إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
* هل يقول الاسلام بخلود الروح ، وهل الإيمان بخلود الروح ضروري للإيمان بوجود الله ، أم العكس هو الصحيح؟
الإسلام عنده أن جميع الأشياء ، من أدقها إلى أعظمها ، جمادها ، وحيها، كل منها ، ذو شكل هرمي ، له قمة، وله قاعدة – القمة تمثل الروح ، والقاعدة تمثل الجسد – والاختلاف بين القاعدة والقمة اختلاف مقدار. والقاعدة فانية – متحركة في تطور مستمر، تطلب القمة – والقمة ليست باقية على صورة واحدة ، ولكنها متحركة ، في تطور مستمر ، تطلب نقطة مركز الوجود ، وهي الله .. فالخالد في الإسلام ليس معناه الذي لا يتغير على الإطلاق ، وإنما هو الذي يتغير، أو قل ، يفنى ببطء أكثر من الفاني ، والفاني هو الذي يتغير بسرعة سريعة .. قال تعالى ((كل من عليها فان ، ويبقى وجه ربك ، ذو الجلال ، والإكرام ..)) يبقى ، البقاء النسبي ، الوجه الذي يلي الله من الأشياء – وهو قمة هرم كل شئ – ويبقى، البقاء المطلق ، وجه الله المطلق ، وتلك الذات المطلقة.
فالإيمان بخلود الروح ، بهذه الصورة ضروري للإيمان بوجود الله ، لأن معرفته من أصول المعرفة ، فالإيمان به ، إذن ، من أصول العقيدة - والعبارة التي أوردتها ((أم العكس هو الصحيح؟)) تعني أن الإيمان بالله ضروري للإيمان بخلود الروح – وهذا بالطبع أصح من أن يكون الإيمان بخلود الروح ضروريا للإيمان بوجود الله ، ولكن الإيمان بخلود الروح أسهل على المبتدئ من الإيمان بالله ، ولذلك فهو يكون سابقا للإيمان بالله، وهو إنما كان أسهل لأن الأحلام تعينه ، وليس للأحلام بالله تعلق .. فالكبار يستدلون بوجود الله على خلقه ، والصغار يستدلون بوجود خلق الله ، على وجود الله .. والقاعدة لكليهما قوله تعالى: (( سنريهم آياتنا في الآفاق ، وفي أنفسهم ، حتى يتبين لهم أنه الحق .. أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد؟))
* هل يفصل الاسلام فصلا قاسيا بين الجسد والروح؟ إذا كانت الإجابة نعم (أ) كيف نفسر الفعل المتبادل بين الجسم والعقل (ب) ما هي النتائج الأخلاقية ، والتوحيدية ، المترتبة على هذا الفصل؟
الاسلام لا يفصل بين الأشياء الظاهرة ، المغايرة لبعضها البعض ، لأنه دين التوحيد للمظاهر المختلفة في كل واحد متناسق ، وعنده أن الاختلاف بين الجسد والروح ، هو الاختلاف الذي يكون بين القاعدة والقمة للشئ الواحد – إنما هو اختلاف مقدار ، لا اختلاف نوع – فالجسد روح في حالة من الاهتزاز تتأثر بها حواسنا – والروح مادة في حالة من الاهتزاز لا تتأثر بها حواسنا ، وعمل العبادة ، في العابد ، هو أن يرفع ذبذبة جسده الغليظ ، من كونها بطيئة ، ثقيلة ، لتصبح سريعة ، خفيفة .. ويصبح ، بذلك ، الجسد روحانيا .. وتصير الظلمة نورا ، والجهل علماً ، والقيد حرية.
* كيف يبرر الإسلام الموت؟
الموت الحسي ليس ، في حقيقته ، كما نظنه نحن الآن ، وإنما هو ميلاد في حيز غير الحيز الذي نألفه نحن ، مثله ، في ذلك ، مثل ميلاد الطفل في عالمنا هذا ، فإنه قد جاء من حيز قد عاش فيه مدة، وألفه ، واطمأن إليه ، ولم يخطر بباله حيز غيره ، ولو خير لكره الخروج عنه إلى عالمنا هذا كما يكره أحدنا أن يموت الآن .. نحن أيضا عندما نموت سنجد أنفسنا في عالم خير من عالمنا هذا ..
الموت بمعنى الفناء ليس هناك .. فبالموت يغير الحي قشرته فقط - يخرج من صدفته التي ظلت تكنه ردحا من الزمن - وهو يكره مفارقتها لجهله بخير منها - فالإنسان لا يموت ، وإنما يتخلص من القوقعة كما يتخلص أحدنا من الملابس البالية .. وتبرير الإسلام للموت أنه سير إلى الله - سير من البعد إلى القرب - وهذا لجميع الناس .. ((يأيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا، فملاقيه)) ومن ملاقاة الله الموت ، لأن به رفع الحجاب ((لقد كنت في غفلة من هذا، فكشفنا عنك غطاءك، فبصرك، اليوم، حديد)) ..
