثر باهتمام سائر المواطنين بمدينة ود مدني، حيث ووري الفقيد الثرى بمقابرها.. وذلك هو اشتراك الأخوات الجمهوريات في تشييع الجثمان، والصلاة عليه.. فقد خرجن في موكب التشييع، يسرن، مجتمعات، منمازات، على مسافة وراء المشيعين من الرجال، بما عرف عنهن من زيّ محتشم، وسمت وقور، وهن يذكرن (الله)، مع إخوانهن الجمهوريين، باسمه تعالى المفرد.. وذلك طوال خط سير الموكب، في بعض شوارع المدينة، من ((الحي السوداني)) حتى المقابر، وقد حُمل الجثمان على أكتاف الاخوان الجمهوريين، وأقارب الفقيد، وبعض المواطنين. وكذلك اشتركت الأخوات الجمهوريات في صلاة المغرب، التي دخل وقتها قبل صلاة الجنازة، ثم اشتركن في صلاة الجنازة.. وذلك بعد أن اصطففن، مجتمعات، منمازات، على مسافة وراء المصلين..
وقد أمّ المصلين نجل الفقيد الأكبر، وهو من كبار الجمهوريين، وتم الدفن على يدي بعض الاخوان الجمهوريين، وبعض آل الفقيد، وبعض كرام المواطنين، وذلك على نحو ما هو مأثور في السنة النبوية من أحكام الجنازة. جرى كل أولئك على مرأى، ومسمع، طائفة كبيرة من مواطني المدينة وأقارب الفقيد، ووسط (ذكر) الأخوان الجمهوريين للاسم ((الله))..
غير أنه ما كادت أيام المأتم تنصرم حتى أخذ بعض خصوم دعوتنا بالمدينة يروّجون الشائعات الغريبة حول مراسيم هذه الجنازة، في محاولة مخفقة للإساءة لهذه الدعوة، وتشويهها، وتأليب العواطف الدينية عليها.. وهي إشاعات لا تنطوي على أدنى قدر من الذكاء، ولا يمكن أن تنشأ إلاّ من عقل صغير أو خيال مريض!! ومن المؤسف حقاً أن تنطلق هذه الشائعات من بعض ((رجال الدين)) بالمدينة، ومنها ما قاله أحدهم بأحد المساجد ((وقد بلغني ممن أثق فيه أن المتوفى لم يغسله الجمهوريون الغسل الشرعي، ولم يكفنوه الكفن الشرعي كما لم يصلّوا عليه صلاة الجنازة الشرعية، وأن نعشه قد حمل على عواتق البنات إلى المقابر..))!! وتدور سائر الإشاعات الأخرى على هذا النحو من السفه والاسفاف الذي لا نرى خيراً في متابعته..
هكذا بلغ خصوم هذه الدعوة، من ((رجال الدين))، هذا المبلغ في الخصومة الفاجرة.. فصار الكذب الصراح هو عدتهم وعتادهم في حربهم الخاسرة معنا، وذلك بعد فشلهم الذريع في مواجهتنا، المواجهة الفكرية الموضوعية التي تليق بالعلماء.. والكذب أسوأ أخلاق الرجال، على الاطلاق!! والكذاب ساقط المروءة، ساقط الكرامة، ضعيف الايمان ـ بل عديم الايمان.. وقد جاء في الذكر الحكيم: ((إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله، وأولئك هم الكاذبون))!! كما جاء في الأثر النبوي أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل ((أويسرق المؤمن؟ قال: قد يسرق المؤمن!! قالوا: أويزني المؤمن؟ قال: قد يزني المؤمن!! قالوا: أويكذب المؤمن؟ قال: لا!!))
ولسوف لا نتتبع، بالرد في هذا الكتاب، هذه الأكاذيب المفتراة.. فما لهذا كتبنا هذا الكتاب!! ذلك بأن هذه الشائعات لا وزن لها، ولا خطر، ولا أثر... فهي تعجز، تماماً، عن أن تحظى باهتمام أي أحد أوتي مسكة من عقل، لسبب بسيط!! هو أنه قد شهد الغسل والتكفين بعض أفراد عائلة الفقيد، ومعارفه، من غير الاخوان الجمهوريين.. كما شهد موكب التشييع والدفن طائفة كبيرة من مواطني المدينة!! فما هي قيمة هذه الشائعات الخالية من الصحة، والشهود كُثْر على الالتزام الفريد، التام، بمنهاج السنة في سائر هذه المراسيم؟؟!! فوق ذلك!! فإن جمهور هذه المدينة لهو من الوعي بحيث لا تجوز عليه مثل هذه الشائعات الساذجة التي لا تحترم عقله!! أكثر من ذلك!! فإن جمهور هذه المدينة جمهور صديق للدعوة الاسلامية الجديدة، يعرف، عن كثب، النماذج الأخلاقية التي ربتها، ويدرك، عن وعي، صدق مسعاها إلى بعث الإسلام، وإحياء السنة.. ولقد كان جمهور هذه المدينة في قامته السامقة، تماماً، حين واجه هذه الشائعات بالإغفال التام، في أغلب الأحيان، وبالاستنكار الشديد في بعض الأحيان. وبذلك كفانا جمهور هذه المدينة مؤونة التوضيح والتصحيح التي كانت ستلزمنا لو أنه كان لهذه الشائعات وزن، أو خطر، أو أثر، أو كان هذا الجمهور في مستوى السذاجة التي تصورها عليه ((المرجفون في المدينة))!!
إن هذه الشائعات الساذجة لتدل، أشد الدلالة، على ما آل إليه أمر أصحابها من رقة الدين، ونقص العلم!! وهم، للأسف الشديد، من ((رجال الدين))!!
وإنما كتبنا هذا الكتاب لسد الفجوة الواضحة التي بدت لنا في علم الناس، كافة الناس، عامتهم و((علمائهم))، بأخص شئون دينهم!! وهو العلم بجهاز الميت من غسله وتكفينه، وتشييعه، والصلاة عليه، ودفنه، ثم إقامة مأتمه، والإحداد، والصدقة عليه.. فهذه المناسبة قد أبرزت الحاجة إلى إشاعة هذا العلم أكثر من أي وقت مضى، فوقتت صدور هذا الكتاب التعليمي..
إن العلم بهذه المراسيم إنما هو من العلم النافع الذي لا غنى لأحد عنه.. لسبب بسيط!! هو أن كل فرد آيل للموت، ولا بد أن يُفْعل به ما يفعل بأي ميت من تجهيز.. فالعلم بمراسيم هذا التجهيز إنما هو علم بشأن خاص يتعلق بمصير الفرد الشخصي.. ثم إن العلم بها، في الدين، واجب ديني على كل فرد، عليه أن يؤديه، كواجب مباشر، متى اقتضت الظروف ذلك.. ثم إن اشتراك الفرد، اشتراكاً مباشراً، في هذه المراسيم التي يتم فيها ((تجهيز)) الميت لحياته الآخرة، إنما يخرج الفرد من غفلة الدنيا المستولية إلى استشعار أمر الآخرة الماثل، فيستمد من رهبة الموقف ورعاً، ومن جلاله عبرة، وهو يتصور نفسه، تصوراً ماثلاً، أنه إلى ذلك المصير صائر!!
لقد شاع الجهل بهذه الواجبات الدينية بسبب من انصراف ((رجال الدين)) عن التوعية الدينية ـ التي لم يُعدوا لها أصلاً ـ إلى المواعظ الجوفاء، وإلى الخصومات الفاجرة.. وبسبب، أيضاً، من مفهوم خاطئ، قرّ في الأذهان، بأن أداء هذه الواجبات وَقْف على طائفة معينة من الناس، هم ((رجال الدين)) الشيوخ من الرجال والنساء. حتى أن المثقف، اليوم، لا يشعر بأي نقص في ثقافته، وهو يجهل هذه الشئون، جهلاً تاماً، بل ربما صرّح، من غير تحرج، بهذا الجهل!! هذا بينما هو قد يتحرّج، أشد التحرج، إذا بدت للناس أي فجوة في ثقافته ((المدنية))!! وقد يسعى، تواً، إلى سدها، جهد الطاقة!!
والاخوان الجمهوريون، وهم يضطلعون، اليوم، وحدهم، بالنهضة الدينية، بوعي وجد، إنما يعملون، على نشر الوعي الديني، بنشر هذا الكتاب التعليمي، بين سائر أفراد الشعب، حتى تقوم هذه النهضة الدينية على وعي، وحتى لا يقع الشعب نهب التضليل باسم الدين، وحتى لا يظل العلم بالواجبات الدينية الأساسية وقفاً على طائفة خاصة من الناس.. ويتناول الفصل الأول من هذا الكتاب حقوق المرأة بين الشريعة والدين، حتى يخلص إلى مشروعية اشتراك المرأة في اتباع الجنائز، والصلاة عليها.. ويتناول الفصل الثاني أحكام ((الجنازة)) وما يتعلق بها حتى العدة، والاحداد، والمأتم، والصدقة.. ونرجو أن يسد هذا الكتاب ما بدا لنا من حاجة ملحة إلى العلم بهذه الأحكام.
وعند الله نلتمس السداد.