من كتاب "أسئلة وأجوبة"
البعث
هذا فصل عن البعث .. والبعث يعني اليقظة بعد النوم ، ويعني الحياة بعد الموت .. وبين النوم والموت اختلاف مقدار ، لا اختلاف نوع .. قال تعالى: ((الله يتوفى الأنفس حين موتها ، والتي لم تمت في منامها ، فيمسك التي قضى عليها الموت ، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى .. إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)) .. وعن البعث من النوم قال تعالى ، عن أهل الكهف ، الذين ضرب عليهم النوم: ((ثلاثمائة سنين)) ، قال عن بعثهم: ((وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم ، قال قائل منهم: كم لبثتم ؟؟ قالوا: لبثنا يوماً ، أو بعض يوم .. قالوا: ربكم أعلم بما لبثتم .. فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة ، فلينظر: أيها أزكى طعاماً ؟؟ فليأتكم برزق منه .. وليتلطف ولا يُشْعِرَنَّ بكم أحداً))
[…] فالبعث ، ههنا ، هو اليقظة من النوم وعن البعث الذي هو الحياة بعد الموت قال تعالى: ((لقد كنت في غفلة من هذا ، فكشفنا عنك غطاءك ، فبصرك اليوم حديد..)) ، ولقد قال في وصف حالة ما قبل هذا البعث: ((ولقد خلقنا الإنسان ، ونعلم ما توسوس به نفسه ، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد * إذ يتلقى المتلقيان ، عن اليمين ، وعن الشمال ، قعيد * ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد * وجاءت سكرة الموت بالحق ، ذلك ما كنت منه تحيد * ونفخ في الصور ، ذلك يوم الوعيد * وجاءت كل نفس ، معها سائق ، وشهيد * لقد كنت في غفلة من هذا ، فكشفنا عنك غطاءك ، فبصرك اليوم حديد)) .. وعن حالة الغفلة التي يكون منها البعث قال المعصوم: ((الناس نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا))..
فالبعث هو تيقظ الفكر ، واستيفاز الشعور ، بعد أن يكون النوم ، أو الموت ، أو الجهل .. قد أرخى عليهما أستار التبلد ، والانحلال .. […] قال تعالى: ((يأيها الناس !! إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة ، لنبين لكم ، ونقر في الأرحام ما نشاء ، إلى أجل مسمى ، ثم نخرجكم طفلا ً، ثم لتبلغوا أشدكم ، ومنكم من يتوفى ، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ، لكيلا يعلم من بعد علم شيئا .. وترى الأرض هامدة ، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت ، وربت ، وأنبتت من كل زوج بهيج)) .. هذه الأرض هي أرض الجسد .. والماء هو العلم الذي ينزل من سماء العقول الصافية على هذه الأرض فيجدد شبابها ، ويبعث فيها الحياة جديدة ، دفاقة ، جياشة بالحس المرهف ، والعاطفة الصادقة.. […]
هذا هو البعث الأعظم - بعث موتى القلوب .. وهو الموت الأعظم عند الله .. قال تعالى: ((أو من كان ميتاً فأحييناه ، وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس ، كمن مثله في الظلمات ، ليس بخارج منها ؟؟ كذلك زُيِّنَ للكافرين ما كانوا يعملون ..)) قوله: ((أو من كان ميتا)) بالجهل بالله .. ((فأحييناه)) بالعلم بالله .. يعني أو من كان ميت القلب بظلام الكفر ، فبعثنا قلبه ، وأحييناه بنور الإيمان ، كمن هو في ظلمات الجهالات يتخبط فيها على غير هدى ؟؟ وإلى غير خروج؟؟ وبعد .. فإني أحب أن يكون البعث هو على هذا النحو .. هو بعث حياة القلوب ، لأن به السلوك ، وبه السير من البعد عن الله إلى القرب من الله .. وهذا هو الحياة ..
من كتاب "القرآن ومصطفى محمود والفهم العصري"
ونحن إنما جزمنا بأن إسلام كل هؤلاء هو الإسلام الأول لأن أدنى مراتب الإسلام الأخير الخروج عن الشريعة الجماعية والدخول في الشريعة الفردية، وذلك بإتقان العمل بالشريعة الجماعية حتى يحسن الفرد التصرف في الحرية الفردية المطلقة. فالإسلام الأخير مرتبة فرديات.. والفردية لا تتحقق لأحد وهو منقسم على نفسه، فلا بد له من إعادة الوحدة إلى بنيته، فلا يكون العقل الواعي في تعارض وتضاد مع العقل الباطن، وبفض التعارض بينهما تتم سلامة القلب، وصفاء الفكر، وجمال الجسم، فتتحقق حياة الفكر، وحياة الشعور.. وهذه هي الحياة العليا .. ((وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون)) فالحيوان هنا ضد الموتان، وهي الحياة الكاملة، غير المؤوفة بالنقص، ولا بالمرض، ولا بالموت.
وإعادة الوحدة إلى البنية تعني أن الإنسان يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول.. وهذا مطلوب الإسلام، وذلك حيث يقول ((يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون؟ * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون.))